|
ظاهرة -بافيت وجيتس..- في معناها الحقيقي!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3087 - 2010 / 8 / 7 - 15:00
المحور:
الادارة و الاقتصاد
الثري قديماً، وفي الولايات المتحدة، مثلاً، وبصفة كونها مركز النظام الرأسمالي العالمي، كان يسمَّى "مليونيراً"، أو يُوْصَف بأنَّه "مليونير"، فإنَّ قيمة ثروته الشخصية، أي أمواله الثابتة والمنقولة، ما كانت تتعدَّى ملايين من الدولارات، وإنْ كانت القوَّة الشرائية للدولار أكبر وأعظم؛ أمَّا الآن فالثري، أو الذي ينتمي إلى فئة كبار الأثرياء، هو "الملياردير"، أي الذي قيمة ثروته الشخصية (وثروة عائلته) تتجازو قليلاً، أو كثيراً، أو كثيراً جداً، ألف مليون دولار؛ وإلى هذه الفئة من كبار الأثرياء ينتمي مؤسِّس شركة "مايكروسوفت" بيل جيتس، وقيمة ثروته الشخصية 53 مليار دولار، والمستثمِر وورين بافيت، و"عملاق الطاقة" تي. بون بيكينز، و"عملاق الإعلام" تيد تيرنر.
أكثر من عشرين ثريَّاً من هؤلاء (الأثرياء الكبار) تعهدوا بـ "التبرُّع" بخمسين في المئة (على الأقل) من ثرواتهم الطائلة لـ "الأعمال الخيرية"؛ وهُمْ الآن يقودون حملة (بقيادة بافيت وجيتس) تسمَّى "التعهُّد بالعطاء" لإقناع المئات من أمثالهم (في الولايات المتحدة) بالتبرُّع بمعظم ثرواتهم وهُمْ على قيد الحياة، أو بعد وفاتهم؛ ويزعمون أنَّ حملتهم تلقى استجابة قوية وواسعة، وأنَّ بعض "المُقتنعين" قرَّروا أن "يتبرعوا" بأكثر كثيراً من خمسين في المئة من ثرواتهم (لأعمال الخير).
ما المعنى الاقتصادي التاريخي لهذه الظاهرة (الرأسمالية) الجديدة، والتي نراها فحسب في البلدان التي فيها يتركَّز التقدُّم الرأسمالي بأوجهه كافة؟
الرأسمالي، في عهد الرأسمالية التي عَنُفَت فيها، واشتدت، المنافسة الاقتصادية، كان مضطَّراً (أي تضطَّره القوانين الموضوعية للمنافسة الاقتصادية) إلى أن يكون "متقشِّفاً"، و"بخيلاً"، و"غير مُحبٍّ للتبرُّع بمالٍ لأعمال خيرية"، فمعظم ربحه كان ينبغي له أن يوظِّفه، توصُّلاً إلى بيع السلعة التي يُنْتِج بسعرٍ أقل من السعر الذي تباع به على وجه العموم؛ ولو فعل غير ذلك، أي لو كان مُسْرِفاً مُبذِراً، من "أخوان الشياطين"، لَعَجِزَ عن درء مخاطر المنافسة عن رأسماله، ولَهَلك اقتصادياً.
ذلك العهد الاقتصادي الرأسمالي (مع ما يناسبه من أخلاق شخصية لربِّ العمل) أصبح، تقريباً، أثراً بعد عين، فالرأسمالي غدا يتمتَّع (مع رأسماله) بـ "حصانة الاحتكار"؛ ولقد غذَّى لديه "السعر الاحتكاري" المَيْل إلى أن يصبح من "أخوان الشياطين"، أي مُسْرِفاً مبذِّراً، مُسْتَفِزَّاً لمشاعر الفقراء والجياع..
لقد خَلَت السوق، تقريباً، من "القوى (الاقتصادية الموضوعية)" التي لا ترحم الرأسمالي الذي يَغْلُب ميله إلى "الاستهلاك" ميله إلى "الاستثمار"، فرأيْنا ظاهرة الرأسماليين الذين تطبَّعوا بطباع، وتخلَّقوا بأخلاق، أسلافهم من "الأسياد" و"الاقطاعيين".
لا شكَّ في أنَّ معدَّل الربح (على وجه العموم) هو الآن في البلدان الرأسمالية الغربية أقل، وأقل كثيراً، من ذي قبل، ويميل إلى مزيدٍ من الهبوط؛ لكنَّ هذه الظاهرة (الاقتصادية التاريخية الموضوعية) تتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع ظاهرة تضخُّم حجم الرِّبح، فالرأسمالي يكافِح ذلك المَيْل بأنْ يوظِّف رأسمالاً أعظم، فيحصل، بالتالي، على ربح أكبر؛ وإنَّ جزءاً عظيماً متعاظماً من هذا الرِّبح (المتضاءل نسبةً ومعدَّلاً، والمتعاظم حجماً) ما عاد يُسْتَثْمَر، أي ما عاد يتحوَّل إلى "رأسمال".
إنَّه يُنْفَق بما يَجْعَل الرأسمالي (وعائلته) يحيا حياة فيها من الإسراف والتبذير ما يجعله شيطاناً رجيماً.
لقد أفْرطوا في الإسراف والتبذير، مُكتشفين أنَّ ظاهرة تركُّز رأس المال (القومي والعالمي) في حيِّز ضيِّق من طبقة الرأسماليين، أي في فئتهم هُمْ، قد سمحت لهم بأنْ ينفقوا الجزء الأعظم من أرباحهم الفاحشة (الاحتكارية) إنفاقاً استهلاكياً، فيه من سَوْء الأخلاق (الطبقية الرأسمالية) ما يجعله "الرذيلة" بعينها؛ ثمَّ اكتشفوا إذ أفرطوا وتمادوا في بذخهم الطبقي أنَّ لديهم من الثروات والأموال "القارونية" ما يفيض، ويفيض كثيراً، عن حاجتهم إلى شراء كل شيء، وإلى استهلاك كل شيء، وإلى الاستمتاع بكل شيء!
هذا الفائض، والفائض كثيراً، عن تلك الحاجة هو ما شدَّد لديهم، أو لدى بعضهم، المَيْل إلى "الفضيلة"، وإلى "التبرُّع" بجزء كبير من ثرواتهم الفاحشة لـ "الأعمال الخيرية".
"ازمة الاستثمار" في النظام الرأسمالي العالمي اشتدت وعَنُفَت؛ أمَّا التناقض الذي تنطوي عليه هذه الأزمة فنراه واضحاً جليَّاً إذا ما عَلِمْنا أنَّ البشرية تحتاج، وتزداد احتياجاً، إلى مزيدٍ من الاستثمار في ما يمكن أنْ يدرأ عنها مخاطر وشرور الفقر والجوع والمرض والكوارث الطبيعية..، وإذا ما عَلِمْنا، في الوقت نفسه، أنَّ الحاجة إلى هذا الاستثمار قد انتفت (لأسباب طبقية ـ موضوعية) لدى هؤلاء الأثرياء العظام، فإنَّ حصَّة الأسد من أرباحهم ما عادت بمَصْدَر تغذية للرأسمال، وأصبحت تفيض، وتفيض كثيراً، عن حاجتهم إلى حياة فيها من التنعُّم ما يُبْطِر صاحبها ويُتْرِفه، فَلِمَ لا يتبرَّعون بجزء من هذه الثروة الفائضة عن حاجتهم تلك لـ "الأعمال الخيرية"، مُضيفين إلى أمجادهم الاقتصادية أمجاداً إنسانية وأخلاقية، ومُظْهرين النظام الرأسمالي الذي أظهرهم على العالمين على أنَّه نظام إنساني، مُحِبٌّ لعمل الخير، ويمكن أن يُحوِّل الرأسماليين من "طبقة" إلى ما يشبه "الجمعية الخيرية"؟!
الرأسمالي من هؤلاء تضاءل (حتى تلاشى تقريباً) المَيْل لديه إلى "الاستثمار"، أي إلى تحويل أرباحه الفاحشة (الاحتكارية) إلى "رأسمال"، مع أنَّ البشرية تشتد لديها الحاجة إلى مزيدٍ من الاستثمار ضدَّ "اللاآدمية" في حياة عشرات ومئات الملايين من البشر؛ وقوي لديه المَيْل إلى "فضيلة (أخلاقية وإنسانية)" هي العاقبة الحتمية لإفراطه في حياةٍ فيها من الرَّذيلة والتنعُّم والإسراف والتبذير ما يجعله للشيطان أخاً.
إنَّها لجريمة تُرْتَكب في حقِّ الجنس البشري أنْ يبلغ شخص من الثراء الفاحش ما يَجْعَل "تبرُّعه" بنصف ثروته، أو أكثر، لـ "الأعمال الخيرية" أمْراً في منتهى اليسر والسهولة؛ وإنَّ في هذه الظاهرة (الرأسمالية) الجديدة لخير دليل على انتفاء الضرورة التاريخية للرأسمالية التي أمعنت في خَفْض منسوب "الآدمية" في حياة عشرات ومئات الملايين من البشر، مشدِّدةً الحاجة، بالتالي، إلى مزيدٍ من الأعمال الخيرية، التي كان الكهنة من قَبْل يستمتعون وحدهم بتأديتها؛ ولقد كُسِر اليوم هذا "الاحتكار" إذ شرع الأثرياء من أمثال بافيت وجيتس يتبرَّعون بـ "فوائض ثرواتهم الفاحشة" لـ "الأعمال الخيرية"، التي لم نعرف ماهيتها بَعْد، فربَّما اكتشف "المتبرِّعون"، أو بعضهم، أنَّ إسرائيل (ومواطنيها) أوْلى ببرِّهم وإحسانهم!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في القرآن.. لا وجود لفكرة -الخَلْق من العدم-!
-
-السلبيون- انتخابياً!
-
عباس.. هل يرتدي كوفية عرفات؟!
-
صورة -المادة- في الدِّين!
-
هل أصبحت -المفاوضات بلا سلام- خياراً إستراتيجياً؟!
-
الأزمة الاقتصادية العالمية تنتصر ل -قانون القيمة-!
-
هرطقة تُدْعى -الملكية الفكرية-!
-
الآلة
-
معنى -التقريب-.. في مهمة ميتشل!
-
أمراض ثقافية يعانيها -الطلب- في اقتصادنا!
-
حكوماتنا هي الجديرة بلبس -النقاب-!
-
صورة -المفاوِض الفلسطيني- في مرآة -الأمير-!
-
معادلة ليبرمان!
-
الفقر والفقراء.. في دراسة مُغْرِضة!
-
ما تيسَّر من سيرة -القطاع العام-!
-
مهزلة يُضْرَب بها المثل!
-
الرأسمالية الأوروبية تتسلَّح ب -العنصرية-!
-
-العبودية-.. غيض يمني من فيض عربي!
-
-المعارَضة- إذ غدت -وظيفة حكومية-!
-
إسرائيل -تقصف- الطموح النووي الأردني!
المزيد.....
-
شبح ترامب يهدد الاقتصاد الألماني ويعرضه لمخاطر تجارية
-
فايننشال تايمز: الدولار القوي يضغط على ديون الأسواق الناشئة
...
-
وزير الاقتصاد الايراني يشارك في مؤتمر الاستثمار العالمي بالس
...
-
بلومبيرغ: ماليزيا تقدم نموذجا للصين لتحقيق نمو مستدام بنسبة
...
-
توقف بطاقات مصرف -غازبروم بنك- عن العمل في الإمارات وتركيا و
...
-
السعر كام النهاردة؟؟؟ تعرف على سعر الذهب فى العراق اليوم
-
الاحتياطي الفدرالي: عبء الديون يتصدر مخاطر الاستقرار المالي
...
-
الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد
-
صندوق النقد يرحب بالإصلاحات المصرية
-
مدفيديف: الغالبية العظمى من أسلحة العملية العسكرية الخاصة يت
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|