|
لقطات من زيارة خاطفة
نضال الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 3069 - 2010 / 7 / 20 - 18:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يدفعنا نحن المغتربين لزيارة الوطن العربي وزيارة أهلنا وأصدقاءنا فيه، مزيج من الحنين والشوق والنوستالغيا، ونرجع من رحلتنا عادة بمزيج من الألم والتشاؤم والإحباط لما نجده هناك من علامات البيروقراطية والمحسوبية والفساد والتأخر.
إعتدت في الأعوام الأخيرة أن أزور الغردقة في مصر للإستمتاع بالبحر وهواءه الذي وصفه لي طبيبي لعلاج الربو الذي أبتليت فيه على كبر. واعتدت في كل زيارة أن أمر على العم حسنين، جامع القمامة، للإطمئنان عليه، ولقد كنت قد نشرت على هذا الموقع حكاية العم حسنين بعنوان" العم حسنين بين الحكمة والقمامة". لقد قمت بزيارة موقعه المعتاد في رحلتي الأخيرة فلم أجده. وجدت في مكانه رجلا آخرا، عندما نظرت إليه وجدته صورة طبق الأصل للعم حسنين بوجهه المجعد وعيونه الزائغة المتعبة، وعمامته الصفراء التي تغطي جزءا من رأسه الذي سقط منه الشعر وبقي كصحراء قاحلة، وفم ناشف الشفاه مشققة من التعب والحر والعطش والتي تكشف عن بقية أسنان صفراء تكاد أن تسقط من فمه من سوء التغذية. وقف متكئا على مكنسة لها عصاة من الخشب تماما كمكنسة العم حسنين وأمامه سطل قمامة من التنك معوج بابه كأنما أصابته سكتة دماغية. لم يكن ذلك الرجل العم حسنين ولكنه كان صورة طبق الأصل منه بكل تفاصيلها، فتذكرت ما قاله لي العم حسنين في آخر زيارة لي له : "مثلي مثايل يا دكتور، دحنا ملايين". وفعلا هناك في مصر العزيزة و في جميع أرجاء الوطن العربي ملايين وملايين من العم حسنين، تنظر إليهم فلا تستطيع أن تحدد أعمارهم لأن الفقر والقهر والمرض قد غطى وجوههم بطبقات من التجاعيد أخفت حتى ملامحهم الإنسانية وبدو كمخلوقات من خارج هذا الكوكب.
سافرت إلى الأردن لتصليح خطأ وقع في كتابة إسمي. في وثيقة حصر الإرث الذي خلفه لنا والدينا رحمة الله عليهما وقع خطأ في كتابة إسمي، فلقد كتب "نضال" وإسمي في الوثائق الثبوتية مركب " محمد نضال". حاول أخي تصليح الخطأ في الدوائر الرسمية بناءا على وثائق ووكالات مصدقة أرسلتها له ففشل، وكان علي الحضور إلى الأردن بنفسي من أجل تصليح الخطأ. كنت أعتقد أن وجودي مع الأوراق الثبوتية والهوية وجواز السفر ودفتر العائلة يحل المشكلة ولكن إعتقادي كان مخطئا. لقد بدأت عملية سباق الماراطون المكوكية و البيروقراطية بين الدوائر والوزارات والتي إستمرت أياما وأياما كان علي فيها أن أضع أعصابي في ثلاجة وأن اصبر على حمق الإجراءات التي تخرج عن كل منطق ومعقولية. تقدم طلبا وتدخل على مسؤول في غرفة رقم سبعة فيضع الموظف ختمه على الطلب ويدعوك للذهاب إلى الغرفة رقم عشرة حيث يضع الموظف على الطلب رقما يسجله في السجل موظف آخر في غرفة أخرى، وهكذا تنتقل من غرفة إلى غرفة وكل مسؤول يضيف على الطلب مكرمته الغالية. ثم تنتقل من وزارة إلى وزارة ومن دائرة إلى دائرة وتعيد الكرة في عملية مكوكية مرطونية توصلك في كثير من الأحيان إلى حد الإنهيار. كنت أتنقل بين الدوائر والوزارات تحت أشعة الشمس الحارقة وفي يدي بخاخ لعلاج أزمة الربو الذي يرهقني وأشعر في كثير من الحالات بإنقطاع نفسي وأنني ما عدت بقادر على التحرك فأقف لحظات لاهثا لأعيد قواي إلى جسدي وأتابع الرحلة المكوكية. حتى أخي الذي يعرف خبايا الدوائر بصفته من أهل عمان والذي من المفروض أنه إعتاد على هذه البيروقراطية القاتلة، إرتفع ضغطه حتى خفت أن يصيبه مكروه. نتيجة هذا السباق الماراطوني المكوكي كانت وثيقة مصدقة من المسؤولين المختصين أنني بإسمي ورقمي الوطني، الرجل الوحيد في الأردن ولا يوجد إسم آخر بتلك المواصفات وأن نضال الموجود في وثيقة حصر الإرث هو محمد نضال المنقور في الوثائق الثبوتية. وكان على المحكمة الشرعية بناءا على ذلك أن تقر بهذه الحقيقة وتقوم بالإجراءات الللازمة. دخلت بالوثيقة على القاضي الشرعي في المحكمة الشرعية الذي هز رأسه وطلب مني أن أذهب إلى الغرفة رقم كذا في الطابق الثالث وهكذا عدت إلى ماراطون مكوكي عبثي جديد عدت بنتائجه إلى سيادة القاضي. طلب مني أن أذهب إلى غرفة الطباعة في الطابق الثالث حتى يطبعوا لي وثيقة الإقرار بالإسم. صعدت إلى الطابق الثالث وبعد إنتظار ممل تفضل علي أحد الموظفين بطباعة الوثيقة المطلوبة. عندما عرضتها على القاضي أعادني لطباعتها من جديد عدة مرات لوجود خطأ إملائي في الطباعة، مرة بسبب فتحة وأخرى بسبب همزة وهكذا. رحت أجري من الطابق الأرضي إلى الطابق الثالث وبالعكس مستعينا بالبخاخ الذي كنتت أمسكه بيد والأوراق باليد الأخرى وبين لحظة وأخرى كنت أضعه في فمي وأبخ الدواء لعله يساعدني على التنفس، فالربو في حالة التعب والحر يتأزم ويرفض الإستجابة للدواء. ولم يرحم سيادة القاضي ضيق تنفسي واللهثة التي كانت تخنقني. لم أجد رحمة في المحكمة الشرعية لا لعجوز ولا لمريض ولا لحامل. بعد أن إنتهينا من كل ذلك وأحضرت لسيادة القاضي الوثيقة مطبوعة بدون أخطاء، طلب مني أن أحضر شاهدين حتى يشهدا على أنني هو انا. لم يكتف بالوثيقة التي تؤكد على إنفرادية إسمي والصادرة من الوزارة المختصة، ولم يكتف بالهوية التي تشير إلى هويتي ولا بجواز السفر ودفتر العائلة. لم يكتف بكل هذا، كان علي أن أحضر إثنين حتى ولو كانا غريبين ومقابل ثمن، ليشهدا أن أنا هو أنا وذلك، حسب ما قال القاضي، هو حكم الشريعة الإسلامية، ولا مجال للإعتراض على الشريعة الإسلامية لأنها من عند الله ولا علاقة للعقل والمنطق بما يفرضه الله. عند خروجي من المحكمة الشرعية وقفت في بابها ونظرت إلى الوراء وقلت في نفسي:" كان عندي أمل في أننا سنخرج قريبا من المأزق الفكري والحضاري الذي نحن فيه ولكن المحكمة الشرعية قضت على هذا الأمل"، وخرجت من المحكمة مهموما ومحبطا.
عندما تزور الأهل عليك أن تتوقع أنك في فترة وجودك ستشارك في بعض الأعراس كما ستشارك في بعض الجنازات وتحضر دورأفراح كما تحضر دور عزاء، فهذه هي الحياة، أفراح وأتراح، أعراس وجنازات. جرت العادة أن ينصب أهل الفقيد خيمة كبيرة يستقبلون فيها المعزين. كما جرت العادة أن يقوم أحد رجال الدين أو من له دراية به ليلقي خطبة يتحدث فيها عن الفقيد ويطلب له الرحمة والغفران. وفي كثير من الأحيان يستغل بعض الدعاة الغرباء المناسبة للتبشير بآراءهم ومعتقداتهم. لفت إنتباهي أن معظم الخطب تتحدث عن الموت والقبور وعذاب الآخرة حتى أن السامع يخرج من العزاء وعنده شعور بأن الموت يلاحقه وأنه مسرع إلى قبره. لم أسمع خطبة تتحدث عن الحياة وجمالها وكيف علينا أن نعيشها ونستمتع بعطاياها من دون أن نؤذي أنفسنا أو نؤذي الآخرين. إن شعبا يفكر بالموت ويلاحقه شبح الموت وعذاب الآخرة لهو شعب غير قادر على العيش ولا على السعي لتحسين مستوى معيشته. ليس هناك من دافع يدفعهه كي يتعب ويجد ويجتهد من أجل حياة أفضل لأن الموت يلاحقه وأجله قريب.
في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الدول المتحضرة، تقام الطرق العامة لخدمة جميع المواطنين وهي ملك للجميع ولا يحق لأحد، مهما كان، أن يستولي على هذه الطرق ويستغلها لمآربه الخاصة. في مساء أحد الأيام كنت عائدا وأخي في سيارته إلى البيت عندما فوجئنا بأن الطريق مغلقة. عندما سألنا عن السبب علمنا أن صاحب أحد البيوت يحتفل بتخرج إبنه فأقام في وسط الشارع العام خيمة لاستقبال الضيوف والإحتفال بهذه المناسبة وبذلك حرم المواطنين من إستعمال الطريق للوصول إلى بيوتهم . نصب الخيم على الطرق العامة للإحتفال بالمناسبات المختلفة وخاصة الأعراس هي عادة شائعة في الأردن. وفي كثير من الأحيان تنصب الخيم على مفرق الطرق الرئيسية في الحي مما توقف حركة المرور ويضطر سكان الحي لإستعمال الطرق الإلتفافية البعيدة كي يصلوا إلى بيوتهم. هذا الحجر التعسفي قد يستمر لأيام وليالي، تطلق فيه العيارات النارية إلى جانب الغناء والرقص والدبكة، ولن تنفع شكوى أهل الحي للمسؤولين ومنهم رجال الأمن، لأن جوابهم يكون دوما: " دعوهم يفرحون". وعندما تقول ليفرحوا ولكن ليس على حساب راحة الآخرين يتهموك بأنك أناني لا تتمنى الفرح لجيرانك. ماذا نتوقع من مواطن تغمره الأنانية والفردية، يقوم بلإحتلال التعسفي للطرق العامة لكي يحتفل بتخرج إبنه أو بنته أو بزواجهما، ضاربا عرض الحائط بمشاعر أخوانه ومواطنيه وحقوقهم؟ ماذا تتوقع من مسؤول يجيز هذا التعسف وأي مستقبل تتوقعه لمثل هذا البلد؟
جاء يوم العودة إلى مكان السكن والذي ندعوه مكان الغربة وجلست في مطار عمان أنتظر موعد الدخول إلى الطائرة وفي مخيلتي أفكار وأحاسيس متضاربة. جئت إلى أهلي في الوطن مشتاقا وأعود إلى أهلي في الغربة مشتاقا تتضارب في داخلي الأحاسيس والشعور بالإحباط لما خلفته خلفي. دخلنا الطائرة في الوقت المحدد تماما وأغلقت أبوابها وأعلن الطيار عن الإستعداد للرحيل وطلب منا ربط الأحزمة. تحركت الطيارة على أرض المطار مسافة طويلة وبدأت محركاتها تزمجر إستعدادا للطيران وفجأة صمتت المحركات وعم الطيارة السكون. قلت "يا إلهي، تعطلت محركات الطيارة". ولكن الطيارة لم تتعطل فلقد أعلن الطيار أن طيارتنا أمرت كما أمرت جميع الطيارات التي على أرض المطار وكانت على أهبة الإستعداد للإقلاع بالوقوف وإطفاء المحركات لأن رجلا مهما يزور المطار ويتحرك على أرضه. بقينا في الطائرة أكثر من ساعة والمحركات مطفأة والتكييف لا يعمل، وبدأ الأطفال يبكون ويصرخون وسال العرق على وجوه الركاب واستعملت الجرائد والمجلات كمنشات للهواء. أما أنا المصاب بالربو فقد بدأت بالإختناق ولم ينفع البخاخ في تخفيف حالتي البائسة وبدأ رأسي في الدوران وتسارعت ضربات قلبي حتى خيل إلي بأنه سيغمى علي. بعد مرور ساعة وربع من العذاب والألم أعلن الطيار أنه سمح للطيارة بالتحرك والإقلاع. لقد تلطف المسؤول الكبير بمغادرة المطار وتلطف مسؤولو المطار بالسماح للطيارات بالمغادرة. تحركت الطيارة وبدأت ترتفع في الجو. نظرت من النافذة إلى وطني فوجدت معظم أراضيه صحراء قاحلة، ونظرت إلى المدن فإذا هي كم من الحجارة، ثم نظرت إلى الناس فرأيتهم نقط سوداء تائهة بدت تتلاشى عن نااظري رويدا رويدا حتى إختفت. أغلقت ستار النافذة وأغمضت عيني وبدأت أحلم بربيع جديد يزداد فيه الخضار ويقضي على الصحراء الفكرية قبل أن يقضي على الصحراء الرملية .
د. نضال الصالح
#نضال_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قتلوه ولم يمشوا في جنازته
-
حب من الماضي
-
عالم المجانين
-
مستشفى الأمراض العقلية وعالم المجانين
-
العم حسنين: الحكمة والقمامة
-
عبدالرحيم عمر: الشاعر، الصديق والإنسان
-
البحث عن الذات
-
قصتي مع جابر بن حيان
-
كيف تتكون الهالة حول الجسم وما علاقتها بصحته
-
اليهود الخزر
-
وحدة المخابرات العربية
-
المرأة والجنس في الديانة اليهودية
-
المتقاعد
-
الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟
-
رقة الغزل وعفة السلوك
-
ذئاب بلحية ومسبحة
-
جنَ الفلم فاحترقا
-
دفاعا عن الحائط
-
هل ماتت الإشتراكية وإلى الأبد؟
-
طوشة الموارس
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|