لطفي حاتم
الحوار المتمدن-العدد: 937 - 2004 / 8 / 26 - 13:11
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أثار انهيار ازدواجية خيار التطور الاجتماعي ,وسيادة وحدانية التطور الرأسمالي الكثير من الإشكالات الفكرية/السياسية التنظيمية للأحزاب الشيوعية واليسارية/ الديمقراطية الراغبة في بناء عالم تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية وموازنة المصالح الدولية.
إن الإشكالات الفكرية/ السياسية التي تواجه اليسار الماركسي تتبدى في التعقيدات التي تتسع دائرتها يوما بعد آخر بسبب الهجوم الأيديولوجي المرافق للمرحلة الجديدة من تطور الرأسمالية المعولمة من جهة ,وغياب المنظومة الفكرية المضادة التي يتحرك في إطارها نضال اليسار الماركسي من جهة أخرى .
ورغم محاولات الكثير من المفكرين الماركسيين الهادفة إلى تفسير وترصين
التطورات الدولية الجديدة على قاعدة فكرية معلله , إلا أن تداخل وتشابك العلاقات الدولية / الوطنية وما نتج عنها من إصطفافات اجتماعيه/ دولية جديدة وغياب ملامح بناء المستقبل الاشتراكي تشترط مواصلة البحث والتجديد وصولا إلى تحديد وبناء
الآليات القادرة على مواجهة الطور الجديد من التوسع الرأسمالي.
تفكك الأممية الثالثة
وأزمة الفكر الاشتراكي
أدى انهيار دول الاشتراكية الفعلية إلى تفكك المنظومة الفكرية
للأممية الثالثة وماأنتجه ذلك من إختلالات عميقة في سياسة الأحزاب الماركسية والشيوعية. ولغرض رصد تلك التأثيرات نتوقف عند الموضوعات الفكرية التي شكلت المرتكزات الأساسية لبناء الأممية الثالثة والتي أصبحت تمثل مرحلة تاريخية كبيرة من مراحل تطور الفكر الإنساني الهادف إلى تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية
والتي يمكن تأشيرها بـ : ــ
ــ أدى تفكك موضوعة الروافد الثلاث للحركة الثورية العالمية, بمعنى التلاحم الفكري ـ السياسي ( بين الدول الاشتراكية والطبقة العاملة الأوربية ,وحركة التحرر الوطني العالمية إلى تراجع سياسة التضامن الأممية والعودة إلى إنكفاءات وطنيه ,وترابطات قوميه .
ــ أفضى تفكك المنظومة الفكرية التي أنتجتها الأممية الثالثة والتي تطورت مضامينها في خضم الصراعات مع الإمبريالية مثل ــ الاستقلال والتحرر الوطني , التنمية الوطنية المستقلة , حرية الشعوب في تقرير مصيرها ,حرية خيار التطور الاجتماعي......الخ ــ إلى تصدعات عميقة في البناء الفكري /السياسي للأحزاب الشيوعية والتي يمكن رؤيتها بانهيار منظومة كاملة من الأفكار والبرامج بدأ بانهيار مفهوم الثورة الوطنية ـ الديمقراطية وما رافقه من تفكك برامج الحد الأدنى والحد الأعلى للثورة وما تبعه من ضياع مفاهيم المرحلة الانتقالية , وديكتاتورية الطبقة العاملة , وقيادة الحزب للدولة والمجتمع باعتباره [ ملهما ومنظما ] . وتزداد اللوحة تعقيدا إذا أضفنا إليها الغموض النظري الذي يعرقل بناء السياسة الوطنية للحزب اليساري .
ــ إن التأثيرات الفكرية/ السياسية التي افرزها الانهيار الكبير ألقت بظلالها الكئيبة على الحركة الشيوعية العالمية ,حيث أنتجت تلك الأزمة تيارين كبيرين في الحركة الشيوعية يمكن تحديدها بـ :ــ
أولا: ـ تيار يتمثل بانتقال الأحزاب الشيوعية في بلدان الاشتراكية المهزومة إلى مواقع الاشتراكية الديمقراطية , حيث اقترن التحول الجديد بتبني موضوعات فكرية مثل ــ الديمقراطية السياسية , التداول السلمي للسلطة , حقوق الإنسان ــ متخليا
بذلك عن مفاهيم ماركسية/ لينينية بشأن الثورة الاشتراكية , وأهمية استلام السلطة واحتكارها والكثير من القضايا المتعلقة بالبناء الاشتراكي . وفي هذا الاتجاه لابد من الإشارة إلى أن البرامج الوطنية لهذا التيار تدعو إلى الدفاع عن المصالح الوطنية لبلادها والحفاظ على المنجزات الاجتماعية التي حققتها الاشتراكية وتحاول بعض الأحزاب الشيوعية إنتاج أيديولوجية وطنيه تكون أساسا لتطور بلادها .( 1 )
إن التحول المشار إليه اقترن بظاهرة أخرى تجسدت في انتقال أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الاتحاد الأوربي إلى مواقع الرأسمالية اللبرالية متخلية بذلك عن الكثير من إنجازاتها الوطنية ـ الاجتماعية .
ثانيا : ــ تيار يمكن تسميته بتيار المحافظين الذي لازال يتجاهل التغيرات الجديدة المتسمة بتدويل علاقات الإنتاج الرأسمالية واحتكار القوة العسكرية ويصر على اعتماد التراث السياسي والبناء النظري للأممية الثالثة .
إن الانقسام الكبير في الحركة الشيوعية في الظروف التاريخية الملموسة والتي فرضته عمليات انتقال الرأسمالية من مرحلتها الاحتكارية إلى الطور الجديد من التوسع الرأسمالي المتسم بعولمة علاقات الإنتاج الرأسمالية يتماثل في العديد من مواضيعه الفكرية ـ الديمقراطية , سلمية التناقضات الطبقية , التعدديةـ
مع المواضيع الفكرية /السياسية التي طرحتها الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في الأممية الثانية أبان انتقال الرأسمالية من مرحلة المنافسة الحرة إلى مرحلتها الاحتكارية .
إن الإشارة إلى النتائج الفكرية/السياسية التي افرزها الانهيار الكبير تكتمل عند فحص تأثيراتها على الأحزاب اليسارية والشيوعية في البلدان العربية.
من المفيد التذكير إلى أن الحركة الاشتراكية في البلدان العربية نشأت وتطورت بفعل مصادر فكرية/ سياسية خارجية وتفاعلات وطنية يتصدرها : ــ
1 : ــ الشحنة الثورية والإنسانية المناهضة للهيمنة الإمبريالية التي فجرتها ثورة أكتوبر الاشتراكية.
2 : ــ المضامين الاجتماعية والتوازنات القومية التي ارتكز عليها البناء الجديد للدولة السوفتية .
3 : ــ تعرف العديد من المثقفين العرب على الفكر الماركسي الذي اغتنى لاحقا بالفكر اللينيني والتجربة البلشفية .
4: ــ إن التأثيرات الخارجية المشار إليها ترابطت مع تفاعلات وطنيه / سياسية / اقتصادية وطموحات شعبية ترمي إلى تحقيق حياة إنسانيه لائقة للمواطن العربي . وقد تعززت هذه الطموحات الإنسانية العامة على قاعدة النضال الوطني
المضاد للهيمنة الرأسمالية وما حملته من إلحاق وإفقار وتهميش للقوى الطبقية الحاملة للتطور الاجتماعي وقتذاك .
إن التأكيد على التأثيرات الفكرية ـ السياسية الخارجية على مراحل النشأة والتكوين لليسار الاشتراكي لا يتطابق كليا والموضوعة القائلة بان ظهور الأحزاب الشيوعية جاء نتيجة لعوامل موضوعيه يتصدرها ظهور الحامل الاجتماعي للفكر الاشتراكي
ممثلا بالطبقة العاملة في البلدان العربية .
استنادا إلى حداثة وضعف الكتلة التاريخية الحاملة للفكر الاشتراكي نحاول التعرف على سمات المنظومة الفكرية/ السياسية التي تحركت في إطارها الأحزاب الثورية العربية مؤشرين بذات الوقت موضوعاتها الخارجية .
ــ ركزت الأحزاب الماركسية في برامجها الوطنية على قيام سلطة الطبقة العاملة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى متحصنة ببرنامج الحدين الأدنى والأعلى الذي حددت أطره السياسية والتنظيمية التجربة البلشفية .
ــ قادت الموضوعات الفكرية والمفاهيم السياسية الخاصة بالثورة الوطنية /الديمقراطية إلى عزل اليسار الشيوعي وحصره في صناديق نظرية أدت إلى انحسار تأثيراته الفعلية في الحياة الاجتماعية والسياسية خاصة في الطور الثاني من حركة التحرر الوطني العربية .
ــ لم يتمكن العديد من الأحزاب الشيوعية العربية من صياغة أدوات فكرية ومفاهيم نظرية تستجيب لطبيعة التشكيلات الوطنية وتحديد سير تطور القوى الاجتماعية الفاعلة فيها ورصد تفاعلاتها في الظروف التاريخية الملموسة, وما نتج عن ذلك من عزل النضال السياسي عن النشاط الفكري .
ــ تمحور النشاط الفكري للعديد من الكتاب الماركسيين حول مسائل البناء الاشتراكي وتأكيد الموضوعات الفكرية الساندة له. وقد لوحظ أن الإجتهاد النظري الذي قام بها عدد من الباحثين الماركسيين ارتكز على استخدام المنهج الماركسي في دراسة التاريخ العربي ولم يرتق إلى مستوى دراسة أفاق تطور التشكيلة الوطنية
المعاصرة وموقعها في شبكة العلاقات الدولية .
تلخيصا يمكن القول إن كفاح الأحزاب الشيوعية واليسارية كان كفاحا وطنيا / ديمقراطيا ساهم في صياغة الإنجازات السياسية ـ الاقتصادية في المرحلة الأولى من حركة التحرر الوطني العربية , إلا أن القوى الفعلية الاجتماعية ـ الفكرية المحركة لذلك النضال إنحسرت تأثيراتها لأسباب عديدة جرى استعراض بعضها إضافة إلى شراسة الإرهاب السلطوي الممارس ضد اليسار الماركسي .
اليسار الجديد ومنظومته السياسية
بعد هذه اللمحة السريعة لتأثيرات الإنهيار الكبير على الحركة الاشتراكية واليسارية يواجهنا السؤال التالي : ما هي السمات الفعلية لخطاب التيار الجديد في الحركة الشيوعية (2 ).
الإجابة على التساؤل المذكور تتحدد على ضوء معرفة المنهج النظري الذي أطر التحليلات الفكرية/السياسية لهذا التيار والذي يمكن تحديد سماته المنهجية بالملاحظات التالية : ــ
ــ انحسار التحليل الاجتماعي المرتكز على صراع المصالح في التشكيلة الوطنية,وغياب التحديد الواضح لطبيعة القوى الاجتماعية الجديدة الماسكة بالسلطة السياسية. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن هذا الضعف في التحليل تتضاعف تأثيراته السلبية في بلداننا العربية التي تشهد تطورات وتفاعلات في تراكيبها الاجتماعية المتمثلة بنمو وتطور طبقات كمبورادورية جديدة ذات نزعات كسموبولوتية.
ــ غياب التحليل الماركسي النقدي لطبيعة الطور الجديد من التوسع الرأسمالي ,فضلا عن الأخذ بالعديد من المفاهيم النظرية التي تروج لها الرأسمالية الليبرالية دون صياغة بدائل فكرية مناهضة ترتكز على صيانة المصالح الأساسية لشعوب الدول الوطنية
ــ تحويل السياسة إلى نهج براغماتي وإخضاعها لمتطلبات اللحظة الراهن ناهيك عن تغليب الشعار السياسي على التحليل الاستراتيجي ( 3 ). بهدف تزكية الملاحظات النقدية المارة الذكر نحاول تحليل إحدى الموضوعات المتداولة في الخطاب السياسي للتيار الجديد في الحركة الشيوعية والمتمثلة بالتداول السلمي للسلطة السياسية , وفحصه بمنهجية ماركسية ليتسنى لنا معرفة ملامح الهوية الفكرية لليسار الجديد .
إن مفهوم التداول السلمي للسلطة السياسية يرتبط بمحددات فكريه ـ سياسية تتجلى بـ :ــ
ــ الإقرار بوحدانية التطور الرأسمالي الراهن وما يفرضه ذلك من إدماج البلاد في شبكة العلاقات الرأسمالية الدولية , وهنا نشير إلى أن اليسار الجديد لم يحدد حتى اللحظة الراهنة مفهومه لطبيعة دولة العدالة الاجتماعية المنوي تحقيقها في حال استلامه السلطة السياسية .
ــ تتحدد المواقع السياسية للطبقات والفئات الاجتماعية من السلطة السياسية على ضوء الشرعية الانتخابية.
ــ سلمية الصراع الاجتماعي ,واستبعاد العنف في حل الخلافات السياسية والتناقضات الاجتماعية .
إن التحليل المشار إليه لمفهوم التداول السلمي للسلطة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الأخذ بمفاهيم جديدة تتعارض وموضوعات أساسية في الفكر الماركسي ومنها : ــ
أولا : ـ الإقرار بالتعددية الطبقية والعمل في إطار الشرعية البرجوازية . وهذا الواقع يشترط التخلي عن مفاهيم نظريه مثل المرحلة الانتقالية وبنائها الفكري /السياسي .حيث أن مآل التناقضات الطبقية لا يؤدي إلى نفي طبقة اجتماعية واستبدالها بأخرى . بكلام آخر إن الصراعات الاجتماعية تشترط الوحدة والتعارض وتستبعد التناقضات التناحرية
ثانيا : ــ استبعاد الثورة الاشتراكية وتكتيكها العنفي واستبدالها بالتغيرات الاجتماعية التدريجية المشروطة بأشكال مشروعه لحل الصراعات الاجتماعية .
بعد تحليلنا لإحدى الموضوعات االمركزية في الفكر السياسي لليسار الديمقراطي يواجهنا السؤال التالي : هل لازال الحزب الثوري بمواصفاته اللنينية محتفظا بطابعه( كهيئةأركان) للطبقة العاملة؟.
إن الاجابة تتطلب الوقوف عند بعض الموضوعات التي أراها ضرورية ومنها: ــ
1 : ــ إن موضوعة الوصول للسلطة والاحتفاظ بها انطلاقا من تداولها تشترط توسيع القاعدة الاجتماعية للحزب اليساري وذلك استنادا إلى تحليل طبيعة التوسع الرأسمالي ونتائجه المتمثلة بإفقار وتهميش العديد من الطبقات والشرائح الاجتماعية . بمعنى أخر إن الانقسامات الاجتماعية في الدول الوطنية تتطور على قاعدة الاستقطاب الرأسمالي ,وما ينتج عنه من أكثرية شعبية معدمة وأقلية كمبورادورية مترفة.
إن توسيع القاعدة الاجتماعية للأحزاب الشيوعية تفضي إلى تمثيل مصالح هذه الكتل الشعبية ببرامج وطنية عامة وما يشترطه ذلك من الابتعاد عن البرامج الطبقية الضيقة والتي حجمت الفعالية السياسية للأحزاب الثورية في حقبة المعسكرين .
2 : ــ تجديد الموقف من الدولة الوطنية والدفاع عنهاباعتبارها الأداة الأساسية في الدفاع عن المصالح الوطنية والتصدي لعمليات التهميش المتمثل بتنامي ازدواجية الهيمنة الوطنية/الدولية على أنشطتها الاقتصادية ـ السياسية وتنمية مواقعها ـ الدولة ـ في العلاقات الدولية التي تتبلور اتجاهات تطورها انطلاقا من توازنات مصالح الكتل الاقتصادية ـ السياسية المتنافسة .
3: ــ الدفاع عن الدولة الوطنية وبناء سلطة ديمقراطية يشترط تجديد الفعاليات التنظيمية / السياسية الضامنة لمشاركة الكتل الاجتماعية في الكفاح السياسي ـ الاقتصادي المعادي لنهج احتكار السلطة ونهج التبعية والتغريب .
بهذه المواصفات يبقى الحزب اليساري الديمقراطي أداة تعبئه جماهيرية مدافعا عن مصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية الواسعة المتضررة من النهج الجديد للرأسمالية الليبرالية.
الهوامش
1: ــ يدعو غينادي زيوغانوف زعيم الحزب الشيوعي في روسيا
الاتحادية الى بناء [أيديولوجية وطنيه] تدافع عن مصالح روسيا
انظر غينادي زيوغانوف روسيا والعالم المعاصر صفحه 18 دار الطليعة الجديدة ترجمة عدنان جاموس .
2 : ــ لازال مفهوم اليسار الجديد مفهوما ملتبسا بسبب عدم اكتمال النهج الفكري ــ السياسي للعديد من فصائله الناشطة.
3 : ــ ادى انهيار موضوعة التضامن الأممي الى إنكفاءات وطنية وترابطات قومية , وما نتج عن ذلك من اعتماد بعض الأحزاب الشيوعية على مبدأ ( البراغماتية الوطنية )المعافاة في التعامل مع الدول بغض النظر عن شكل نظامها السياسي
انظر غينادي زيوغانوف : روسيا والعالم مصدر سابق .
#لطفي_حاتم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟