أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جاسم المطير - علّمنا استبصار الاشتراكية واستنطاق الأدب الساخر وأقنعنا أن المرأة جوهرة الحياة















المزيد.....


علّمنا استبصار الاشتراكية واستنطاق الأدب الساخر وأقنعنا أن المرأة جوهرة الحياة


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 3079 - 2010 / 7 / 30 - 15:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بمناسبة الذكرى الستين لرحيل جورج برنارد شو

علــّمنا استبصار الاشتراكية واستنطاق الأدب الساخر وأقنعنا أن المرأة جوهرة الحياة
جاسم المطير
وأنا اقلب بعض أوراقي القديمة عثرت ، هذا اليوم ، على هذه المقالة بين أدراجها . أظن أنني كتبتها في أوائل سبعينات القرن الماضي . ربما في عام 1970 . ظلت المقالة محفوظة عندي على شكل مسودة ، طيلة تلك الفترة . ها أنني أعدها للنشر ـ كما في صيغتها الأولى ـ بمناسبة مرور الذكرى الستين لرحيل الكاتب الايرلندي جورج برنارد شو ، الذي امتلك رؤية المملكة المتحدة باعتبارها دولة رأسمالية عظمى ينبغي النظر إلى مشكلاتها الاجتماعية – الطبقية بالبلاغة السياسية الساخرة . ليعذرني القراء الكرام عن خلو مقالتي من مصادر معلوماتها حيث وجدت أوراقها بعد زمن طويل أنها بلا ضوء على المصادر راجيا السماح والعفو من أصحابها .
دار حول جورج برنارد شو ، في العراق ، جدل كثير عن تجاربه القصصية والمسرحية ، ونحن ما زلنا فتيانا ، حين كانت خارطة العالم عام 1950 تمتد فيها خطوط صراعات عنيفة من اجل الحرية والاستقلال في جميع بلدان العالم الثالث ومنها بلادنا . كان التاريخ الإنساني الجديد قد بدأ مع إنسان جديد ، إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث انتصرت قوى الاشتراكية والديمقراطية والسلام انتصارا حاسما على الفاشية ومشعلي الحروب ضد الإنسانية . كنا نتابع تلك الخطوط ونتساءل مع كل شباب العراق وشعبه : متى يبدأ شفاء العالم المريض بالقهر والاستعمار والاستغلال والعبودية ..؟ متى تكون الكلمة الصادقة فعلا حاسما في حياة الناس اليومية ..؟ متى ينتهي ظلام القمع والإرهاب والسجون من بلاد الرافدين ..؟ . متى يتغلب المواطن العراقي على خوفه من الحياة ..؟ .
داخل هذه الرؤى والتساؤلات وقعت في نفوسنا رهبة ، نحن طلاب ثانوية العشار ، التي كان فيها المستر (هلر) مدرسنا في اللغة الانكليزية محبا لبرنارد شو ولأدبه وقد أحسسنا أن في باطنه حزنا عميقا . كان (هلر) سجلا وفيا لصداقته مع شو . لم يبخل علينا بنماذج رائعة ، من معلوماته الشخصية عن برنارد شو ، التي كانت تدور بنا داخل الصف . صعقتنا فجأة بيانات الإذاعات العالمية المختلفة حاملة نبأ وفاة الكاتب الايرلندي الشهير برنارد شو ، الذي كان اسمه وبعض ما وصلنا من كتبه وكتاباته عناوين أكيدة للحرية التي لم نكن نفهم منها غير كونها شعارا رومانسيا ليس إلا ، وكنا ننتمي ، للتو ، لهذا الشعار .
من خلال الصحف والمجلات ومن خلال ما يحكيه لنا أصدقاؤنا ، من الذين زاروا انكلترا أو سمعوا عنه أو قرءوا كتبه باللغة الانكليزية ، كنا نريد أن نعرف موقفه من الفلسفة والدين والأدب والفن . عرفنا أن موقف برنارد شو من الكون كان واضحا في مقدمة مسرحية (سان جون) وهو يصف الإحساس بالعلم وقدرته على اكتشاف حقيقة الكون حين قدم اعتقادا قويا بحقيقة وقدرة العلم على إثبات كروية الأرض مفندا عقيدة أن الأرض مسطحة .
شدنا الحزن إلى النبأ الغادر برحيله ، ورغم أن برنارد شو كان قد بلغ الرابعة والتسعين إلا أننا شعرنا بفقدان كاتب عظيم كان يناضل ، بقلمه المبدع الفذ ، ضد أعداء الحرية وحق الشعوب في السلم والديمقراطية . شعرنا كما لو أن الفقيد فتى في العشرين من عمره في وقت كان رحيله وهو في قمة الشهرة الأدبية العالمية
دفعنا رحيله المحزن ، نحن مجموعة من طلاب ثانوية البصرة ، للبحث عن كتبه في بعض المكتبات العامة ومكتبات التوزيع في شارع المغايز . كما كنا نركز في البحث عن تمثيلياته بواسطة المسافرين من أهالينا أو أصحابنا إلى العاصمة بغداد . كنا نبحث عن أي معلومة صحفية توقظ في نفوسنا عظمة الإنسان ، الذي كان قد احتضن ألحان قيثارة الشباب في كل مكان .
كانت بعض نتائج البحث مثمرة ومدهشة . فقد اضطلع بعض أصحابنا المهتمين بالأدب والثقافة من الحصول على بعض المعلومات ، من هنا وهناك ، عن برنارد شو صارت مكتوبة في النشرة الجدارية المدرسية ، وقد سر لنشر المعلومات الأساتذة اليساريون ، وعدد من الطلاب ، الذين كانوا لتوهم يسمعون أن الاشتراكية تعني أول ما تعني الملكية العامة لوسائل الإنتاج . عرفنا أن الايرلندي المولود عام 1856 كان قريبا منا ، بل سيكون معلما من معلمينا بعد أن أصبح شهيرا في عمله الصحافي متأثرا في ثقافته العامة بكارل ماركس وشيلي وصموئيل بتلر . عرفنا من المعلومات المنشورة على الجدار الأمامي في المدرسة انه اعتنق الاشتراكية وكان قد عبر عن مواقفه السياسية في عدد من كتبه ، منها كتاب (استحالة الفوضوية) عام1891 ، كما عرفنا انه من المنادين بحرية المرأة ونضالها منذ عام 1928 في كتابه المعنون (المرأة الذكية أمام الاشتراكية والرأسمالية) .
كنت مولعا بقراءة القصص وروايات الجيب حتى صرت مولعا بمحاولات كتابة القصة القصيرة . رحت ابحث عن قصصه القصيرة فما وجدتها ، لكن رزوق فرج رزوق ، مدرس اللغة العربية ، الذي كنا نتتلمذ على أدبه اخبرني ، ضاحكا ، أن قصص برنارد شو لم تلق رواجا قدر رواج جميع أعماله الأخرى ، خاصة في النقد المسرحي والموسيقي والنقد الفني عموما . فقد كانت الصحافة الانكليزية تنشر مقالاته باستمرار كما تألق اسمه في التأليف المسرحي ، مما جعل الناس ، في كل مكان ، تــُقبل على أعماله المسرحية ، بشوق . كان بعضها قد ترجم إلى لغات عديدة وعرض على مسارح البلدان الأوربية والأمريكية مثل مسرحية (لا رائحة للمال) عام 1892 ومسرحية (الرجل الذي تحبه النساء) عام 1893 ومسرحية (مريد الشيطان) عام 1901 و مسرحية (بجماليون) عام 1912 وغيرها وقد اثــّر برنارد شو على كتاباتي القصصية والروائية تأثيرا بالغا ، في ما بعد ، حين تابعت كتاباته ، لاحقا ، فوجدته متميزا في أعماله المسرحية والقصصية بالعناية الشديدة بالمواقف الفكرية والسياسية فصارت جميع أعمالي القصصية والروائية ذات طابع سياسي .
ذات يوم جاءنا صديق من الكويت وهو في الواقع ابن عمتي الموظف في دائرة كهرباء الكويت وبطبعه كان يهوى قراءة الكتب الأدبية . جاء إلى البصرة وقت الغروب من يوم الخميس ، حاملا لي ، بالمصادفة ، هديته الوحيدة (كتاب بجماليون) . فأورق الفرح في أعماقي وفي أعماق بعض أصدقائي الذين أخبرتهم بمجيء برنارد شو مع بجماليون إلى البصرة ..!
تواريت ليلة الجمعة وفي ساعاتها النهارية حتى أكملت قراءة الكتاب الذي راح يوم السبت ينتقل من يد إلى يد أخرى ، من قارئ إلى قارئ ، ليبارك فينا ميلاد المعرفة بهذا الاسم الاشتراكي الذي علمنا انه صارع زيف الرأسمالية بسخريته المعروفة واصفا النظام الرأسمالي كإنتاج لحيته الكثة ضائعة في حفنة عند توزيعها كالشعرات القليلة في صلعته بمقولته الشهيرة : الرأسمالية تعني وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع .
بجماليون ، إذن ، بين أيدينا ، نحن فتيان مدينة البصرة ، المعنيين بمتابعة الأدب والاشتراكية بوقت واحد . بجماليون مسرحية صارت مشهورة عندنا . كانت من قبل قد اشتهرت في كل أنحاء العالم . علـِمنا أنها نشرت في لندن في بداية القرن العشرين ، ثم عرفنا من أستاذنا ، المثقف القدير ، رزوق فرج رزوق ، أنها مُثلت على مسرح في باريس عام 1923 وقد كتبتُ جميع المعلومات في مقالة صغيرة على النشرة الجدارية المدرسية قلت فيها : أن جورج برنارد شو استوحى بجماليون من إحدى الأساطير اليونانية القديمة التي تقول أن نحاتا قبرصيا قد نحت تمثالا من العاج أطلق عليه اسم امرأة (غالاتيا) وكان النحات عزوفا عن الزواج . جاءت افروديت إلهة الجمال فزرعت في قلب النحات حبا عنيفا للتمثال كعقاب له على امتناعه عن الزواج .
وضع برنارد شو هذه الفكرة بأسلوب عصري ساخر حاول فيها إيجاد الرابطة الفنية والاجتماعية بين أبطال المسرحية جميعا . مثلا كان بطل المسرحية فتى ثريا متخصصا بعلم الأصوات (الصوتيات) التقى ، ذات يوم ، ببائعة زهور ، جميلة الوجه والجسد ، لكنها مشوهة النطق تخرج كلامها على طريقة أهل الريف غير المتعلمين ، فأثارت في نفسه الرغبة في إصلاح لكنتها . عرض عليها الفكرة فوافقت على العرض ثم وضع برنامجا لتعليمها الدروس في النطق السليم على أساس ضبط مخارج الأصوات . ثابرت الفتاة على تلقي الدروس ، برغبة وعناية وبصبر عجيب ، حتى توصلت إلى نتائج عظيمة وعندما اتضح ان هذه الفتاة وصلت إلى المستوى المطلوب اكتشف الرجل حقيقة جديدة لم تكن واردة على باله هي أن من يعلـّم النطق الصحيح باللغة يعلــّم في الوقت نفسه الإحساس بالقول ، كما عرف أن إتقان الدقة في التعبير يحمل القدرة الواسعة في إيصال الأفكار إلى السامعين .
أثار هذا العمل في أعماق الفتاة اضطرابا عاطفيا ونفسيا طاغيا لا سبيل للتغلب عليه ، لا سيما بعد أن تأكدت أنها كانت في حياة صانعها موضوع اختبار لغوي ليس غير ، لكنها مع ذلك ، ظلت إلى جانبه بلا أي أمل في زواجه منها .
كانت هذه المسرحية من أفضل مسرحيات برنارد شو . إنها عمل فلسفي يتعلق بعمل إنساني يمثل حدّة وقسوة العلاقة بين شخصين متناقضي التفكير في مجتمع الرأسمالية .
كان رحيل برنارد شو قد أشعرنا في حينه أن أبواب المدينة الطيبة ، البصرة ، قد انفتحت لاستقبال أفكار الآداب الاشتراكية التي تعلمنا بعضها على يد سلامة موسى في بعض كتبه القادمة من مصر وعلى يد جورج حنا مثل كتابه (كهان الهيكل) التي قال عنها المناضل العراقي حامد العاني أنها علمته طريق النضال . صرنا نبحث عن كتب النضال والاشتراكية في أدبيات وكتابات من ألمانيا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين . كما انفتحت أمامنا أبواب الفرح في الأدب والفن الساخرين . صرنا نبحث عن مسرحيات يوسف العاني وعن أفلام شارلي شابلن ، كما بدأنا نستقبل بفضل رحيل الرجل الملتحي الجذاب أفكار الدفاع عن مكانة المرأة العراقية في الحياة وعن دورها في المجتمع .
عرفنا أن جورج برنارد شو كان يرى السفن القديمة تمخر عميقا في عرض البحار البعيدة كي تعود محملة بالمال والشمس لوضعها في خزائن الرأسماليين الاستعماريين . ربابنتها ومالكوها يصبحون في حالات النشوة الكبرى بينما الآلام تعفر صبا العمال على متنها ووجوههم مخضبة بعرقها . هذه الرؤية كانت بداية علاقته بالحروف الصادقة التي حملت روح الحقيقة إلى كل مكان . كما تحولت قراءتنا لحروفه بداية علاقتنا بالنضال ضد الاستعمار ونهب ثروات الشعوب .
في الثانية والعشرين من عمره بدا كأي سفينة تبحث عن شاطئ وردي للتوقف فيه . كان يبحث عن الكلام الوردي ، عن الإبداع الوردي ، عن شواطئ وردية يضع على رمالها كلماته المذهبة بالصدق عن الناس المقهورين والمعذبين .
متابعتنا لجميع ما كتب عنه بملاحظات مباشرة في الصحافة العربية ، آنذاك ، أثبتت لنا أن الدهشة أخذت من نفسه حين كتب أول خاطرة قصيرة . غيرت ملامح وسمات الورق الأبيض الموضوع أمامه على المنضدة . نسي طريقه البحري فانقاد إلى طريق آخر بعيدا عن ملامسة (المآسي) مع انبلاج الفجر ، بل أبحر عند الظهيرة بأسلوب جديد هو أسلوب (السخرية) . تشبث به بقوة ، محولا ما في صدره إلى كلمات هازئة بصخور الشواطئ الرأسمالية وتناقضات مجتمعها ، فترادفت لغته النثرية مع ابتسامته الصامتة اليقظى ، حتى صار هذا الكاتب استثناء عظيما وكبيرا ليس فقط في عالم الأدب الانكليزي ، بل في الأدب العالمي كله .
كتب الخاطرة الأولى ونشرها . قيل له أن وقتك يا برنارد شو قد حان للإقلاع داخل المجتمع الرأسمالي البغيض بزورق الشروق الاشتراكي ، نحو المستقبل ، ببهجة الكلمة القوية المعبرة الساخرة من عيوب الدنيا والنافذة إلى قلوب الملايين من القراء الباحثين عن المعرفة والصدق .
دخل في نشوة وتألق إلى عالم الصحافة . كتب الأفكار المختزلة بأسلوب ساخر ، ساحر ، أخاذ ، قادر على تحريك أحاسيس القارئ المتقد ، فجعل خطاه متحركة داخل علل المجتمع الرأسمالي ، كلها . سافر ظامئا مع معاناة الناس الفقراء ، مخدشا أسماع الرأسمالية وآذان الرأسماليين بصوت الكلمات ، الساخرة ، الثائرة ، فتيسر له أن يخلق من كلامه مسكنا للحب ونعيما لقارئ تعب من زمان التصعيد السريع لأصوات ماكينة التراكم الرأسمالي منذ قيام الثورة الصناعية في أوربا ، ومنذ أن بلغت الرأسمالية أعلى مراحلها .
في بداية الدروب الجديدة ، التي سلكها ، وفي وسطها ، ونهايتها ، وجد أن نفسه الباسلة متجهة صوب الاشتراكية التي كان رنين أجراسها العالية يرن ، قويا ، في سماء أوربا .لم يترك آثارا بارزة ، بعدُ ، في مجد الآداب الانكليزية رغم أن فردريك انجلز كان انكليزيا وأن كارل ماركس اتخذ من انكلترا ملاذا لإقامته ومكانا يتدفق منه نور كتابه الخصيب : رأس المال .
بداية ً ، اتجه برنارد شو نحو لهيب النضال الاشتراكي . لم يغنّ ِ لهذا الاتجاه احد ، لا تأييدا ولا نصرا ، لا من معارفه أو أصدقائه ، ولا من قرائه ، إلا القليل القليل ، لكن ظل هذا اللهب وسيلة واحدة أمام برنارد شو ليمزق أكذوبة السعادة الرأسمالية ، التي لا تتشكل عمليا إلا لبضعة عائلات ، ثرية ، تملك المال والجاه والسلطة ، بينما أكثرية الشعب لا توضع مستويات معيشتها المدقعة في الحسبان . من شرفة الفكرة الاشتراكية اكتشف أزهار الأسلوب المفضي بشبابه إلى الالتزام الأبدي بجانب الشعب ، بل غدت هي الفكرة الأساسية ، التي بثها في كتاباته وأعماله الفكرية والأدبية ، وهي الهـِبة التي منحها للناس . هكذا ظل طوال حياته أديبا سياسيا ، ملتزما ، مكثرا في استخدام الألفاظ الجزلة والساخرة ضد الأخطاء الاجتماعية ، ضد نقائص الحياة ، ضد اعتماد الاستغلال المطوق لحياة المعدمين .
خواطره كانت محبوبة من القراء لأنها حملت صوتا نديا ، يخترق حلكة المعيشة الرأسمالية ، ثم حقق اكتشافه الصامت بأن مصباحه في كتابة القصص والروايات لا ينير طريقه في الإبداع ، رغم أن فرح الحرية كان يطغي على معظم تلك القصص ، إلا أنها لم تعانق إلا أعين عدد قليل من القراء . وقد كتب ذات يوم في إحدى مقالاته ما يلي : ( انتهيت من كتابي الأول قبل ستة وثلاثين عاما وتقدمت به إلى كل من خطر اسمه على بالي من الناشرين في البلاد الناطقة بالانكليزية فلم يجد قبولا من احد ولم يجد طريقه الى الطبع إلا بعد خمسين عاما من ذلك التاريخ حين صار الناشرون يرحبون بكل شيء أضع اسمي عليه .. كان كتابي هذا رواية ..) .
كان عنوان الكتاب الذي تحدث عنه برنارد شو بمرارة هو رواية عنوانها (قبل الأوان) كان قد أكمل كتابتها عام 1879 وقد قام بمراجعتها مرتين ، ثم قدمها إلى عشرة ناشرين ، فرفضوا طباعتها . حين قدمها إلى الناشر الحادي عشر فأن هذا رفض قراءتها أصلا . الجدير ذكره هنا ان رواية (قبل الأوان) لم تنشر إلا في عام 1930.
في الناحية الواقعية كان لذلك الرفض من الناشرين اثر كبير في حياته الإبداعية ، بل فجـّر عنده دفقة قوية لنوع آخر من الإبداع . ففي العام 1900 أصبح برنارد شو كاتبا مسرحيا مرموقا بعد أن تحول من الكتابة القصصية إلى الكتابة المسرحية لأنه شعر من خلال نقد الصحفيين والناشرين انه يمتلك قدرة خاصة وفائقة في التعبير عن طموحاته بالكتابة المسرحية . وقد قال بثقة عندما أدرك تحوله : ( إن المسرح هو أنقى أشكال الفن وأكثر إزهارا في حديقة الجمال ..) .
ظل يعمل مثل النحلة النشيطة في خلية الكون المسرحي . اقلع من هذه الخلية ، في رحلة طويلة ، مناديا الناس والفنانين أن يتعلقوا بجميع أعمدة المسرح الحي . صار يتردد على مسرحياته مئات الفنانين والنقاد والصحفيين وألوف الرواد ومئات الألوف من المشاهدين ، الذين يضحكون داخل المسرح ، المعتم ، بطريقة لم يألفوها ، من قبل ، مبددا كل صروف الكذب الرأسمالي . كما صار ملايين الناس يقرءون كتبه بمختلف اللغات في غالبية دول العالم بما فيها العالم العربي .
في العام 1910 استطاع أن يوقظ جميع حوافز الرأي العام الانكليزي ،بغرابة أفكاره وبأسلوبه الساخر ، الخارج عن المألوف ، لكنه مألوف تماما في الحياة اليومية نفسها ، داخلا إلى أعماق الناس المشاهدين بأفكار يسارية سميت متطرفة في حينه .
بذلك انفتح الأمل على مستقبل وحياة برنارد شو لكي يساهم مع كتاب عالميين آخرين ، ليس في كتاباتهم أية تحفظات خفية عن نقاء بلورات حرية التعبير الشفافة ، النافذة إلى أعماق الإنسانية لسبر أغوارها ، في بريطانيا (شكسبير) وروسيا (تولستوي) وألمانيا (برشت) وهولندا ( اسبينوزا) وفرنسا (جان جاك روسو) وغيرهم ممن جعلوا آدابهم ومعداتهم الفنية وأصواتهم المدوية مكرسة لإيقاد شعلة الحرية الفكرية وفرض حق التعبير الحر في قلب البورجوازية العالمية وفي مهد نموها الأسطوري ببريطانيا .
ابتدع نظريه استخدام (لغة العامة) كما هي . مستخدما حرفتي الفصل الدقيق بين الكوميديا والتراجيديا مرة ، كما في (بجماليون) مثلما استخدم الجمع بينهما مرة أخرى كما في مسرحية (بيوت الأرامل) . إضافة إلى أطروحاته العقلانية لتأليب جمهور المشاهدين على أخطاء المجتمع وعلى عيوب الرأسمالية كي يُسمع صوته إلى الحاضرين ، ومن الحاضرين إلى غيرهم ، معتبرا أن أصوات الرياح والأنهار والعصافير يمكن أن تعلو وتصدح كلما استطاع الكاتب أن يجعل من النثر لغة إنسانية ، قادرة على تحريك المجتمع وإخصاب الحقول وتقديس الخبز وتطهير الماء .
كتب حوالي ستين مسرحية . كلها حملت صفتها الأدبية بالمعنى الخالص ، كما كانت فنية بالمعنى الخالص ، أي انه حاول تقديم صورة فوتوغرافية دقيقة لحياة ذلك العصر من دون نحيب سياسي ، ومن دون تمارض فكري ، مثل ما جاء في مسرحياته بيوت الأرامل ، الأسلحة والإنسان ، جان اوف آرك ، الإنسان والسوبرمان ، كانديدا ، الرائد باربرا ، بيت القلب الكسير وغيرها بالعشرات من التي احتوت على كلمات ومشاهد صادقة تكفي في نظره لان تتحسس دموع الناس من المشاهدين والقراء من دون أن تبلل الخدود .
سطرا بعد سطر ، خطوة بعد أخرى ، تعمق برنارد شو بالعمل المسرحي ، فاستطاع أن يغني المسرح البريطاني والعالمي من خلال ميزته الخاصة وقيامه بالجمع الناجح الفريد بين الفنين المتآخيين ، فن المسرح وفن الرواية ، مما جعله قادرا على إضاءة مصباح الطريق إلى المسرح الجاد والساخر ، جاذبا الجمهور بقوة ، ليس فقط لمشاهدات سلبية لحوادث المسرح ، بل دافعا الجمهور إلى مشاركة الممثلين بالنشيد الواعي المغرد في ظلمة المسرح .
واحسرتاه على موته ، على موت فنان قاتل بجرأة ، أكاذيب الكاذبين من مفلسفي النظام الرأسمالي وتبرير وحشيته الاستغلالية ، معتمدا على ملامسة عقول الناس وتحسسها في عبارات قصيرة وفي جمل صغيرة تلقائية أحيانا بأسلوب الواقعية ، ومنحوتة أحيانا أخرى بأسلوب الرومانسية ، في عصر كان فيه النصف الأول من القرن العشرين عصرا لجرائم الموت الجماعي في حربين عالميتين ، وعصر الكذب عن السعادة في مجتمع الرأسماليين المستغلين لجهود الناس العاملين .
في مدينة البصرة الصغيرة قلنا واحسرتاه في العام 1950 حين مات رجل عظيم قبل أن يكمل بقية جهده لمعالجة الإنسان المعاصر ، بقدرة الدراما النثرية ، الصادقة ، الغنية بحيويتها ، المتلألئة بتنوعها ، المخصبة بوضوحها ، لكنه مات بعد أن غدا أعظم كتاب الدراما في القرن العشرين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 29 – 7 – 2010



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهريب النفط العراقي مستمر والأخلاق مغلولة ..
- عن جمهورية الموز والقرود ..!!
- عن رؤية رشيد الخيون في لاهوت السياسة ..
- الفاسدون يصومون في رمضان ويسرقون ..!
- البرلمان العراقي ليس حرا .. عاطل رغم انفه ..
- عن بغداد والأربعين حرامي
- بغداد مدينة تتميز بعجائب الزمان والمكان ..!
- مؤتمر القمة العربي رقم 47 في بغداد ولعبة الفساد المالي
- فريق الإسلام السياسي الصومالي يتغلب على فريق طالبان الأفغاني ...
- حقوق اليهود العراقيين والفيلية و ثورة 14 تموز
- المهرجانات الثقافية أحسن وسائل المتعة خارج الوطن ..‍‍!
- عن صوفية عبد الكريم قاسم وتحدي الفساد المالي ..
- الصمت المقدس يضيّع العدالة والمساواة ..! يوسف سلمان يوسف / ن ...
- الكهرباء : نظرة وابتسامة وقبلة وانقطاع ..!!
- بعض الحكام العراقيين يعشقون الكذب عشقا ..!!
- وزارة الثقافة العراقية منعزلة عن ثقافة العالم ..
- عن بعض أمنيات التكوين الروحي لمباراة كأس العالم ..
- • اطمئنوا .. لم يقتل حر البصرة أحدا لكنه يقلي البيض ..!
- لو كان أبونا آدم حيا لما استخدم النفط والكهرباء ..!!
- حكامنا يريدون من الديمقراطية ان تنتمي اليهم ..


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جاسم المطير - علّمنا استبصار الاشتراكية واستنطاق الأدب الساخر وأقنعنا أن المرأة جوهرة الحياة