|
جدل الهوية: اللغة في التعليم الأكاديمي
أحمد جميل حمودي
الحوار المتمدن-العدد: 3100 - 2010 / 8 / 20 - 10:12
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
في إحدى البرامج التلفزيونية أرجع عالم الاجتماع البحريني باقر النجار أسباب تخلف التعليم العربي إلى ضعف تعليم اللغات الأجنبية. وفي الواقع فإن هناك جدلاً واسع الطرح حول مشروعية التعليم باللغات الأجنبية ومدى علاقتها بالهوية القومية والتقدم العلمي للأمم. فالمتابع يجد أن هذا الجدل لم ينتهي بخلاص أو توافق مجتمعي وثقافي حول أيهما أولى الحفاظ على اللغة الأم وتطويرها وجعلها مواكبة للغة العلم أم جعل هذه اللغة قاصرة على المناهج اللغوية والأدبية والدينية وتدريس العلوم خاصة الطبيعية باللغة الانجليزية؟
والسؤال بداية هل الدعوى إلى التعلم باللغات الأجنبية له علاقة بأزمة الهوية أم لأن التخلف المدني والحضاري الذي يعيشه العالم العربي له الدور الأكبر... فحسب قانون ابن خلدون اللغوي: " إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم". بينما هناك شواهد من التاريخ تدلل أن اللغة فعلاً كانت المميز بين الشعوب. فمثلاً ميز اليونانيون أنفسهم عن البربر لأن البربر شعب لا يتحدث اليونانية، واستخدم اليهود في الأندلس اللغة العبرية، بوصفها وسيلة تحفظ طقوسهم الدينية، بينما استخدم الأطباء اليهود في بولندا مصطلحات طبية عربية بدل اللاتينية التي كان يستخدمها الأطباء المسيحيون، ولعل في هذا السياق نذكر كيف أن إسرائيل أحيت اللغة العبرية من موات!. كل هذا يفسر سعي هؤلاء إلى التميز الإثني والديني والى الحفاظ على الهوية. فالهوية "مفهوم ذو دلالة لغوية، وفلسفية، واجتماعية، وثقافية، ولفظ (هوية) مشتق من أصل لاتيني Sameness ويعني الشيء نفسه بما يجعله مبنياً لما يمكن أن يكون عليه شيء آخر ويميزه عنه. كما يتضمن مفهوم الهوية الإحساس بالانتماء القومي، والديني، والإثني". ولعل توضيح جدلية اللغة والهوية هو ما ذهب إليه جون جوزيف، أستاذ علم اللغة التطبيقي Applied Linguistics في جامعة ادنبرة، الذي يخلص في دراسته المثيرة " اللغة والهوية" إلى حقيقة أن هناك تفاعلاً وثيقاً بين اللغة والهوية إلى حدّ يصعب فيه الفصل بينهما.
ومما يدلل على أن تعزيز اللغة القومية أو الإقليمية بات الديدن الذي يتجه إليه العالم المعاصر، الظواهر التالية: • تنامي نزعة التكتل اللغوي من أجل مواجهة الهيمنة الطاغية للغة الإنجليزية مثل "الفرانكفونية" و "الاسبافونية" وتحالف اللغات "الاسكندنافية"، ومحاولات الكومنولوث الروسي إحياء التحالف اللغوي الذي أطاح به تفكك الاتحاد السوفييتي السابق.
• ظهور حركات اصلاح لغوي نشطة من أبرزها ما قامت به ألمانيا والنمسا وسويسرا في العام 1996 بإنشاء لجنة مشتركة لإدخال إصلاح موحد على الألمانية لتصمد أمام المنافسة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وقد حدثني أحد أصدقائي الذين يدرسون في ألمانيا ما يؤكد هذا، وأن اللغة الالمانية باتت لغة علم، فرغم تفوق الإسبانية عليها من حيث الانتشار فإن هناك ما يؤكد تفوق الألمانية على الإسبانية كلغة علم، حسب رأي صديقي. ولكن هذا لا يعني تراجع اللغة الاسبانية، فمما يحزن أن إسبانيا تترجم من وإلى الإسبانية أكثر من العالم العربي مجتمعاً!
• جهود متعددة لكسر الحواجز اللغوية التي تفصل اللغة القومية عن لغات العالم السائدة، كمسعى اليابان المتمثل في اهتمامها الشديد بأمور الترجمة الآلية من اليابانية وإليها.
• قيام كثير من البلدان بإنشاء معاهد بحوث متخصصة في علاقة لغاتها القومية مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وفي الوقت الذي نجد القلق المتزايد من قبل بلدان العالم المتقدم على لغاتها المحلية من خطر الاستقطاب اللغوي، خاصة اللغة الإنجليزية، نجد أن معظم جامعاتنا العربية متمسكة بتعليم العلوم باللغة الإنجليزية، بل إننا نشهد ما يمكن أن يسمى بـ " الردة اللغوية" فها هي بعض جامعات دول الخليج تعلم العلوم الاجتماعية والاقتصادية باللغات الاجنبية!. وأمثال هذا النكوص في عالمنا العربي كثير... ما يذكرني ثانية بمقولة ابن خلدون الشهيرة " إن المغلوب مولع بتقليد الغالب".
إن اللغة وعاء الثقافة، ولن أنسى مقولة أستاذتي الجامعية حين قالت يوما " إن أي لغة لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها الثقافي". ولعل هذا ما يدعمه من الدراسات كشواهد مدعمة لرؤية ضرورة التعليم باللغات القومية ( اللغة الأم) منها: • ما أورده تقرير التنمية الانسانية العربية 2004، أن الانتاج العلمي، ممثلا بعدد براءات الاختراع لكل مليون فرد، يزيد في الدول التي تعلم العلم بلغاتها القومية عن تلك الدول التي تعلم العلم باللغات الأجنبية.
• ما ذكرته بعض التقارير من تفوق الأطباء السوريين، حيث الطب هناك يدرّس باللغة العربية، في إمتحانات التأهل للدراسات العليا في الجامعات الأوربية والأمريكية على أقرانهم العرب ممن تلقوا الطب باللغة الأجنبية ( الإنجليزية أو الفرنسية).
في الواقع إن الحديث عن هموم اللغة حديث ذو شجون تتفرع أفانينه ومشكلاته... ولكن السؤال ما هو البديل؟ إذا كان التفوق العلمي والثقافي للأمم مرتبط بتعزيز لغات الأم، في الوقت الذي نعيش في ظل هيمنة اللغة الإنجليزية كلغة علم بالدرجة الأولى فما هو البديل فعلاً؟ إن الإجابة عن السؤال أو وضع السيناريوهات المستقبلية البديلة يحتاج لدراسات ودراسات ولعل هناك دراسات عالجت الظاهرة بأبعادها اللغوية والسياسية والاجتماعية...
لكن بكل بساطة إن البديل هو تطوير اللغة العربية وجعلها مرنة في مواجهة المستحدثات والمستجدات العلمية والتقنية في مقابل الاعتناء باللغات الأجنبية كلغة ثانية إلى جانب اللغة العربية كلغة اتصال ولغة علم أيضاً. وكما يقول نبيل علي " إن العربية بين فكيّ رحى، بين عولمة تُمارس عليها ضغوطاً هائلة تفرض عليها أقصى درجات المرونة وسرعة الاستجابة للمتغيرات العالمية، وبين فصيل من الفكر الأصولي المتجمد يعوق تقدمها تحت دعاوى مضللة ومفاهيم خاطئة للحفاظ على الطهارة اللغوية والأصالة الفكرية".
المراجع: - جون جوزيف: اللغة والهوية- قومية إثنية دينية، ترجمة عبد النور خراقي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 342، 2007. - نبيل علي ونادية حجازي: الفجوة الرقمية- رؤية عربية لمجتمع المعرفة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 318، 2005.
#أحمد_جميل_حمودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرية الأكاديمية ورياح التغيير
-
السياسة التعليمية في ماليزيا
-
انها الضربة الحاسمة لاسرائيل على ايران
-
تقرير التنمية الانسانية العربية,2009: راديكالية تحت الرماد (
...
-
ترويض النمور: كيف خرج النمو القائم على التصدير لاقتصادات آسي
...
-
النموذج الماليزي للتنمية: خطوات محددة ورؤية واضحة
-
ذهنية التحريم من عصر الحرملك الى عصر الانترنت
-
في نادرة من نوادر الحكام العرب, حسني مبارك يكتب -كيف نحقق سل
...
-
مدخل الى الأنسنية
-
السلطة والجنسانية في الشرق الأوسط
-
انطولوجيا
-
أسئلة وجودي؟
-
الطفل التوحدي بين مسؤولية الدولة وتقبل المجتمع
-
ادارة المعرفة في المؤسسات التعليمية
-
الخيال العلمي كمدخل تعليمي
-
هابرماس: من نقد الماركسية إلى نقد ما بعد الحداثة
-
قبل ان تحين ساعة الصفر
-
هل هناك امكانية لسعادة الانسان من دون الدين؟
-
مدرسة فرانكفورت: شعلة اليسار الجديد
-
باولو فريري: من معاقل الثّورة إلى معاقل التّعليم
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|