تقي الوزان
الحوار المتمدن-العدد: 3093 - 2010 / 8 / 13 - 17:13
المحور:
سيرة ذاتية
في الحرب العراقية الإيرانية , استحدثت طرق على طول البلاد وعرضها , وبالذات المناطق الشرقية منها . ووجد طريق على طول الهضبة الواسعة التي تربط بين خانقين ومندلي , لم تشقه آلية وكان مستويا , وآثار العجلات واضحة بين المدينتين ولا تحتاج إلى علامات مرورية مرشدة . ورغم عرض الطريق الذي يقدر بعشرات الكيلومترات , إلا أن شاحنتين حوضيتين كبيرتين تسع الواحدة لثلاثة آلاف غالون , اصطدمتا الواحدة يالاخرى , وجها لوجه , فمن يصدق هذا ؟! وقتل السائقان , ولا احد عرف , أو فهم أسباب وقوع الحادث , رغم قدوم خبراء عسكريين, وآخرين من شرطة المرور .
ذكرت هذه الحادثة التي مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما لرزاق , الذي ثار, واخذ يتحدث بسرعة وعصبية جعلته يدغم الكثير من الحروف كلما ازداد في التوضيح ... وختم كلامه , وكأنه يوبخني , أو ليجبرني على الانحياز له : هذا عريف جبير ؟ أخاف ما تعرفه . رزاق ترك الجامعة وهو في الصف المنتهي من كلية الهندسة , وترك خطيبته وأهله بعد أن اشتد الضغط في الحملة الدموية التي نضمها البعث على الشيوعيين عام 1979 , والتحق منذ البدء بالتجمعات الأولى للأنصار في كردستان . حاله حال الكثير من الشباب الشيوعيين الذين تركوا كل شئ ورائهم ليخوضوا لجة النضال المسلح ضد أشرس نظام دموي عرفه التاريخ , وهم مثقلون بالقلق على عوائلهم التي سيتم الانتقام منها نتيجة اختفاء أبنائهم . كانوا يفتقدون للتجربة , ويجدون صعوبة في التكيف مع ظروف طبيعة قاسية , لا يملكون السلاح , وقد يكون الفصيل الواحد لا يملك إلا بندقية قديمة واحدة , وفي اغلب الأحيان يعتمدون على وعورة المناطق التي يسكنوها , ومن الصعوبة الوصول أليهم. لا يملكون المال , وغذائهم لفترات طويلة اقتصر على الخبز والشاي فقط , القواعد الأولى ثبتت راية الأنصار الشيوعيين من الصفر , وهم لا يملكون غير شبابهم وإيمانهم العميق بعدالة قضيتهم . كانت استعادتهم لرفع راية حزبهم من بين كل ذلك الركام , وبسرعة قياسية , حتى أخذت إذاعات وصحف ومجلات عالمية تنقل أخبار نشاطاتهم, ما منحهم الثقة العالية بالنفس , والجرأة باتخاذ أصعب القرارات .
أصبح رزاق آمر مفرزة قتالية , بعد أن استقرت وضعية الأنصار , وأصبح لديها مقرات للهياكل التنظيمية الكبيرة مثل القاطع والفوج , وقام بمهمات استطلاعية كثيرة عندما كانت الأولوية لعمليات الاستطلاع , ومعرفة ظروف الريف الكردستاني وقراه . وبعد التحاق الكثير من الرفاق الأكراد , اخذ الاستطلاع والعمليات العسكرية تأخذ مديات اكبر داخل المحافظات وباقي مدن الإقليم , وبالذات محافظتي السليمانية واربيل . كان الحزب حذرا جدا من العمليات العسكرية العشوائية , ويشدد على العمليات النوعية , أي إن سهولة نجاح العملية ليس كافيا للقيام بها إذ لم تحقق هدفا نوعيا . كان الحزب شديد الحذر من أن يسقط قتلى وجرحى من الجنود الذين لا ذنب لهم في وجودهم في هذه الربايا العسكرية , والجنود يعرفون ذلك جيدا عن مفارز الشيوعيين . ومن خلال التجربة , عرفنا ان اغلب هؤلاء الجنود هم من المغضوب عليهم من قبل النظام , وبعضهم من ابناء عوائل رفاقنا , قذف بهم لهذه الأماكن الخطرة أو إلى السواتر الأمامية لخط الجبهة مع إيران للتخلص منهم , وبعضهم من اغتيل بطلقة في الرأس من الخلف مثلما حدث مع الشهيد حسان , الابن الوحيد للرفيق ثابت حبيب العاني عضو لمكتب السياسي للحزب .
وهنا تجدر الإشارة أيضا , إلى ان الحزب رغم انه منح المعارضة الكردستانية الصفة الوطنية العامة , إلا انه كان محكوما بوجود الحزبين الكرديين الكبيرين , الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة الطلباني , والديمقراطي الكردستاني برئاسة البرزاني . وكانت جريمة بشتاشان العربون الذي قدمه الاتحاد الوطني للتقرب من النظام الصدامي , توضح التواجد القلق الذي يعتمد على مصادر القوة , وليس على الثوابت الوطنية المتعارف عليها .
كانت الهيئة القيادية لأية وحدة عسكرية لاتقل عن ثلاثة أشخاص , وبعض الأحيان أكثر , الأول سياسي والآخر عسكري ثم الإداري , ويبقى الكلام الفصل للمستشار السياسي , وكان هذا سببا لحدوث بعض الإشكالات. فقد كانت تصطدم رغبات الاستبسال لتوسيع رقعة مساحة التأثير العسكري لهؤلاء الأبطال بالتحفظ الكبير للحزب من سقوط قتلى أبرياء. كانت تجربة الجوع, والحرمان, والسهر الطويل , و السير في الليل والاختفاء بين الأحراش في النهار , أو الانتظار في غرفة ليوم أو يوميين , ولدغات الأفاعي والعقارب , والسير بين الربايا والمعسكرات , وغيرها من المخاطر قد جلّد هؤلاء الأبطال , وجعل جرأة البعض منهم اقرب إلى الجنون , وكان رزاق من بين هؤلاء المجانين .
عند استقرار المقرات للهيئات القيادية , وعادة ما يكون فيها مستشفى , ومكتبة , ومدرسة للدورات الحزبية , وقاعة للمحاضرات والمسرح , مخازن للسلاح , والأرزاق , وفي المقر الرئيسي للحزب , إذاعة , إصدار صحيفة الحزب , وصحيفة الأنصار , وكراس مناضل الحزب . وتشرف على المقر سرية يكون عملها الأساس إداري , وبرزت إمكانيات إدارية جيدة , وبجانبها إمكانيات جيدة أيضا ولكن لبعض الرفاق الذين يتخفون في ظل العمل الإداري, ويمهدون لإيجاد مساحات ينشطون فيها دون غيرهم , وجبار من بينهم . كان يؤثر البقاء في المقر على خطورة المفارز وعملها المرهق, كان خدوما , ويلبي رغبات كافة الرفاق , ليس حبا بالجميع , بقدر ما يخاف الإشارة إلى تقربه للمسئولين . جبار كان يعتقد ان نقل أي شئ عن الرفاق – وليس الوضع الأمني والاخلاقي فقط - لمسئوله الحزبي من صلب العمل النضالي , ومن ( حسن ) حظه ان مسئوله عمق عنده هذا الاتجاه , ولهذا سمي عريف جبير كما ذكر رزاق . وعلى عكس جبير , ولكن في نفس ( الخانة ) , كان بعض الرفاق عندما أعيدت التنظيمات بعد إزاحة صدام , كانوا لا يواجهون آخرين عادوا إلى التنظيم أيضا بحقيقتهم كونهم تلوثت شخصياتهم بالتعامل مع الأمن , خوفا من المقاضاة العشائرية والانتقام منهم . مما سبب الإرباك لبعض الوقت , والى ان تم تعديل الأمور .
جبار لكونه من الأنصار فقط , يتحدث بلغة الجنرال مع الرفاق الذين لم يذهبوا إلى كردستان ولم يشاركوا في حرب الأنصار . كان يعتقد , ويحاول إقناع الآخرين أيضا , بان استمرار وجوده في التنظيم يعطيه الأولوية في التفاضل على الآخرين. وبعد نقاش , واخذ ورد , حول توقع نتائج الانتخابات الأخيرة , وتأكيد جبار : على إن الحزب سيحصل على الأقل على أربعة أو خمسة مقاعد في البرلمان . وقلق رزاق الذي انعكس بقوله : والله خايف حتى أبو داود ما يفوز .
انتفض جبار وبتحدي : ليش هو كل واحد يكَدر يواصل الطريق ويه الحزب ؟! مما لاشك فيه ان الحزب يمنح الذي يعمل في التنظيم طاقة إضافية , وزخم تضامني , يستغله - بتشوه - من لا يستطيع الاعتماد على ذاته في تحقيق شخصية اجتماعية سياسية كفوءة . والكلام عن جبار , وليس عن الذين استرخصوا الحياة في سبيل الحزب , مثل سعدون وكامل شياع وباقي الشيوعيين الحقيقيين, رغم كل الانتكاسات والخسارات .
رزاق كان يعمل في احد معامل الخشب في مدينة ليست كبيرة تقع في جنوب الوسط السويدي لعدة سنوات , كان الشيوعي الوحيد وسط مجموعة عوائل عراقية, اغلبها من الوسط الإسلامي , وتعرض للكثير من الاتهام بالإلحاد, لأنه لا يصلي ولا يشارك في المناسبات الدينية . ودخل معهم في حوارات طويلة , ورغم اعتزازهم بأمانته وصدقه , إلا إنهم لم يعاملوه بالروابط التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد . كان واحدا من ثلاثة عراقيين فقط يعملون , والآخرين على المساعدة الاجتماعية , وحضى باحترام السويديين أيضا , خاصة وانه يمتلك لغة جيدة , وكثيرا ما يساعد الآخرين في الترجمة . كانت الغربة مضاعفة لديه , والغربة مع أبناء جلدته الأكثر مرارة . وأخيرا تمكن من الحصول على عمل في مدينة قريبة من مالمو , المدينة الرئيسية في جنوب السويد الذي يوجد فيه أكثر من ثلاثمائة شيوعي عراقي , وعندهم منظمة للحزب , وجبار احد أعضائها .
حاول ان يعيد الصلة بالتنظيم , ولكنه لم يتمكن , ليس لخلافات فكرية او سياسية كما يدعي البعض عن صدق , أو , لتبرير التهرب وهم الأكثر, وليس لترسب أثار الخسارات السياسية المتتالية وانعكاسها بعدم الجدوى من مواصلة التنظيم, او شعوره بالخسارة المادية بعد أن أمضى أجمل سنوات عمره في النضال ولم يحصل على شئ . ولكنه قال ببساطة ووضوح : انه لم يعد بأمكانه الالتزام داخل اطر تنظيمية محددة . أي يطلب ( التقاعد ) , مثل عدة حالات يقرها الحزب , كما يقر باقي الأسباب المعقولة , بما فيها الخلافات في تقدير الأمور , والتي فتح مجالات واسعة لمناقشتها , وطرح للجميع البرنامج السياسي والنظام الداخلي للحزب للمناقشة العلنية قبل مؤتمره الوطني الثامن الاخير.
إلا أن " الذي تحت إبطه عنز , يبغج " كما يقول المثل العراقي , وجبار تحت ابطه أكثر من عنز . تراخت نظرات رزاق عندما سألته : وماذا يعمل الحزب مع جبار ؟! ابتسم بشحوب , وسرعان ما تجمدت نظراته بشعاع اختزن بطياته السنين, والأيام , والساعات والدقائق , التي صاغت نبل تجربة الأنصار , وكتبت للشيوعيين تاريخ عنفوانها الذي ستفتخر به أجيال العراقيين بعد أن تستقر الأمور , حتى ولو بعد حين . ورغم معرفته الدقيقة لشخصية جبار , إلا ان كلماته كانت أكثر إيلاما من طعن السكين , ومرقت في ذاكرته حادثة لا تقل عنها إيلاما , عندما لم يتمكن قبل عدة سنوات من حضور محاضرة للرفيق أبو داود في مدينة لوند القريبة من مالمو , وقدم من مدينته البعيدة في اليوم الثاني , وأراد مقابلة الرفيق سكرتير الحزب لعشرة دقائق فقط , لأمر محدد . إلا ان مسئول المنظمة اعتذر بسبب ( مشغولية ) الرفيق .
هناك الكثير من تبادل الإساءات التي رافقت المسيرة المتعثرة , ولأسباب في اغلبها لا علاقة لها بالحزب , وكان لجلد الذات سواء على المستوى الشخصي او الحزبي ما عمق الكثير من الجراح , وبالذات بعد ان حوكمت المرحلة السابقة لانهيار التجربة الاشتراكية وأنظمتها , بموازين ما بعدها . ووسط هذه الأجواء الملبدة , وجدت ضألت جبار متنفسا لعبقريتها , وأرادت أن تحلق عاليا دون أن تعرف الطيران . وعندما أعاد رزاق سؤاله بنفاذ صبر : عريف جويبر تعرفه ؟ لو ما تعرفه ؟! أجبته بمرارة , ان جبار لا يختلف عن احد سواق الشاحنتين الحوضيتين بين مندلي وخانقين , فهو سيقتل نفسه , ويقتل المقابل , ويحطم الشاحنة .
#تقي_الوزان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟