|
اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر (الجزء الثاني)
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 3088 - 2010 / 8 / 8 - 21:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أجراه: وائل عبد الرحيم بالعودة الى التاريخ قليلاً، كان الشيوعيون في العراق يُذبحون، وكانت أحزابٌ عربيّةٌ شقيقة في الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وفي منظّمة التحرير الفلسطينيّة تقيم علاقاتٍ على مستوى القيادة مع حزب البعث العراقيّ.
ـ كلامك صحيح. والأحزاب اليساريّة التي تنسج علاقة اليوم مع النظم القمعيّة تفعل ذلك على حساب صدقيّة مواقفها وعلى حساب هويّتها. هي في النهاية تبيع روحها. ومن أجل ماذا؟ لا شيء تقريبًا، سوى حفنةٍ من الدولارات وترخيصٍ بفتح مكاتب تحت رقابةٍ مخابراتيّة شديدة.
أليس الأمر أنّ مَن ادّعوْا تجذيرَ الحركة الشيوعيّة بعد سنة 1967، وانتقدوا موقفَ الأحزاب الشيوعيّة من القضيّة القوميّة، غَلّبوا القوميّةَ على قضايا الناس وعلى موضوع التغيير الاجتماعيّ، فتحالفوا مع الأنظمة البورجوازيّة القوميّة؟
ـ كانت لدى معظم أحزاب اليسار بعد سنة 1967علاقاتٌ بهذه الأنظمة. خُذ النظامَ البعثيّ العراقيّ على سبيل المثال: لقد كان نظامَ بطشٍ وسفحٍ رهيبيْن، وجاء إلى الحكم عن طريق الانقلاب سنة 1968 (وبالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة) لإنقاذ الدولة البرجوازيّة في العراق من الإطاحة. وقد تمّ ذلك بسحق الخطر الشيوعيّ الذي تَهدَّد تلك الدولةَ، وتمثّل في جناح "القيادة المركزيّة" في الحزب الشيوعيّ العراقيّ وبؤرة الكفاح المسلح بقيادة خالد أحمد زكي. وما لبث أنْ سُحق جناحُ الحزب الآخر، اليمينيّ والسوفياتيّ، بعد مرحلة من التعاون القذر مع السلطة البعثيّة. صحيح أنّ النظام حاول أن يَفرضَ نفسَه على الساحة العربيّة ببعض المزايدة القومجيّة اللفظيّة، لكنّ هذه لم تمنعْه على سبيل المثال من دعم النظام الأردنيّ في تصفية المقاومة الفلسطينيّة في أيلول 1970، وذلك بمنع نظام 23 شباط السوريّ من مدّ يد العون إليها. ثم شنّ حربًا على الأكراد أفضت به إلى عقد اتفاقٍ مشينٍ مع شاه إيران، وما لبث أن شنّ حربًا كارثيّةً على الجمهوريّة الإسلاميّة (بعد انتصار الثورة الإيرانيّة) وبتشجيعٍ أمريكيّ.
ترى إذًا أنّ دخولَ بعض فصائل اليسار، الفلسطينيّ خاصّةً، في علاقةٍ بنظام بغداد لم يدلّ في الواقع على تغليب الوجهة القوميّة كما ذكرتَ، بل كان نفيًا كاملاً للبعد القوميّ. فالتنظيمات المعنيّة لم تنْظرْ إلى غير مصلحتها القُطْريّة الضيّقة، فرأت أنها تستطيع أن تستفيدَ من علاقتها بنظامٍ قمعيٍّ في بلدٍ آخر. ولو كان فعلاً لدى تلك الأحزاب منظورٌ قوميّ، بمعنى إدراك تلازم النضالات في كافّة الساحات القُطْريّة العربيّة، لا بمعنى الإيديولوجيا القوميّةِ طبعًا، وبمعنى رفع الوعي إلى مستوى مهمّة التوحيد القوميّ العربيّ التي ينبغي أن تكون مهمّةً رئيسيّةً في برنامج أيّ حركةٍ جذريّةٍ في العالم العربيّ، لما قامت ببناء علاقةٍ بنظامٍ على شاكلة حكم بغداد. العلّة إذًا ليست في المنظور القوميّ، بل في المنظور القُطْريّ. خُذ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بوصفها فصيلاً رئيسيّاً من فصائل "اليسار الجديد" في آخر الستينيّات، وهي فصيلٌ نتج من تجذّرٍ و"تمركسٍ" في حركةٍ قوميّةٍ برجوازيّةٍ صغيرة، لكنه فصيلٌ حَسِبَ أنّ تمركسَه يقضي بالغاء هويّته القوميّة الأوّلية، والتركيزِِ على الساحة الفلسطينيّة بشكلٍ مطلق (طبعًا تحوّلتْ بعضُ فصائل "حركة القوميين العرب" إلى منظّماتٍ حملت اسمَ "حزب العمل الاشتراكيّ العربيّ" في ساحاتٍ عربيّةٍ شتّى، لكنها بقيتْ هزيلةً). هذا المنطق لخّصه جورج حبش بشعار "الحركة في خدمة الجبهة، وليست الجبهة في خدمة الحركة" ــ وهذا منطقٌ قُطْريٌّ خالص، يؤدّي إلى تحويل "الحركة" إلى ذيلٍ للجبهة، مثلما تحوّلت الحركةُ الشيوعيّة من أمميّةِ أحزابٍ متساويةٍ في تصدّيها لمهامّ ثوريّة، كلٍّ في بلده، إلى أذنابٍ للاتحاد السوفياتيّ. فالمنطق القُطْريّ هو الغالب عندما يَعتبر اليسارُ الفلسطينيُّ أنّ مصلحته الضيّقة في التعامل مع الأنظمة أوْلى من واجبه الثوريّ في التعاون مع القوى الوطنيّة الديموقراطيّة الجذريّة.
ولكنْ هنالك اختلاف. فالقول بأنّ الأحزاب الشيوعيّة، بنموذجها السوفياتيّ، نادت بالدفاع غير المشروط عن الاتحاد السوفياتيّ، شيء، والحديثُ عن فصيلٍ معيّنٍ ومقاتلٍ وعلى تماسٍّ مباشرٍ مع المؤسّسة العسكريّة والاستيطانيّة والكولونياليّة الإسرائيليّة شيءٌ آخر؛ فهذا قد يُفهم تجسيدًا عمليّاً لشعار "تحرير فلسطين."
ـ هذا ليس اختلافًا في واقع الأمر. فقد كان يُنظر إلى الاتحاد السوفياتيّ أيضًا على أنه فصيلٌ مقاتلٌ من أجل إزالة الرأسماليّة العالمية؛ فألغى مفهومَ "الثورة العالميّة" واستبدله بشعار "الاشتراكيّة في بلدٍ واحد،" وحَوّل أداةَ الثورة العالميّة في نظره ـ أي الأمميّة الشيوعيّة ـ إلى حركة تضامنٍ لامشروطٍ مع دولته، فكيّفت الأحزابُ الشيوعيّةُ في مختلف البلدان سياساتِها وفقاً لعلاقات الدولة السوفياتيّة بحكومات بلدانها. كلُّ ذلك يجعل التشبيهَ الذي أتيتُ على ذكره مشروعًا، مع أخذ الفروق الأكيدة في عين الاعتبار. أقصدُ أنّ الفصيل الفلسطينيّ المقاتل للصهيونيّة غلّب مصالحَه القُطْريّة على مفهوم "الثورة العربيّة،" وذَوّب الثورةَ العربيّة في الثورة الفلسطينيّة، مثلما ذُوّبت الثورةُ العالميّة في دعم "الاشتراكيّة" (أي الستالينيّة) في الاتحاد السوفياتيّ. والنتيجة أنّ المنطقَ القُطْريّ، الذي يقضي بتغليب المصلحة الآنيّة الضيّقة للفصيل الفلسطينيّ على أيّ اعتبارٍ آخر، يتيح له أن يتلقّى الدعمَ المادّيّ من بعض الأنظمة، ويساهم لقاءَ هذا الدعم في سعي هذه الأخيرة إلى أن تضفي على نفسها (زورًا) شرعيّةً وطنيّةً وقوميّة. أما إذا كان الفصيلُ يَعتبر أنّ نضاله يندرج في مهمّة بناء الحركة الثوريّة على صعيد المنطقة العربيّة بأسرها، ويَعتبر أنّ ثمة تشابكًا بين مصالح العمل الثوريّ في كلّ قطر، فإنّ الأمور تصبح عظيمة الاختلاف: فعندها، سيُخضع الفصيلُ موقفَه من كلّ ساحةٍ من الساحات الأخرى لموقف المناضلين الثوريين داخل تلك الساحة.
لن ندخل الآن في موضوع منظمة التحرير وفصائلها وموضوع الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، أو موضوعِ الجبهة الشعبيّة التي كان لها موقفٌ ومشاركةٌ في الأردن عام 1970 وفي الحرب اللبنانيّة. لكنني أريد التوقف عند ما ذكرتَه من أنّ أحد أبرز أسباب تعثّر اليسار العربيّ هو تغليبُه المصلحةَ القطْريّة على القوميّة.
ـ يُبنى اليسار ارتكازًا على الأدوات التي تكون صالحةً في خدمة إستراتيجيّته. والسؤال إذًا هو: كيف تكون الإستراتيجيّة اليساريّة في المنطقة العربيّة؟ إذا نظرنا إلى جميع الأنظمة العربيّة القائمة في السبعينيّات (باستثناء اليمن الجنوبيّ)، نراها جميعًا متناقضةً على حدٍّ سواء مع قيام حركةٍ جماهيريّةٍ ثوريّة. ولا يجوز بالتالي أن يراهن أيُّ فصيلٍ ثوريّ على الأنظمة العربيّة، بل ينبغي أن يكون رهانُه حصرًا على الحركة اليساريّة الثوريّة في كلّ بلدٍ عربيّ.
أضفْ الى ذلك بندًا أساسيّاً آخرَ من بنود أيّة إستراتيجيّةٍ ثوريّة، ألا وهو تشخيصُ الجبهة المعادية. فنحن نجد أنّ التوحيد العربيّ مهمّةٌ أساسيّةٌ من مهامّ الثورة العربية. الثورة، بأعمق معاني الكلمة، ليست فشّةَ خلق، بل منعطفٌ تاريخيٌّ يؤدّي إلى تحرير القوى المنتجة من البنى الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعوِّق تطوّرها. والحال أنّ تطوّر القوى المنتِجة العربيّة لا يصطدم بالطبيعة الطبقيّة لكلّ دولةٍ عربيّةٍ فقط، ولا بالهيمنة الإمبرياليّة على السوق العالميّة وحسب، بل يصطدم أيضًا وبالدرجة الأولى بتفتيت المنطقة العربيّة إلى أقطارٍ منفصلة، يرتبط كلٌّ منها بالاقتصاد الإمبرياليّ أكثرَ بكثيرٍ من ارتباطها بعضِها ببعض. نحن في عصر تشكُّل الوحدات الاقتصاديّة الكبيرةّ. وأتذكّر قبل بضع سنوات سائقَ سيّارة نقل عموميّ على طريق بيروت ـ دمشق، كان يعاني (مع سائر الركّاب) التعقيداتِ البيروقراطيّةَ التي تطيل مدّة اجتياز الحدود بين البلدين: لقد كان يشتكي من كون الأوروبيين الذين يتحدّثون لغاتٍ عديدة قد توحّدوا، أما نحن العرب الذين نتداول جميعًا لغةً واحدةً فلا زالت الحواجزُ قائمةً بين دولنا.
إنّ الموجة القوميّة العارمة التي عرفتْها الخمسينيّاتُ والستينيّاتُ لا تزال كامنةً، وإنّ إعادة إحيائها ممكنة تمامًا في حال وجود أطرافٍ قادرةٍ على تجسيدها في نظر الجماهير. المعلوم أنّ مفهوم "الأمميّة" عند ماركس ليس مفهومًا أخلاقيّاً بل مبنيٌّ على تحليلٍ لطبيعة النظام الرأسماليّ كنمط إنتاجٍ عالميّ في جوهره، وللتضامن المحتوم بين الطبقات الرأسماليّة العالميّة في وجه الحركة العمّاليّة العالميّة، ومن ثم لوحدة مصالح هذه الحركة. وتؤدّي كلُّ هذه المعطيات الى أن يتنافى مفهومُ "الأمميّة" مع قيام أيّ فصيلٍ عمّاليّ بعلاقة مع الحكومة البرجوازيّة في بلدٍ آخر (طبعًا، يختلف الأمر في حال تسلّمِ فصيلٍ عمّاليّ زمامَ السلطة في بلدٍ ما، فلا بدّ عندها من التمييز بين العلاقات الدبلوماسيّة التي تقيمها الدولةُ الثوريّة والعلاقاتِ النضاليّة التي يقيمها الحزبُ الثوريّ)؛ فكم بالأحرى أن تصحّ القاعدة على الصعيد العربيّ الذي هو أكثرُ تداخلاً من الصعيد الأمميّ! والمصالحُ التي ينبغي أن يُبنى اليسارُ على أساسها هي مصالحُ الكادحين في كافّة الدول العربيّة، والعلاقةُ التي يجب أن تُبنى هي العلاقةُ الأفقيّة بين فصائل الحركة الثوريّة العاملة في صفوف الطبقات الكادحة على نطاق المنطقة العربيّة بأسْرها، لا العلاقة بين فصائلَ تدّعي تمثيلَ مصالح الكادحين وبين حكومةٍ تُشْرف على استغلالهم وقمعهم.
في السابق تمّ تمريرُ (أو تبريرُ) مثل هذه العلاقات بشعار "التحالف الجبهويّ العريض" الذي يضمّ، إلى ممثّلي الطبقة العاملة، القوى البرجوازيّةَ الصغيرةَ "الثوريّة." هذا الشعار ربّما خنق الحركةَ الشيوعيّة بالأمس، وجعلها تابعةً وذيليّة. أفلا يهدِّد مثلُه اليوم بخنق الأجنّة والمشروع، ولا سيّما حينما يتمّ الحديثُ مجدّدًا عن مقولةٍ مثل "التناقض الرئيسيّ والتناقض الثانويّ" وتغليبِ الأول على الثاني؟ فمثلاً، إذا وُجد فصيلٌ كحزب الله يقاتل إسرائيل ولكنه يتناقض مع أهداف اليسار الأخرى، فهل نغلّب "التناقضَ الرئيسيّ" على "التناقض الثانويّ" هنا أيضًا؟
ـ هذا المنطق سطحيٌّ وخاطئ. لا يوجد تناقضٌ "رئيسيّ" وآخر "ثانويّ" بحيث يتحوّل الثاني إلى علاقة صداقة! والحقّ أنّ حالات المراهنة على "التناقض الثانويّ" في وجه "الرئيسيّ" غالبًا ما انتهت بقيام النقيض "الثانويّ" بطعن الحليف في الظهر لدى عقده صفقةَ مع النقيض "الرئيسيّ"؛ ومسارُ حرب لبنان في مرحلتها الأولى خيرُ شاهدٍ على ما أقول. كما إنّ وحدة مصالح الكادحين على امتداد المنطقة العربيّة ليست مسألة تحالفٍ جبهويّ، بل وحدةٌ عضويّة، ويجب أن تتجسّد بارتباطاتٍ عضويّةٍ للحركة الثوريّة على الصعيد العربيّ. وينبغي أن تقوم هذه الارتباطاتُ على أساس العلاقة المتساوية بين أطرافٍ تنظّم الكفاحَ الطبقيَّ والمجهودَ الثوريَّ في بلدانها، لا على أساس ارتباط كلّ فصيلٍ بالحكومات المنافسة لحكومة بلده! أمّا القول بأنّ "الأنظمة القوميّة تمثّل البرجوازيّة الصغيرة" فيتغاضى عن نقطةٍ أساسيّةٍ، وهي أنها لم تكن قطّ حكوماتٍ تعبّر حقّاً عن مصالح البرجوازيّة الصغيرة أو الطبقات الوسطى، بل تغْلب فيها مصلحةُ الجهاز "الأمنيّ" على أيّة مصلحةٍ أخرى.
لكنّ هنالك أيضًا حركاتٍ شعبيّةً مثل حماس وحزب الله، وهذه تقاتل إسرائيل!
ـ نعم، وهاتان الحركتان من طبيعةٍ برجوازيّةٍ صغيرةٍ حقّاً، وتختلفان عن حالة الأنظمة التي تحدّثتُ عنها. إنهما حركتان تجسّدان الصراعَ ضدّ الدولة الصهيونيّة، لكنْ بأفقٍ اجتماعيّ وإيديولوجيّ سلفيّ يشكّل بذاته أفصحَ تعبيرٍ عن الارتداد العميق الذي أصاب الساحةَ العربيّة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. طبعًا، لا حماس ولا حزبُ الله يدّعيان اليسار، ولا عاقلَ يصنّفهما في خانة اليسار، بل هما قوّتان حاملتان لإيديولوجيّةٍ دينيّةٍ مناقضةٍ لكلّ ما يمثّله اليسارُ في المجال الاجتماعيّ والثقافيّ، وإنْ كانتا أيضًا وبالتأكيد قوّتان وطنيّتان بمعنى معاداتهما للصهيونيّة ومعارضتهما للمشروع الإمبرياليّ. وفي ما يتعلّق بـ "حماس" تحديدًا، فإنّ للتصنيف الأخير حدودًا جليّة، لأنّها ذاتُ علاقة أيضًا بالمملكة السعوديّة، المحميّةِ الإمبرياليّةِ الأساسيّةِ في العالم العربيّ بعد الدولة الصهيونيّة، بل قبلها؛ وينطبق على "حماس" بالتالي ما انطبق على حركة "فتح" في الماضي للسبب ذاته. وعلى الرغم من أنّ ارتهان "فتح" بالمملكة كان أكبرَ من ارتهان "حماس،" إلاّ أنّ إيديولوجيّتها كانت أقلَّ رجعيّةً بكثيرٍ من إيديولوجيّة الأخيرة.
لكنّ سؤالي هو: هل يجوز لليسار أن يبقى ملتحقًا بمثل هذين الطرفين (حزب الله وحماس)؟
ـ هناك فرقٌ أساسيٌّ بين علاقة اليسار بالأنظمة القمعيّة، وعلاقتِه بالقوى المقاتلة: فهذه تجتذب الجماهير تأطيرًا لنضالها، أما تلك فتلجمها منعًا لنضالها. أرى، على سبيل المثال، أنه من المشروع لفصيلٍ يساريٍّ في لبنان أن يكون على علاقةٍ بحزب الله، لكنني لا أرى أنه من المشروع لليسار في لبنان أن تكون له علاقة بالنظام الإيرانيّ. النظام الإيرانيّ نظامٌ رأسماليّ وديكتاتوريّةٌ دينيّة، يعمل بوحيٍ من مصالحه الطبقيّة والفئويّة. أما حزبُ الله، فبالرغم من ارتباطه بالدولة الإيرانيّة، إلاّ أنه يمثّل بالدرجة الأولى زخمًا شعبيّاً في لبنان، وبات درعَ طائفةٍ هي أحدُ المكوّنات الأساسيّة للمجتمع اللبنانيّ، وبالتالي فهو حامٍ للوطن أجمع. المسألة هنا ليست مشروعيّة العلاقة في ذاتها (وأنا أراها مشروعةً تمامًا) بل مسألة شروطها وكيفيّتها: كيف تكون العلاقةُ بأطرٍ دينيّةٍ مشاركةٍ في كفاحٍ وطنيّ؟ الشرط الرئيسيّ هنا هو أن تكون العلاقةُ من موقع الاستقلال التامّ، مع ممارسة الصراع الإيديولوجيّ ضدّ الطرف المعنيّ وإنْ كان حليفًا في الكفاح الوطنيّ. وبالطبع يرتبط ذلك بضرورة قيام اليسار بواجبه الثوريّ (المقاوِم بشتّى الوسائل) من دون تقصير، كي يَظهر في نظر الجماهير بمظهر الطرف الأكثر تعارضًا مع الوضع القائمِ المطلوب تغييرُه.
فلنتحدّثْ عن نموذجٍ فعليّ. اليسار الفلسطينيّ مثلاً لم يقم بواجبه في التصدّي الإيديولوجيّ لتيّار "حماس" بصورةٍ ثابتةٍ وصارمة. وإذا عدنا إلى الانتفاضة الاولى في العام 1988، فقد كان زخمُ اليسار أقوى بدرجاتٍ من زخم "حماس" التي كانت في بداية نشوئها. وقد لعبت الفصائلُ اليساريّة، كالجبهة الشعبيّة وغيرها، دورًا أساسيّاً في تنظيم الانتفاضة. لكنّ أمرين أدّيا إلى اضمحلال اليسار في الساحة الفلسطينيّة. أوّلُهما عدمُ تصدّيه الصارم للقيادة اليمينيّة لمنظمة التحرير، وقبولُه بقيام هذه القيادة باحتواء الانتفاضة، ولاسيّما من خلال مصادرة قرار قيادات الداخل وبثّ البيانات من تونس، فتخلّى اليسارُ بذلك عن موقع القوّة الذي تمكّن من أن يبنيَه في الأراضي المحتلّة سنة 1967. وثانيهما هو عندما بدأ التصادمُ مجدّدًا مع اليمين الفلسطينيّ بعد اختياره المراهنةَ على واشنطن، فتحالف اليسارُ الفلسطينيّ مع "حماس" تحت رعايةٍ سوريّةٍ، متخلّيًا عن الصراع الإيديولوجيّ. فعلى سبيل المثال، صَدرتْ في دمشق بياناتٌ مشتركةٌ عن الفصائل العشرة للمعارضة الفلسطينيّة كانت تبدأ بالبسملة، مع أنها حَملتْ تواقيعَ فصائل تَعتبر نفسَها ماركسيّة (طبعًا هذا مجرّدُ عارضٍ رمزيٍّ من عوارض التقصير في واجب الصراع الإيديولوجيّ. ) وهكذا تُركت للتيّار الدينيّ مهمّةُ النقد الصارم للقيادة الفلسطينيّة ولسطوتها على المؤسّسات الوطنيّة، ففَرضتْ "حماس" نفسَها بديلاً جذريّاً للقيادة العرفاتيّة، في حين ظهر موقفُ اليسار متذبذبًا متراوحًا بين التعبير عن الامتعاض الشديد من اليمين العرفاتيّ والالتحاقِ به باسم "الوحدة الوطنيّة." هذا الأمر قضى على الزخم الذي كان يمكن أن يوظّفه اليسارُ في تحوّله إلى قيادةٍ بديلةٍ للكفاح الفلسطينيّ، وسمح لحركة حماس بأن تستقطبَ بنفسها النقمةَ الجماهيريّةَ على قيادة منظّمة التحرير.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنكار المحرقة... وإنكار النكبة
-
اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر
-
النكبة المحدقة وكيفية مواجهتها
-
وراء أزمة غزة : مقابلة مع جلبير الأشقر
-
الاستشراق معكوسا: تيارات ما بعد العام 1979في الدراسات الإسلا
...
-
-الولايات المتحدة الأمريكية تزرع بذور مأساة طويلة المدة-
-
أزمة لبنان لم تنته بعد
-
حوار حول الوضع في العراق:الولايات المتحدة الامريكية والانهيا
...
-
الولايات المتحدة: الانهيار العراقي
-
لبنان: المطامع الامبريالية في محك الواقع
-
المطامع الإمبريالية الأميركية سفينة قيد الغرق
-
الحرب في لبنان
-
إسرائيل تتخذ شعبا بكامله رهينة
-
العدوان المزدوج على فلسطين ولبنان
-
إخفاق المشروع التنويري في المنطقة العربية وشروط استنهاضه
-
همجية - الرسالة المتمدنة
-
الانطباعات الأولى حول فوز -حركة حماس- الانتخابي
-
إحتلال العراق في سياسة واشنطن الإمبراطورية الراهنة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|