|
أيّ صورة لاحتلال العراق يُعاد تشكيلها؟
ماجد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 3100 - 2010 / 8 / 20 - 13:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل احتلال عبر التاريخ، كان يحاول الظهور بمظهر زاه، لا تشوبه شائبة الجرائم الوحشية التي يجري ارتكابها، فهذه تبررها الصورة "الرحيمة" و"العادلة" لقوى الاحتلال، لا سيما وهي تتمظهر بصورة من يسعى لفعل الخير، أو الدفاع عن حق الشعوب في مواجهة قوى الاستبداد المحلية و/أو الإقليمية. في تجاهل تام ومطلق للمصالح والمنافع الصافية التي تسعى قوى الاحتلال ومن خلفها دولتها لتحقيقها. هكذا كان الاحتلال الفرنسي ومن بعده الأميركي لجنوب شرق آسيا، كما الاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الياباني لعدد من المناطق المحاذية، كما الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ كل هذه النماذج وفي سياق تبريراتها إنما كانت تحاول الظهور بمظهر من يسعى لتشكيل أو ربما إعادة تشكيل صورة الاحتلال "الإنساني" الخالي من العيوب، في نظر نفسه ومجتمعه، كما في نظر الآخر. وهذا من عبث "الأقدار" الاستعمارية، مهما تكن صورة الاحتلال "المتجددة".
ومن سخريات الوقائع لا "الأقدار" وحدها، أن الولايات المتحدة باتت تواجه "إستراتيجية خروج" متعذّرة من العراق، بينما هي تواجه حالة إغراق في المستنقع الأفغاني، فلا ترى في "إستراتيجية خروج" ممكنة إلاّ في العام 2014، وربما جرى تمديد هذا التاريخ إلى وقت آخر، وحتى ذلك الوقت أو أي وقت آخر، ربما واجهت ذات إشكاليات الخروج المتعذر من العراق. فبحسب الغارديان البريطانية (السفير 6/8/2010) فإن واشنطن ليست في صدد إتمام انسحاباتها من مناطق أو بلاد تحتلها، بقدر ما تدفعها مصالحها الحيوية الإستراتيجية لإعادة تشكيل صورة الاحتلال، الصورة التي يراد تجميلها، بالتواطؤ مع كل أولئك الذين وقفوا ويقفون مع الاحتلال، وهو يعيد تشكيل صورة المجتمع والدولة، مجتمع ودولة الاحتلال ذاتهما، ومجتمع ودولة الشعب الخاضع للاحتلال.
إن صورة المحاصصة التي بناها الاحتلال، لاستنهاض وقيام "دولة عراقية جديدة"، جاءت أكثر من كارثية، بل هي ساهمت وإلى جانب العمليات المسلحة ذات الطابع الطائفي والمذهبي، في إغراق العراق بحرب أهلية مديدة. وفي أفغانستان باستدماج حروب متعددة داخلية؛ عرقية وأهلية وطائفية وإرهابية، هي كلها ثمرة قرار الرئيس السابق جورج بوش الإبن بالحرب على الإرهاب، تحت مسمى "عمليات طوارئ في الخارج" وهي حرب لا تختلف عن مسمى الإدارة الجديدة – إدارة أوباما – لها: "عمليات حفظ الاستقرار"! فلا هي حفظت إستقرارا، ولا هي أوقفت إرهابا، وها هي صورة الاحتلال في الخارج، تتمازج مع صورة أخرى في الداخل، حيث الأزمة الاقتصادية الراهنة تطحن فئات اجتماعية كانت ميسورة، وتخلق حالة تقشف، وتزيد من أعباء وميزانيات البطالة والضمان الاجتماعي والصحي، والعديد من تقديمات يتوجب على الدولة الرعائية القيام بأعبائها مهما تكن أوضاعها المالية.
بعد كل هذا، يجدر التساؤل: هل لدى الولايات المتحدة نوايا فعلية بترك العراق، وفق الجداول الزمنية التي حددتها؟ لا سيما وقد بنت في بغداد أضخم سفارة في العالم، إذ يقارب حجمها مدينة الفاتيكان. وفي هذا الصدد تشير الغارديان إلى سبب واحد يمكن أن يؤكد عدم خروج القوات الأميركية من العراق، وهو وجود عشرات العقود النفطية التي أبرمتها بغداد مع شركات أجنبية، من بينها ثلاث من الشركات الأميركية، رغم أن هناك من يشكّك بشرعية تلك العقود، خصوصا أنها تضع 60 بالمئة من احتياطيات العراق النفطية، تحت سيطرة الشركات الأجنبية لأجل طويل.
وهي لهذا لا تريد إعادة تشكيل صورة الاحتلال فحسب، بل إن الإدارة الأميركية الحالية تقوم بعملية خصخصة لوجودها في العراق، حددت الغارديان مظاهرها بوجود حوالي مائة ألف من المرتزقة يعملون لحساب قوات الاحتلال، من بينهم 11ألفا من المنتمين إلى ما أسمته "العالم النامي"، أعدادهم وأعداد غيرهم قابلة للزيادة. كل هذا يعني المزيد من الحضور الأميركي لا الغياب العسكري عن العراق، أو تغييب السياسة الإستراتيجية التي جاءت القوات الأميركية الغازية من أجلها، ولأجل استمرارها وتواصلها الإستراتيجي في المنطقة، إنسجاما مع عوامل الإبقاء على الهيمنة الإمبراطورية الأحادية أو شبه المشتركة، في مواجهة طموحات إمبراطورية أخرى أو طموحات إقليمية يغذيها تحدي الطموح النووي الإيراني، بالإضافة إلى موقع العراق في خريطة الصراع العربي – الإسرائيلي، إذا ما تحرر تماما من مؤثرات الاحتلال الأميركي من جهة، ومؤثرات المحاصصة المذهبية والطائفية وصراعاتها الدموية التي أنهكت قوى الداخل الوطني العراقي، وجعلتها تنكفئ إنكفاءا تاريخيا على ما يبدو ويظهر؛ من أزمات تشكيل الحكومة وغيرها من مؤسسات النظام التحاصصي، وكل هذا يُعدّ بمثابة انتحار ذاتي، من جهة ثانية.
أكثر من سبع سنوات، وصورة الاحتلال يُعاد تشكيلها، ولكن بالصورة المغايرة التي أرادتها واشنطن، فكما كانت الحرب على الإرهاب صورة فاضحة لحرب همجية متبادلة، كذلك يكون العراق عنوانا لفشل تاريخي سياسي وإستراتيجي، لم تستطع فيه واشنطن وخلال عهدين من عهود ساكني البيت الأبيض، من بلورة "صورة الفوز" في فرض حل عسكري جذري، يعيد الدولة والمجتمع العراقيين إلى جادة الصواب والانتظام كدولة حديثة، بعد عبث النظام الديكتاتوري، وورثته بفضل الاحتلال، ليس بنظام الدولة، بل وبالمجتمع الوطني وإعادة تفتيته وتركيبه في ظل النظام السابق، ومن ثم العودة إلى معزوفة التفتيت والتركيب مرة أخرى، في ظل نظام الورثة الاحتلاليين، المحمّلين بإرث تاريخي كبير من النزعات الطائفية والمذهبية، بأكثر مما احتملته أو تحتمله ظروف العراق الوطني وحتى الأهلي لعهود ما قبل الدولة الحديثة.
لهذه الأسباب وغيرها، لم يحظ العراقيون على اختلاف مكوناتهم، بتبلور حركة مقاومة وطنية، تنتظم وتنسجم وفق مهمّة مقاتلة الاحتلال، لا التواطؤ معه، والقبول المهين بعملية تحاصص؛ استفادت منها شرائح اجتماعية وطبقية، قبلت أن تتعاطى إيجابا مع الاحتلال الذي رعى ويرعى وجودها، وأنشأ لها مصالحها ومنافعها، وأدخلها حظيرة الفساد والإفساد المنظم، وبشكل يُضاد مصالح وتطلعات المكونات الأهلية العراقية على اختلافها. وبذا فإن لهذا الواقع والمعطيات السائدة فيه تحديدا، مفاعيل تمتلك مقادير كبيرة من عناصر تمنع أو تحول من دون انسحاب أميركي مهين على غرار تجربة فيتنام، بل هي تسعى لتخليق صورة نمطية مغايرة، يُعاد عبرها رسم أو تشكيل صورة لاحتلال "رحيم"، تماما كما يراد أميركيا لصورة الاحتلال الإسرائيلي أن يتشكل اليوم كاحتلال أكثر من "رحيم"، يمنح ولا يمنع إقامة "دولة فلسطينية" مقطعة الأوصال، ومنقسمة إلى دويلتين متعاديتين ومتنافستين على السلطة في كل من الضفة الغربية أو أجزاء منها ومن القدس، وفي غزة. فأي "إستراتيجية خروج" تعتمدها واشنطن، وهي تغرق في إستراتيجية توغل في تقاسم وتقسيم الشعب العراقي؟.
على كل هناك من يرى أن دروس إستراتيجية بيزنطة الكبرى، هي التي يتعين على الولايات المتحدة أن تعيد اكتشافها اليوم، فإدوارد لوتواك أحد كبار الباحثين في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، يرى أن الخلل الأكبر في طريقة إدارة أي إمبراطورية، لا سيما في مواجهة أزمة اقتصادية، دين قومي متعاظم، إلتزامات خارجية هائلة كتلك التي تواجهها الولايات المتحدة، ينبغي لها أن تكون في حاجة إلى مشورة إستراتيجية جدية، وبسرعة، حيث لم يسبق لأميركا قط أن كانت روما، ومحاولتها اعتماد إستراتيجيات الأخيرة – إستراتيجيات التوسع الذي لا يعرف الحدود، والهيمنة على الشعوب الأجنبية، والحرب الشاملة القائمة على تكسير العظام – لن تفضي إلاّ إلى التعجيل بانهيارها، من الأفضل لأميركا أن تتطلع نحو التجسيد الشرقي للامبراطورية، نحو بيزنطة التي عاشت بعد سلفها الروماني مدة ثمانية قرون.
#ماجد_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إكراهات التفاوض: -رخصة وطنية- لاستمرار احتلال مقنّع
-
رسالة المفاوضات وعنوانها المراوغ
-
نور المعرفة وحجاب السلطة
-
مازق المواطنة والهويات الانغلاقية
-
دولة -الأرض الواحدة- وأرض -الدولة الواعدة-!
-
حق الاختلاف ومحنة المعنى
-
الفلسطيني إنسانا.. قضية القضايا
-
بين -يهودية الدولة- وبقرة الاستيطان المقدسة!
-
استعصاءات التسوية والتوجهات الليكودية و-شرعية- التمثيل الفلس
...
-
حدود الدور الإقليمي التركي.. وأوهامنا
-
مأزق الحقوق الفلسطينية وأزمة القيادة التاريخية
-
ممكنات -اللاحل- التفاوضي واستحالاته!
-
الدوران الأوروبي حول عنق زجاجة الأزمة
-
قلق مصيري غائب ورضا سكوني خائب
-
دولة تنتجها المفاوضات باختلالاتها لن تكون دولة فلسطينية
-
تعافي الاقتصاد من باب العودة إلى السياسة
-
نحو مقاربة تعريفية جديدة للقضية الفلسطينية
-
في الطبائع المتلونة للاستبداد الآسيوي
-
ابتذالات الانقسام الفلسطيني وأضراره الانحطاطية
-
اليونان.. نموذجا وضحية أولى للأزمة
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|