|
مسرحية -أوديب وشفيقة-
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 3085 - 2010 / 8 / 5 - 00:05
المحور:
سيرة ذاتية
يُسدَلُ الستارُ على مشهدين يفصلُ بينهما التاريخُ، مثلما تفصلُ بينهما الجغرافيا. على اليمين شابٌّ إغريقي عاش قبل قرون طوال في كورنثا اليونانية، يقفُ في ملابسه الملكية ويهتف في وجل ورعب: "مَن أكون؟"، وعلى اليسار شابةٌ من صعيد مصر، ابنة العصر الراهن، في ملابس قروية تهتف في أسى وفجيعة: "أنا مين؟" كلاهما بطلٌ لأسطورة شهيرة من الفولكلور الإغريقي والمصري، وكلاهما مأزومٌ بالبحث عن الأصل والهوية. كلاهما ضائعٌ دون جذر يحمي الفرعَ ويمنحه ثباته ولونه وهويته وصفاته. كيف اجتمع ما لا يجتمع في هذا العمل المسرحي "أوديب وشفيقة"، التي تُعرض الآن على مسرح الغد بالبالون؟ منذ العنوان ثمة تناقضُ مقصود وخلطٌ فنيٌّ في الزمن والجغرافيا. لكي تقول الرسالة إن الإنسانَ واحدٌ، وأزمته واحدةٌ عابرة الوقت وعابرة المكان، وعابرة اللغة واللسان. أزمة الهوية والانتماء، في حيرة أوديب الملك، وشفيقة الفقيرة في معرفة الأبوين. وكذا أزمة الشر الموجود في كل عصر ومكان، متمثلا تارة في الكاهن "نصّوب" الذي سيسرق أوديب رضيعًا من أبويه الملك والملكة، مُنذرًا من أنه حين يشبُّ سوف يقتل أباه ويدنّس بالعار مضجع أمه، كما عرفنا من مسرحية سوفكليس ومن الميثولوجيا الإغريقية (بتصرّف)، ومن جانب آخر الشر متمثلا في عمدة كفر الحناوي الذي يسعى للزواج من صبية من عُمر أحفاده بالقوة والنفوذ والتهديد، كما عرفنا من الحكاية الشعبية "شفيقة ومتولي"، (بتصرف أيضًا). تُفتح الستارة على مقام سيدي الحناوي في القرية الصغيرة، وعلى اليسار مقهى بلدي صغير، وراقصةٌ من الغجر تؤدي رقصةً بوهيمية رعوية احتفالا بمولد الحناوي. ثم نتعرف على أصحاب المقهى، "نبيهة" و"شعبان"، وابنتهما المُتبناة الصبية الجميلة "شفيقة"، التي يودُّ عمدةُ القرية المتسّلطُ المزواجُ الزواجَ منها بأي ثمن، فتحاول الراقصةُ العرّافة إقناعها بشتى سبل الترغيب والترهيب دون فائدة. تتملك شفيقةَ الحيرةُ والعذاب مدة العرض لأنها تود أن تعرف أصلها وهويتها طوال. وفي يمين المسرح، ثم منصة مرتفعة، ستمثل مسرحًا داخل المسرح، عليها أزياء وديكور من العصر الإغريقي القديم، كرسي عرش يخصُّ الملك، وأريكة "تشيز لونج، تتكئ عليها الملكة، وتيجان وصولجان تخص المُلك. وفي منتصف المسرح، في بؤرة المشهد، مقام ولي الله، الذي يتبرّك الأهالي بلمسه والبكاء على ضريحه. هذا المزج بين الزمن والجغرافيا حيلةٌ مسرحية جديدة وذكية صنعها المخرج: عاصم رأفت، وكتبها المؤلف: أحمد الأبلج، يإتقان مدهش، ساهم بشكل أساسي في توصيل الرسالة للمتفرج، حول وحدة الإنسان ووحدة سؤاله الوجودي وأزمته مع الحياة، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية والزمن والموقع المكاني. عايدة فهمي وأمين عامر، يمثّلان مرّة صاحبة المقهى وزوجها، وبعد برهة هي مع أحمد أبو عميرة، الملكان العاقران اللذان يبحثان عن طفل نبيل الدماء ليورثاه عرشهما. وعلى الجانب الآخر، ناهد رشدي ومصطفى طلبة، الممثلة والمخرج وبعد برهة هما جيوكاستا ولاوس، ملكة "ثيبا" ملكها اللذان ينجبان لتوّهما طفلا لن يلبثا أن يفقداه بحيلة حقيرة زيّفها "نصوب/ شادي أسعد، ليسرقه منهما وبهبه للملك والملكة العاقرين ويقبض الثمن. الأداء على نصف المسرح الأيسر يتم بالدارجة المصرية الشعبية، وعلى الجانب الأيمن، الملكي، بالفصحى التي كأنما هي اللغة اليونانية القديمة معرّبةً. وبدايةً يُحسب للمثلين الانتقال الرشيق الواثب بين اللسانين العربي الفصيح، والدارج العاميّ. وحال الكلام عن العربية الفصحى وجبت تحية الممثلين جميعًا الذين لم نسمع منهم هنةً لغوية أو لحنًا نحويًّا أو صرفيًّا، وهو أمر بات مدهشًا لندرته الآن، حتى بين الأدباء القابضين على زمام اللغة وأسرارها، وكذا بين مذيعين القنوات الفضائية الذين أهانوا اللغةَ على خير ما تكون الإهانة! عادل رأفت/ أوديب، رضوى شريف/ شفيقة، محمد عبد الفتاح/ العمدة، جميعهم مع بقية الممثلين فهموا أدوراهم، وادركوا البعد التأريخي والوجودي لطبيعة الشخصيات التي يتلبسونها فخرج العمل راقيًا رفيع الطراز على نحو يستحق التحية والتقدير. ذوبان الإنسان في سؤال الوجود ه تيمة تلك المسرحية الجميلة. قمة الهرم الطبقي/ الملك، وقاعه/ القروية، قمة الديمقراطية/ أثينا القديمة، قمة البطريركية/ صعيد مصر. استخدام الكهنوت في اللعب بعقول العامة: نصوب الإغريقيّ، الدجال المشعوذ في الصعيد. أوديب يخاطب الآلهة، شفيقة تخاطب مقام الحناوي. قصة الإنسان واحدة، في أثينا الملكية، وفي صعيد مصر البسيط.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسرحية -العميان--أشعرُ بالقمر فوق يدي
-
جبل راشمور في الشيخ زايد
-
متشوّقون للجمال
-
عقيدتُك ليست تعنيني
-
محمود سلطان، الإعلاميُّ الجميل
-
تثقيفُ البسطاء في ثقافة الجيزة
-
صديقي المبدع، بهيج إسماعيل
-
عبدةُ الزهور الجميلة
-
الثالثُ المرفوع، وغير المرفوع
-
لأن معي أتعاب المحامي
-
أزمة الإنسان واحدةٌ فوق المكان والزمان
-
درسُ سلماوي الصعب!
-
يوميات قبطي، واحد م البلد دي
-
مندور، ابنُ الزمن الجميل
-
كتابٌ مخيف من ترجمة طلعت الشايب
-
فاروق الباز، أيها المصريّ
-
أن ترسمَ كطفل
-
سعد رومان ميخائيل يرصّع اللوحات العالمية على جداريات دار الأ
...
-
هزْلُهم... فنٌّ
-
أعمدةُ الجمال، بين رسالة والساقية
المزيد.....
-
كيف ردت الصين على ترامب بعد فرضه الرسوم الجمركية؟
-
نبيذ الكوبرا وخصيتي الثعبان.. إليك وجبات غريبة يأكلها الأشخا
...
-
واشنطن تضغط على كييف: لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بحلول
...
-
بعد صورة الشرع متوجها إلى الرياض.. إغلاق حساب للرئاسة السوري
...
-
البحرية الإسرائيلية تعتقل صيادا لبنانيا عند نقطة رأس الناقور
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن توسيع عملياته شمالي الضفة الغربية
-
سموتريش يطالب نتنياهو بتدمير -حماس- و-نصر كامل- في غزة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ 3 غارات جوية على شمالي الضفة الغ
...
-
علماء روس يبتكرون نظاما للتحكم بكثافة البلازما
-
Lenovo تعلن عن حاسبها الجديد لمحبي الألعاب الإلكترونية
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|