|
الجابري والخلط بين مفكري اللحظة المغربية
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3071 - 2010 / 7 / 22 - 22:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يتصف منطق المفكر المغربي محمد عابد الجابري بأنه محكوم بهاجس بناء الوحدة والاستـمرارية التاريخية للحظة المغربية طبقاً للتفسير السياسي للدولة في الأندلس. وهذا ما اضطره إلى الخلط بين مفكري هذه اللحظة وضمهم جميعاً تحت سقف النظام البرهاني الأرسطي مع كل من الفيلسوفين الأندلسيين؛ إبن باجة وإبن رشد، رغم أن بعضهم ينتمي صراحة إلى (النظام البياني) أو المعياري، وبعض آخر ينتمي إلى النظام العرفاني. فإبن حزم والشاطبي وإبن خلدون ينتمون إلى النظام الأول، فهم على الأقل لم يركنوا إلى سلطة مفهوم السببية الأرسطية كما توهّم الجابري، بل خضعوا لسلطة أُخرى، هي التجويز (البياني) أو (المعياري). كذلك فإن إبن طفيل لا ينتمي إلى النظام البرهاني، بل هو صريح الميل والانتماء إلى العرفان، كما سيمر علينا تفصيل ذلك فيما بعد.
أ ـ إبن حزم والإسقاط الأرسطي فإذا بدأنا بابن حزم، نجد أنه وإن كان قد اعتـمد كثـيراً على النتاج الأرسطي، الا أنه لم يتخذ من المنظومة الأرسطية أصلاً لمذهبه. فما فعله إنما هو توظيف المنطق لأغراضه المعيارية المتعلقة بتأسيس النظر القبلي وفهم الخطاب أو الشريعة. وهو يختلف عن الطريقة الفلسفية اختلافاً جوهرياً من حيث موقفها من علاقة السببية التي تشكل صلب التفكير الفلسفي. فإذا كانت هذه العلاقة عند الفلاسفة تتضمن معنى الضرورة والحتمية والمناسبة بين العلة والمعلول؛ فإن الأمر عند إبن حزم على العكس. لكن ذلك لا يعني أنه يتجه اتجاهاً أشعرياً استناداً إلى تفسير العادة. إذ هو لا ينكر أن يكون للطبيعة طبائع وعلاقات سببية ثابتة، في الوقت الذي لا ينظر إلى هذه الطبائع والعلاقات نظرة الفلاسفة اليها. فنظرية هؤلاء تتضمن الاعتقاد بوجود الضرورة والحتمية في الطبائع والعلاقات، مما يعني استحالة خرق قوانين الطبيعة وعلاقاتها. أما لدى إبن حزم فإن ثبات الطبائع والعلاقات لم ينتج عن الضرورة والحتمية كما يقول الفلاسفة، بل هو نتاج (أمر الله) كسنّة ثابتة غير قابلة للتبديل والتحويل إلا بأمره. لهذا أجاز المعجزة وخرق القوانين، من حيث أنها متوقفة على أمر الله دون غيره من الخلائق، فهو الجاعل وهو الخارق. لذلك فهو ينفي أن تكون هناك إمكانية لتغيير الطبائع بعد أن جعلها الله ثابتة، فيقول: «إن هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز لم يزل عدماً غير موجود، وباطلاً لم يتحقق ساعة من الدهر. فمن المحال الممتنع قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن يقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً، وبين قلب انسان إلى أن يصير حماراً، أو قلب حمار إلى أن يصير انساناً، وهكذا ممتنع البتة». فالامتناع عند إبن حزم ليس له علاقة بالخالق، حيث كل الأُمور موكولة اليه، وهو وحده القادر على خرق ما ثبته كأمر معجز. وهنا يبرز دور إبن حزم وغرضه من هذا التنظير. اذ استهدف تأسيس الخطاب الديني من الخارج عبر إثبات صدق النبوة. وعلى الأقل إنه قد أحكم هذا الإثبات وجعله أمراً عقلياً فاعتقد بصحة ما يحصل من خرق للطبائع في العالم، مقرراً أن العقل يستحيل عليه تقبل أن يكون المخلوق قادراً على خرق هذه الطبائع؛ كقلب العصا حيّة تسعى، وشقّ البحر، وإحياء الموتى، وخروج الناقة من الصخرة، وعدم احتراق الانسان وهو يُرمى في النار، واشباع عشرات الناس من صاع شعير، ونبعان الماء الكثير من بين أصابع انسان لإرواء عسكر بكامله. فكل هذا يدل على صدق النبوة وصحتها. على هذا فإنه ليس كالفلاسفة الذين لا يملكون ما يمكن تبريره من أمر المعجزة، باعتبار أن علاقات الطبيعة وطبائعها قائمة عندهم على الضرورة والحتمية. كما أنه ليس كالأشاعرة الذين ليس باستطاعتهم إثبات النبوة عبر المعجزة، لأن الأشياء عندهم ليس فيها طبائع ثابتة ولا علاقاتها قائمة على الثبات.
ب ـ الشاطبي والإسقاط الأرسطي والامر نفسه ينطبق على الشاطبي، فهو ينتمي أيضاً إلى النظام المعياري ولم يفكر ضمن دائرة التفكير الفلسفي، ولا يحمل أي أساس من أُسس هذا التفكير، بل على العكس إنه ينقد طـريقـة الفـلاسفـة ويعدّها مذمومة شرعاً. وإذا ما كان هذا الفقيه المالكي استخدم مبدأ الاستقراء للتوصل إلى فهم كلي لأُمور الخطاب الديني؛ فإن ذلك لا يؤثر في الأمر شيئاً ولا يخرجه عن خصوصيته المعيارية. إذ الأداة التي يستعين بها هي أداة صورية. وغالباً ما كان أصحاب هذا النظام يستخدمون مثل هذه الأداة لأغراضهم المعيارية، ومع ذلك لا يصح أن نعتبرهم من ذوي الاتجاهات الفلسفية أو الوجودية. فعملية الإنتماء لا تتحدد بالأشكال الصورية البحتة التي يمكن توظيفها هنا أو هناك، إنما تتحدد بالتوجهات التي تدفع بها الأُصول المعرفية المولدة، لحملها للرؤية والمنهج في الوقت نفسه. فمثلاً أن ابن حزم يخضع لحكم المنهج الظاهري البياني، من حيث أن سلطة اللفظ في نص الخطاب هي المتحكمة في اتجاهه طولاً وعرضاً، رغم استخدامه الطريقة الاستقرائية في التفتيش عن تعزيز معنى اللفظ داخل الحقل البياني، ضمن ما يتعلق بفهم الخطاب، ونفس الشيء يجري فيما يتعلق بالنتاج المعرفي الذي يقيمه على ذلك الفهم. فهو يوظف الاستقراء والمنطق كآلية صورية وليس كمعرفة قبلية تقبل التوليد والإنتاج. ونفس هذا الحال ينطبق على ما فعله الشاطبي. ويخطئ الجابري حين يرى أن من موارد نزعة الشاطبي البرهانية هو اتباعه لطريقة مقاصد الشريعة، إذ حاول أن يجد لها رباطاً بإبن رشد الذي طبقها على العقيدة، فظن أن الشاطبي أخذها عنه وطبقها على الشريعة، موحياً بنفي أن يكون لها قبل هذا الفيلسوف ذكر واعتبار. مع انه سبق لإمام الحرمين الجويني أن طرح هذه المقاصد، ثم جاء الغزالي (المشرقي) الذي ينتمي بنظره الى فئة (اللا معقول) أو (العقل المستقيل) فأثارها بقوة في مجال الشريعة وليس في مجال العقيدة كما لدى إبن رشد. فمما يقوله بهذا الصدد: «مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم». إضافة إلى أن المفهوم الذي حمله الشاطبي عن السببية هو المفهوم الأشعري باعتباره أشعرياً. إذ عنده أن المسببات من الله، لا من فعل المتسبب. وبالتالي فهو يفسر السببية طبقاً لـ (العادة) ويعدّ ما جاء به الأنبياء والأولياء من معاجز وكرامات عبارة عن خرق للعادات، وأن كل عادة يمكن تخلّفها: «فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها، والعقل لا يفرق بين خلق وخلق، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق، ولذلك قال بعض المحققين من أهـل الاعتبار: سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائـد لـيتفطن العـارفـون». فبهذا الاعتبار أقام تأسيسه لـلـخطاب الديني من الخارج، شبيهاً بما سبق اليه إبن حـزم. فبرأيه «لولا أن اطراد العادات معلوم لما عـرف الدين من أصـله، فـضلاً عن أن تعرف فروعه، لأن الدين لا يعرف الا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدّر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله. فإذا وقع مقترناً بالدعوة خارقاً للعادة؛ عُلم أنه لم يقع كذلك مخالفاً لما اطرد إلا والداعي صادق. فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطراراً، لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي، لكن العلم حاصل، فدلّ على أن ما إنبنى عليه العلم معلوم أيضاً. وهو المطلوب».
ج ـ ابن خلدون والإسقاط الأرسطي أما الحال مع إبن خلدون فهو أوضح. إذ إنه يؤيد علم الكلام ويعترف بإنتمائه إلى المذهب الأشعري، بل وينحاز إلى المسلـك الصوفي، في الوقت الذي يتنـكر للـفلسفـة باعتـبارها غارقة في الممارسات العقلية. وقد عقد فصلاً في مقدمته بعنوان (في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها)، الأمر الذي دفع بعض المفكرين إلى عدّه ممن قصد إلى إبطال العقل. بذلك يمكن اعتبار إبن خلدون مزيجاً مركباً من النظامين المعياري والوجودي معاً، حيث يجعل العقل المتمثل بعلم الكلام أداةً وقنطرة للنفس أو التصوف. فهو يضيف إلى النفس - كمقام للعلم - مقاماً آخر هو مقام الحال والإتصاف، فيرى أن المتكلمين قد أخطأوا حينما تصوروا أنهم يستطيعون الوصول إلى التوحيد المطلق عن طريق العقل، إذ برأيه أن العقل محصور نطاقه في هذا العالم الظاهر ومن ثم لا سبيل إلى معرفة التوحيد الخالص الا بالنفس عن طريق العرفان المفضي إلى المشاهدة والإتصال بالعالم الآخر. وهو الإتصال المباشر الذي تتحقق به السعادة. فهو على شاكلـة الغزالي يرى أن هناك جانباً باطنياً في الانسان، حيث يمكنه أن ينسلخ من طبيعته البشرية الظاهرة بكشف حجاب الحس والبدن ليصير من جنس الملائكة، وعندها يتلقى العلوم الغيبية فيشهد الملأ الأعلى ويسمع الكلام النفساني والخطاب الإلهي. وإذا ما كان هذا يحصل للأنبياء بلمحة البصر باعتبارهم مفطورين على الإنسلاخ من البشرية بالوحي؛ فإن سائر البشر يمكنهم تحقيق مثل هذا الإتصال بالاكتساب والتمرن على الرياضات الروحـية. بل إنه يكاد يكرر مقال الغزالي وطريقته، لا فقط من حيث إنتمائه إلى الأشاعرة ونقد الفلسفة وتحديده لمجال العقل وجعله قنطرة نحو العرفان، بل حتى في تصويره لكيفية المشاهدة العرفانية، إذ يذكر «أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح، وغالب سلطانه وتجدد نشؤه وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيّد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الادراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم الدينية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأُفق الأعلى، أُفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدركه سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم». وخلافاً لمزاعم الجابري ذهب إبن خلدون الى تزييف ما يسمى بالبراهين المنطقية التي تشدق بها الفلاسفة والمناطقة، وكشف عن مغالطتها وإلفات النظر الى ما تحمله من رؤية فوقانية (تراندستالية)، وذلك بالتمييز بين الإمكان العقلي الافتراضي والإمكان الواقعي، مثلما سبقه في ذلك ابن تيمية وما فعله الغربيون بعده بعدة قـرون. فإبن خلـدون ينقد تلك البراهين المدعـاة ويرى أن «ما كان منها في الموجودات الجسمانية، ويسمونه العلم الطبيعي؛ فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة، كما في زعمهم، وبين ما في الخارج، غير يقيني. لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها، ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، اللهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك، فدليله شهوده لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟... إنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه، فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا، فوجب تركها. وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي وعـلم ما بعد الطبيعة؛ فإن ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصل اليها، ولا البرهان عليها. لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية، حتى نجرد منها ماهيات أُخرى، بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها. ولا مدرك لنا في بإثبات وجودها، على الجملة، إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الانسانية، وأحوال مداركها، وخصوصاً في الرؤيا التي هي وجدانية لكل واحد. وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل الى الوقوف عليه. وقد صرح بذلك محققوهم، حيث ذهبوا الى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه، لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. وقال كبيرهم افلاطون إن الإلهيات لا يوصل فيها الى اليقين، وإنما يقال فيها بالأخلق والأولى، يعني الظن، وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط، فيكفينا الظن الذي كان أولاً، فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها؟!». هكذا فنحن طبقاً لـ (قوانين) الجابري واعتباراته، نكون قد رأينا مفارقات عديدة بين إبن خلدون وبين الفلاسفة ومنهم إبن رشد، فكيف حق له أن يجمع بينهما ضمن سقف واحد، بل ويدعي بأن إبن خلدون لا يقصد من نقده للفلسفة إلا فلسفة إبن سينا المشرقية. فلو كان هذا صحيحاً؛ لماذا رجّح التصوف على غيره من المسالك، بل واعتبره من العلوم النقلية، وهي العلوم التي تحظى بالاحترام والتقديس باعتبار أن مصدرها الشرع؟! وكذا اعترافه بعلوم السحر التي لا تمت الى (المعقول) بصلة. بل فوق كل هذا جاء مفهوم إبن خلدون للسببية مخالفاً لما عليه الحال عند الفلاسفة، إذ رآها لا تخرج عن العـادة ومستقرها، وبالتالي فهي لا تحمل آصرة الضرورة والحتمية. لذلك فهو من هذه الجهة يجعل من نفسه أسيراً للنظام المعياري، رغم الميول والإنحياز الذي يبديه نحو التصوف كمنهج للكشف والمشاهدة.
د ـ إبن طفيل والإسقاط الأرسطي على أن الجابري لم يخطئ في ضم كل من إبن حزم والشاطبي وابن خلدون ضمن قائمة (النظام البرهاني) فقط، بل أخطأ كذلك في ضمه لابن طفيل ضمن نفس القائمة بالرغم من باطنيتـه الصريحة. فهو استناداً إلى منطقه الآيديولوجي المؤسس على فكرة إبراز النزعة الوحدوية للتاريخ المعرفي لكل من المغرب والأندلس؛ اضطر إلى عدم الاعتراف بباطنية إبن طفيل وعرفانيته، إذ جعله فيلسوفاً على شاكلة إبن رشد، كي لا يتصدع نسق التفسير السياسي الذي بناه من منطلق كون الدولة الأموية في الأندلس سعت منذ بداية تأسيسها الى تبني النظام البرهاني الارسطي لمحاربة النزعتين البيانية والعرفانية اللتين تحكمتا في التفكير الآيديولوجي لخوصومها من العباسيين والفاطميين، وتابعها في ذلك دولة الموحدين بعدها، وهي التي شغل فيها ابن طفيل منصباً سياسياً كبيراً، مما يعني ان الدولتين - على رأيه - قد استهدفتا عن قصد ودراية تبني النظام البرهاني واقصاء العرفان منذ المشروع الحزمي وحتى الرشدي. *** هكذا قام الجابري بقلب العلاقات بين نزعات (اللحظة المغربية)، فبدلاً من أن يستخدم مفهوم (التوظيف) في علاقة أصحاب البيان والعرفان بالبرهان الأرسطي؛ استخدم مفهوم (التأسيس)، لكنه مع ذلك يفهم من (التأسيس) أحياناً ـ وكما يبدو ـ على أنه (توظيف)، مما يجعل شائبة الخلط تلوح المفهومين. فابن حـزم والشاطبي وغيرهـما من أصحاب (البيان) لم يؤسسوا البيان على العقل الأرسطي كما يفعل الفلاسفة، إنما وظّفوا بعض قواعده الصورية بما لا ينافي نظام البيان، بل يخدمه. وإذا كنّا عرفنا - فيما سبق - كيف أنهم أقاموا علومهم طبقاً لسلطة التجويز بالمعارضة مع فكرة السببية الحتمية التي تبنّاها الفلاسفة؛ فإنهم كذلك لم يتخلوا أبداً عن سلطة اللفظ. فظاهرية إبن حزم طافحة في هذا المورد، وكذا الحال مع الشاطبي الذي يرى بأن العقل لا يصح له أن يستقل عن الوحي. ونفس الشيء مع إبن خلدون. وكذا أنهم لم يتجاوزوا سلطة القياس إذا ما استثنينا إبن حزم لظاهريته. وعليه فماذا بقي عندهم من بنية ليتفقوا فيها مع الفلاسفة؟!
آيديولوجيا المشروع والواقع إن السبب الذي أفضى بالجابري إلى قلب المفاهيم والخلط بين المفكرين للحظة المغربية، يعود إلى ما يحمله من آيديولوجية (تأسيسية)، فهو يشترط على النهضة العربية التي يدعو لها أن تكون منتظمة طبقاً لتراث وحدوي وتاريخ استمراري، مثلما حصل في العالم الغربي. لكن حيث إنه لا يوجد عنده سوى لحظتين، مشرقية ومغربية، وأن الأُولى ما زالت حاضرة في تفكيرنا إلى يومنا الحاضر، وحضورها قد اقترن مع ظاهرة الإنحطاط الحضاري التي مرت بها الأُمة العربية والإسلامية دون أن تغيّر من الواقع شيئاً، الأمر الذي جعله يصبغ عليها جميع أنواع التهم، فهي بنظره لحظة لا عقلية، قوامها اللا معقول المتمثل أساساً بالنزعة السينية التي أدخلها الغزالي بصوفيته في الإسلام، والتي تمسك بها العرب قروناً عديدة فأخرجتهم خارج التاريخ، بخلاف الحال مع اللحظة المغربية لأنها سرعان ما غُيّبت ولم يظهر لها حضور واقتران مع ظاهرة الانحطاط، بل كان لها تأثيرها العميق على النهضة الغربية، خصوصاً فيما يتعلق بالفلسفة الرشدية.. فكل ذلك جعل من الجابري يراهن على هذه اللحظة التي تضم تلك الفلسفة ذات النزعة (العقلانية) القائمة على (البرهان)، مما اضطره إلى فرض تأويله واسقاطاته عليها كي تتم عملية الإلتحام والإحياء الحضاري من جديد، شبيه بما فعله العالم الغربي. وكأنه بهذا يستند إلى نموذج شاهد ليقيس عليه ما هو غائب ! فهذا هو السبب الأساس الذي دفع الجابري الى اسقاط مفهوم القطيعة المعرفية على التاريخ الفكري بين المشرق والمغرب العربي. فبرأيه أنه بدون هذه القطيعة يصبح التراث ميّتاً يعيق مسيرتنا المستقبلية. وهو بطريقته التاريخية هذه لم يعمل على خلط وجمع ذوي النزعات المتنافية كما رأينا، بل عمل كذلك على تفكيك وتهشيم العلاقة الوحدوية التي تربط بعض الاتجاهات بالبعض الآخر، حيث حوّلها إلى علاقة تضاد ومنافاة، كما هو الحال في فصله المطلق بين الفلسفة والعرفان، إذ جعلهما ينتميان إلى نظامين متنافيين لا يلتقيان، مع أنهما ـ إذا ما استعرنا لسان إبن رشد ـ عبارة عن توأمين متآخيين بالجوهر والغريزة، وهما يرضعان من ثدي واحد، ويشكلان نظاماً مشتركاً في قبال النظام (المعياري)، كما كشفنا عن ذلك في عدد من الدراسات.
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آليات قراءة النص الديني
-
صدور كتاب جديد ليحيى محمد بعنوان منطق فهم النص
-
علم الطريقة وفهم الخطاب الديني
-
مقارنة بين العقل المثقف الديني والعقل الفقيه
-
منطق السنخية والتنظير الفلسفي داخل الحضارة الإسلامية
-
مع مشروع نقد (نقد العقل العربي)
-
الفهم الديني: سننه وقوانينه وقواعده ومستنبطاته
-
القطيعة بين إبن سينا وأرسطو (قراءة في مشروع المفكر محمد عابد
...
-
ابن رشد وعلاقة الفلسفة بالدين
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|