منذر الفضل
الحوار المتمدن-العدد: 3067 - 2010 / 7 / 18 - 23:15
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المسؤولية القانونية للشركات الاجنبية عن جرائم الإبادة في حلبجة
الدكتور منذر الفضل
-1-
معاقبة المسؤولين وتعويض المتضررين
المسؤولية وجمعها مسؤوليات , وتعني من الناحية اللغوية تبعة ما يجعل المرء ملزما بعواقب أعماله ومطالبا بما فعل , مما يوجب عليه التعويض عن خطأ أو الاضطلاع بأعباء أو إنجاز وعد ( المنجد في اللغة العربية المعاصرة ص 640 دار المشرق 2001 ) . وجاء في موقع آخر ( منجد الطلاب – الطبعة 36 ص 297 ) إن المسؤولية ما يكون به الانسان مسؤولا ومطالبا عن أمور أو أفعال أتاها .
أما في علم القانون فأن تعريف المسؤولية يختلف عن المفهوم اللغوي . فاذا كان التعريف اللغوي للمسؤولية يحصرها بالشخص الطبيعي وهو الانسان , فأن المسؤولية من الناحية القانونية تشمل الشخص الطبيعي والشخص المعنوي . أي إن الخطأ قد يرتكب من إنسان وهو الشخص الطبيعي أو ان يقع من شخص معنوي مثل الشركة او الجمعية او المؤسسة أو الوزارة أو الدولة . كما قد يقع الخطأ من شخص ويتحمل تبعاته شخص آخر فيكون ملزما بدفع التعويض فضلا عن العقوبة وفقا للقواعد العامة في القانون المدني والقانون الجنائي .
فالمسؤولية يقصد بها قانونا المؤاخذة أو المحاسبة عن فعل أو أمر ما , وجزاء ذلك التعويض او العقاب والتعويض معا , سواء كان فعلا إيجابيا أم سلبيا ( كالجريمة الواقعة بطريق الترك في علم القانون الجنائي ), وهذه المحاسبة التي يقررها القانون تسمى ب ( المسؤولية القانونية Legal Responsibility) , وتتفرع هذه المسؤولية حسب الاختصاص القانوني , وبعبارة أخرى فأن العمل غير المشروع الذي حصل في مدينة حلبجة مثلا ( والتي هي موضوع بحثنا ) يشكل جريمة عمدية دولية تصنف ضمن عمليات الابادة الجماعية , وجريمة حرب , وكذلك جريمة ضد الانسانية جرى أرتكابها بقصد جنائي أي عن سبق الاصرار والترصد .
ولا يمكن أن ترتكب جريمة دولية بدون القصد الجنائي لأنها من الجرائم التي ترتكب بطريقة متعمدة , ولهذا يقرر القانون الجنائي المسؤولية الجنائية على كل من ارتكب وشارك وسهل وقدم التجهيزات والعتاد الخاص ومن أصدر الاوامر وخطط ونفذ الفعل او الاعمال مما يشكل افعالا جنائية خطيرة تستحق العقاب فضلا عن دفع التعويضات للمتضررين .
وإذا كان جزاء قيام المسؤولية الجنائية هو العقاب على جميع هؤلاء , فأنه لا يجوز العفو عنهم ولا تخفيف العقوبة الصادرة ضدهم , ولا يجوز منحهم حق اللجوء ولا تسقط جرائمهم بالتقادم أو بمرور الزمان طبقا لاتفاقية منع إبادة الاجناس والمعاقبة عليها لعام 1948 التي انظم اليها وصادق عليها العراق , ووفقا لقانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 , وللقوانين والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق ذات الصلة بالموضوع , واستنادا لقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل .
كما لا يجوز محاسبة البعض من المسؤولين عن هذه الجرائم وترك البعض الاخر لان ذلك مخالف للقانون وإنتهاك لقواعد العدالة . ولهذا من المؤسف ان يعطل بعض السياسيين العراقيين تنفيذ أحكام القضاء العراقي الصادرة من المحكمة الجنائية العراقية العليا ضد من ارتكب هذه الجرائم الدولية الخطيرة وهو سلوك غير مقبول وإنتهاك للدستور العراقي .
واذا كانت المحكمة الجنائية العراقية العليا قد أصدرت أحكامها في قضية حلبجة يوم 1-3-2010 ضد بعض المتورطين بهذه الجريمة البشعة , إلا أن هناك العديد من الاشخاص العراقيين والاجانب ممن تمكن من الافلات من العقاب , ونقصد بهم كل من شارك أو ساهم أو نفذ هذه الجرائم أو زود او سهل للنظام البائد في الحصول على السلاح الكيمياوي الذي جرى استعماله ضد الشعب الكوردي في هذه المدينة التي قتل فيها أكثر من خمسة آلاف مواطن , وأدى الهجوم الى جرح عشرات الآلاف من السكان المدنيين , مات بعضهم من جراء هذا القصف وما يزال يعاني الكثير منهم ممن بقي على قيد الحياة من مشكلات صحية مؤلمة تجعل حياتهم الطبيعية صعبة وهم يحتاجون للعلاج والتأهيل والرعاية . وقد جرت محاكمة أحد المواطنين الهولنديين المتورطين بهذه الجرائم في هولندا كما سنبين ذلك لاحقا .
وبالاضافة الى هؤلاء الاشخاص المسؤولين عن هذه الجريمة , هنالك عشرات الشركات الاجنبية التي كان لها دورا كبيرا في تزويد النظام البائد بالسلاح الكيمياوي وبالغازات السامة وبالاسلحة الاخرى المحرمة دوليا لم تجر محاسبتها حتى الآن وظلت بعيده عن العقاب رغم صراحة النصوص التي تعاقب على هذه الجرائم الدولية .
واذا كانت هذه الافعال الاجرامية - أي استخدام الاسلحة الكيمياوية ضد السكان المدنيين الكورد - توجب العقاب طبقا للقواعد سالفة الذكر , فأنه من جهة أخرى تنشأ عنها مسؤولية مدنية , أي وجوب التعويض عن الضرر للمتضررين , سواء لمن بقي على قيد الحياة ويعاني من تأثير الاصابات الجسدية والصحية والنفسية , أو للورثة بالنسبة لمن فقد حياته , فضلا عن الاضرار البيئية للمنطقة التي تعرضت للهجوم , فهذه الاعمال الاجرامية أضرت بالبساتين وبالمزروعات والحيوانات والمواشي وأتلفت البيوت والأبنية في مدينة حلبجة مما يستوجب التعويض عن هذه الاضرار أيضا طبقا لقواعد المسؤولية المدنية التي تقوم بتوفر أركانها وهي ( الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما ) .
وفي ضوء ما تقدم , فأن ما حصل في مدينة حلبجة من هجوم عسكري منظم من القوات العسكرية العراقية اثناء حكم صدام وحزب البعث يوم 16-17 اذار من عام 1988, هي سلسلة من الجرائم الدولية من صنف الإبادة للجنس البشري ومن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية . ولن ندخل هنا في تحليل مفهوم الجريمة الدولية إذ سبق أن بيناه في العديد من الدراسات والمحاضرات في المؤتمرات الدولية والبحوث المنشورة لنا ذات الصلة بهذا الموضوع , وإنما نريد تناول الموضوع من زواية أخرى , وهي مدى مسؤولية الأطراف التي ساهمت في هذه الجريمة , وتحديدا الجهات الاجنبية التي قامت بتزويد النظام البائد بالمواد والسلاح الكيمياوي المحرم دوليا والذي جرى استعماله في هذه المدينة وغيرها من مناطق كوردستان والتي مازالت بعيدة عن المساءلة القانونية .
-2-
وزارة مكافحة الحشرات
تركت كل من الحرب العالمية الاولى والثانية , اثارا بليغة على البشرية وخلفتا دمارا هائلا من جميع النواحي ولم تتمكن الدول التي خاضت هذه المعارك من التخلص من أثارها بسهولة . إلا ان هذين الحدثين العالميين حفزا العقل البشري للتوصل الى العديد من الاكتشافات المفيدة والضارة على مستقبل الانسان .
ففي ميدان الحروب والتسلح كانت معامل صناعة الغازات السامة والاسلحة الكيمياوية المختلفة والنووية احدى هذه الاكتشافات التي أضرت كثيرا بالبشرية وبالأمن والسلم الدوليين . ولم تتوقف عمليات إنتاج واستعمال هذه الاسلحة رغم تحريم استعمالها من المجتمع الدولي بسبب الاضرار التي تتركها على الانسان والبيئة وعلى مستقبل الاجيال , حيث جرى استعمالها في حروب اخرى وقعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية , وكان من أطول وأخطر الحروب في تاريخ البشرية في القرن الماضي والتي استعملت فيها بعض الانواع من الاسلحة المحرمة دوليا هي الحرب العراقية – الايرانية التي استمرت من عام 1980-1988 والتي ما تزال اثارها قائمة حتى الان رغم مرور اكثر من عقدين على توقفها طبقا لقرار مجلس الامن الدولي رقم 598 لسنة 1988 .
وقد انتهكت المعارك التي وقعت خلال الحرب المذكورة جميع قوانين الحرب والاتفاقيات الدولية ومنها معاهدات جنيف لعام 1925 والاتفاقيات اللاحقة ذات الصلة , واهدرت كل القيم الانسانية والمعايير الاخلاقية وسببت المآسي بل الكوارث التي ما يزال يعاني منها ملايين البشر في العراق وايران .
ففي أثناء الحرب , قامت ايران بزج مئات الآلاف من الناس ومن مختلف الاعمار وعلى شكل أمواج بشرية متتابعة بديلا عن كاسحات الالغام العازلة بين قوات الدولتين , وللهجوم على القوات العراقية وتدميرها وفتح منافذ للقطعات البرية الايرانية , وكانت أغلب هذه الامواج البشرية تحمل مفاتيح الدخول الى الجنة مع صور الخميني نتيجة عمليات غسيل الدماغ التي جرت لها , وكانت تؤرق الدفاعات العراقية على طول جبهات القتال في الحدود الشمالية و الوسطى والجنوبية . وفي المقابل كان نظام صدام وحزبه النازي يقوم بعمليات التجارب للاسلحة الكيمياوية والجرثومية على السجناء السياسيين في سجن أبو غريب والرضوانية ونقرة السلمان والسجون السرية , وبخاصة على الكورد الفيليين بهدف تطوير صناعة الاسلحة الفتاكة ومعرفة درجة تاثيرها ونتائجها ضمن معامل سرية وبدعم من بعض الشركات الاجنبية.
وبهدف وقف الزحف البشري للقوات الايرانية المهاجمة ولغرض إيقاع أبلغ الخسائر بها وقلب موازين القوى لمصلحة نظام صدام وقواته , أصدر صدام شخصيا الأوامر باستعمال العتاد الخاص , والمقصود به تنفيذ الضربات بالسلاح الكيمياوي وبالغازات السامة ضد القوات الايرانية المهاجمة لايقاع أكبر الخسائر بها ووقف المد البشري المهاجم وتحقيق النصر العسكري السريع . وهو ما تحقق في مناسبات كثيرة من المعارك حين كانت تبلغ ضراوتها حدها الاقصى , حيث جرى استعمال هذه الاسلحة خلال سنوات الحرب الثمانية في معارك مختلفة منها مثلا في معارك هور الحويزة ومعارك الفاو في الجنوب , ولكن كان اشدها خطورة هي استعمال الاسلحة المذكورة في يومي 16-17 اذار من عام 1988 على مدينة حلبجة في كوردستان العراق وراح ضحيتها حوالي 5 آلاف مواطن وعشرات الآلاف من الجرحى وتسببت في احداث الكثير من الاضرار المادية في الابنية والثروة الحيوانية وفي البيئة , ولا يعرف حتى الآن مدى هذه الاضرار وثأثيراتها المستقبلية في المنطقة.
والسؤال المطروح هنا كيف حصل صدام على هذه الاسلحة المحرمة دوليا ؟
ومن هي الاطراف الخارجية التي شجعته على استعمالها ضد ايران وضد الكورد في كوردستان وضد الشيعة في الجنوب ؟
وما هي الشركات الاجنبية التي زودت النظام البائد بهذه الاسلحة ؟
في خلال الحرب العراقية – الايرانية والتي اشتدت ضراوتها في عام 1987 والذي سمي بعام الحسم , اي عام حسم المعركة من جانب نظام صدام وقواته العسكرية , اكتشفت السلطات الاسبانية المختصة في احدى مطاراتها صناديق خشبية كبيرة معدة للشحن بطريق الجو الى العراق وقد كتب عليها عبارة :
(( مواد كيمياوية مستوردة لحساب وزارة مكافحة الحشرات في العراق )).
ومن المعروف , لا توجد وزارة في العراق ولا في غيره من الدول وزارة تحت هذا الاسم , وقد كانت هذه المواد قد وصلت من شركات أجنبية قامت ببيعها للعراق وشحنت عبر طرق ومطارات متعددة حتى وصلت الى اسبانيا كجزء من عمليات التمويه والتضليل بسبب قيود فرضتها كثير من الدول لمنع تزويد طرفي الحرب بالاسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا . وقد استغل نظام صدام ثغرة عدم توقيع العراق على اتفاقية منع استعمال الاسلحة الكيمياوية وحظر انتشارها , وكذلك تقديم المغريات المادية للشركات الاجنبية التي زودت النظام بهذه المواد المحظورة وتجنيد مئات العملاء من جنسيات اجنبية وعربية وعراقية فضلا عن جهود سرية فاعلة للمخابرات العراقية ووكلائها والسفارات العراقية في الخارج من أجل الحصول على كل شئ مهما كان الثمن لحسم المعارك وخروج نظام صدام منتصرا من هذا المستنقع .
ومن الجدير بالذكر إن المجتمع الدولي والعديد من الاجهزة الاستخبارية الدولية اكتشفت فيما بعد تضليل وخداع نظام صدام واساليب المراوغة التي اتبعها للحصول على مختلف انواع الاسلحة خلال فترة الحرب وما بعدها ومنها عدم وجود وزارة في العراق تحت اسم وزارة مكافحة الحشرات , كما ان المواد الكيمياوية ذات الاستعمال المزدوج استعملها صدام لاغراض الحرب وليس للاغراض السلمية كما كان يروج ويدعي , و جعل من بعض خطوط معمل الادوية في سامراء مصنعا لانتاج الاسلحة المحرمة دوليا . يضاف الى ذلك إن النظام المذكور استغل أبنية وزارة الزراعة مثلا لخزن مئات الوثائق عن اسلحة الدمار الشامل ومنها السلاح الكيمياوي وجعل من أقبية ودهاليز وغرف المستشفيات وأبنية المدارس مقرات عسكرية ومعامل لصنع وخزن الاسلحة الكيمياوية والغازات السامة .
ولم ينظم و يصادق العراق على ( اتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيميائية ) إلا في 12 فبراير من عام 2009 حيث أودع صك الانضمام للأمم المتحدة وأصبح العضو رقم 186 في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية إعتبارا من التاريخ المذكور .
-3-
تحريك الدعاوى ضد الشركات الاجنبية و الاشخاص المتورطين بالجريمة
تشير الكثير من الوقائع الى أن العشرات من الشركات الاجنبية – كذلك الوسطاء والوكلاء لها - لعبت دورا تجاريا بعيدا عن الاخلاق والقيم الانسانية وخلافا للقانون الدولي في تزويد نظام صدام بالخبراء العسكريين والفنيين وبالاسلحة الكيمياوية والغازات السامة وباليورانيوم المنضب وبكل شئ يدعم ماكنة الحروب لنظام صدام وحزبه النازي مقابل مغريات وعروض مالية ونفطية وغيرها . ومن الدول التي ساعدت صدام في ميدان الخبراء العسكريين وبالسلاح الكيمياوي والاسلحة المحرمة دوليا أثناء الحرب العراقية – الايرانية هي بعض الدول العربية , بل ان ممثل دولة الكويت الشقيقة في مجلس الأمن الدولي حينذاك وبعد ضرب مدينة حلبجة عام 1988 أكد أمام المجلس المذكور بأن نظام صدام لم يستعمل السلاح الكيمياوي ولا الغازات السامة في الحرب ! . كما إن صدام أرسل وفودا عراقية رسمية الى مختلف دول العالم ( ومنها السويد وبريطانيا ) لكي تنفي وتبرئ ساحته من استعمال هذا السلاح المحرم ضد سكان حلبجة .
إن هذه الشركات الاجنبية , تعرض البعض القليل منها للمحاسبة القانونية في الدول المسجلة فيها لأنها خرقت القانون الوطني لبلد المنشأ , بينما لم تحاسب شركات أجنبية أخرى , إما لأنها غيرت اسمها أو جرى تصفيتها مع إنتهاء الحرب المذكورة عام 1988 أو كانت شركات وهمية أو انها من الشركات القوية المملوكة للدولة التي قامت بتزويد نظام صدام بهذه الاسلحة .
ولعل من المفيد التذكير بالدول التي ساعدت نظام صدام بالحصول على السلاح الكيمياوي وبالواقيات من الضربات الكيمياوية والغازات السامة وفي مقدمتها الشركات الهولندية , حيث كشفت أحدى تقارير الأمم المتحدة عام 1997 بأن نسبة 45% من المواد الكيمياوية التي حصل عليها نظام صدام خلال الحرب العراقية – الايرانية كانت من هذه الشركات , كما تأكد ذلك من خلال وقائع محاكمة تاجر السلاح الهولندي (عميل المخابرات العراقية ) فرانس فان انرات رئيس شركة انرات في هولندا والذي حكم بالسجن لمدة 15 عاما في 23 ديسمبر 2005 بتهمة تسهيل ارتكاب جرائم حرب و بسبب تزويده نظام صدام بهذا السلاح , علما انه كان يحمل جواز سفر عراقي وباسم آخر مختلف عن اسمه الحقيقي المدون في جواز سفره الهولندي وكانت تعاونه امرأة فلسطينية تحمل أيضا جواز سفر عراقي باعتبارهما من عملاء المخابرات العراقية .
ووفقا لتصريحات ممثل الادعاء العام الهولندي التي ادلى بها خلال فترة المحاكمة عام 2005 ، فإن "فرانس فان انرات"، كان قد بدأ بشراء المواد الكيميائية من اليابان مع شريك ياباني يدعى "هيسجيرو تاناكا"، وفيما بعد من الولايات المتحدة ، ثم نُقلت هذه المواد بحرا ؛ عن طريق مواني "أنتيروب"، و "روتردام" إلى ميناء "العقبة" الأردني ، ومن هناك، نُقلت برًّا إلى العراق . وحين عرض على هذا المجرم فيلم حلبجة خلال المحاكمة بقى صامتا ولم يبد أي ندم او احساس بالتأثر للجريمة .
كما تشير وقائع المحاكمة المنشورة الى وجود اسماء اخرى من الشخصيات المالكة للشركات الهولندية التي زودت النظام السابق بهذا السلاح ومنهم المليونير الهولندي هانز ميلكرز صاحب مجموعة ( ميلشيمي ) التي تنتج الاسمدة ومبيدات الحشرات والآفات الزراعية .
والى جانب ذلك- وحسب المعلومات المنشورة - هناك العديد من الدول التي قامت بتزويد نظام صدام بالخبراء أو بالمواد الكيمياوية اللازمة لانتاج الاسلحة المحرمة دوليا , ومن هذه الدول : المانيا , الولايات المتحدة الامريكية , البرازيل , استراليا , مصر , فرنسا , السويد , نيجريا , البرتغال , الصين , روسيا , وكوريا الجنوبية ( وبخاصة شركة هونداي ). وقد كان للدكتور عامر حمودي السعدي وزير الصناعة ومستشار صدام للشؤون العلمية , ولسفير العراق في المانيا عبد الجبار عبد الغني دورا فاعلا في الحصول على هذه الاسلحة من الشركات الالمانية .
ومن الجدير بالذكر , إن أغلب الشركات الاجنبية التي زودت نظام صدام بالمواد الكيمياوية كانت تنتج أو تتعامل في ميدان الاسمدة الكيمياوية ومبيدات الحشرات والآفات الزراعية والصناعات الكيمياوية وفي تجارة المواد الكيمياوية ذات الاستعمال المزدوج التي يمكن استعمالها في الحرب و السلم , وكانت جميع أو معظم هذه الشركات تعلم بأن هذه المواد سوف لن يستخدمها صدام للاغراض السلمية !
والسؤال المهم هنا هو : كيف يمكن تحريك الدعاوى القانونية على هذا العدد الكبير من الشركات والأطراف الأجنبية ؟ وما هي الجهة المختصة بالنظر في هكذا دعاوى ؟
للجواب على ذلك وطبقا لرؤيتنا القانونية , نقول إن تحريك الدعاوى على هذه الشركات يتطلب مايلي :
1- توفير الوثائق والادلة القانونية من داخل العراق ومن الدول التي تعمل فيها هذه الشركات .
2- تشكيل فريق عمل من الخبراء القانونيين العراقيين وبخاصة من اقليم كوردستان وبالتنسيق مع وزارة شؤون الشهداء والمؤنفلين في حكومة الإقليم لدعم ومساندة المحامين أو شركات المحاماة في الدول التي توجد فيها هذه الشركات المتهمة بالجرائم والتي ستحرك الدعوى ضدها أمام المحاكم المختصة .
3- توفير الامكانات المالية من اجور الاتعاب ومصاريف الخبرات المقدمة والمصاريف الاخرى .
4- الطلب من الجاليات الكوردية والعراقيين المقيمين في دول العالم لتقديم ما لديهم من معلومات عن الشركات والوكلاء والوسطاء والاشخاص المتورطين بهذه الجرائم وتزويد وزارة شؤون الشهداء والمؤنفلين بهذه المعلومات .
5- تكثيف الجهد الدبلوماسي من الحكومة الاتحادية العراقية وتعاون السفارات والقنصليات العراقية أيضا وصولا الى الهدف المنشود .
ومن جانب آخر , وفيما يتعلق بالمحاكم المختصة بالنظر في هذه القضايا , فأن إختصاص محكمة العدل الدولية ومقرها لاهاي في هولندا ينحصر في حل النزاعات بين الدول طبقا لنص المادة 34 من النظام الاساسي للمحكمة التي جاء فيها مايلي : ((1- للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافاً في الدعاوى التي ترفع للمحكمة)).
وعلى هذا الاساس لا يجوز عرض النزاع على المحكمة المذكورة إلا باتفاق الدولتين المتنازعتين معا , على أن تقوم المحكمة بحل النزاع بينهما . ولهذا لا يمكن للعراق بمفرده أن يحرك الدعوى على أية دولة لها دور في تزويد نظام صدام بهذه الاسلحة التي استعملت في حلبجة إلا باتفاق الدولتين , كما لا يمكن تحريك الدعوى أمام ذات المحكمة اذا كان الطرف المتهم ليس دولة ذات سيادة وإنما شركة اجنبية أو شخص طبيعي مثل الوسيط والوكيل والعميل أو الممثل للشركة الاجنبية .
لهذا نرى أن الطريق القانوني السليم والاسرع في محاسبة الشركات والحصول على التعويضات هو في توكيل المحامين أو شركات المحاماة في الدول المتورطة بهذه الجرائم لإقامة الدعاوى أمام القضاء المحلي الاجنبي وفقا للادلة القانونية المتوفرة , على أن يتم ذلك بالتنسيق بين لجنة الخبراء القانونيين ووزارة شؤون الشهداء والمؤنفلين في إقليم كوردستان وبين شركات المحاماة أو المحامين في هذه الدول المذكورة .
ومن الطبيعي إن تحريك هذه الدعاوى تجد لها سندا قانونيا قويا , كما إن المطالبة بالتعويضات عن الاضرار يمكن أن تكون بمبالغ مالية كبيرة جدا , لأن الاضرار التي حصلت على مدينة حلبجة ليست قليلة , ولأن هذه الشركات المتهمة هي مليئة من الناحية المالية وتقع عليها مقومات المسؤولية القانونية , وبالتالي فهي تستحق العقاب ودفع التعويضات المالية للمتضررين , فضلا عن وجوب قيامها بتوفير المعالجات الطبية والنفسية لمن بقي على قيد الحياة طبقا لما ستقرره المحكمة المختصة .
كما نعتقد إن المبررات القانونية والانسانية التي توجب تحريك الدعاوى على الشركات والوكلاء والوسطاء ومن تورط بتزويد نظام صدام بهذه الاسلحة المحرمة دوليا تقتضيها قواعد العدالة , إذ مايزال هناك الكثير من المسؤولين عن هذه الجرائم لم يمثلوا أمام القضاء ولم تجر محاسبتهم حتى الآن , فضلا عن وجود اعداد كبيرة من المتضررين داخل كوردستان وفي المنافي لم يحصلوا على التعويض عن الضرر , كما إن التلوث البيئي من المواد الكيمياوية والالغام يتطلب امكانات مالية وخبرات فنية لمعالجتها ويجب أن تتحملها – طبقا للقانون العراقي والقواعد الدولية – الشركات الأجنبية ووزارة المالية في الحكومة الاتحادية العراقية طبقا للمسؤولية التضامنية عن هذه الجرائم التي لا تسقط بمرور الزمان .
والدليل القانوني على مسؤولية الخزينة الاتحادية للدولة العراقية في دفع التعويضات عن جرائم النظام السابق , هو أن هذه الخزينة دفعت وتدفع حتى الآن التعويضات للعديد من الدول والشركات الاجنبية ولمئات الآلاف من الاشخاص الذين تعرضوا للضرر من جراء احتلال نظام صدام لدولة الكويت عام 1990 وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي واحكام المحاكم في بعض الدول , رغم سقوط ذلك النظام وزوال حزب البعث من السلطة .
---------------------
روابط ذات صلة :
1- منظمة حظر الاسلحة الكيميائية OPCW ومقرها في لاهاي – هولندا
اتفاقية حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية وتدمير تلك الأسلحة
إعمال اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية
http://www.opcw.org/ar/chemical-weapons-convention/
وأنظر حول نزع السلاح الكيميائي وعدم إنتشار الاسلحة الكيميائية والتعاون الدولي وعالمية الاتفاقية
http://www.opcw.org/ar/documents-reports/browse-by-topic/
2- النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ( القضاء الدائم )
http://www.icj-cij.org/homepage/ar/
3- اتصل بي هاتفيا من المانيا أحد الاخوة من ضحايا الاسلحة الكيمياوية في حلبجة وهو السيد مجيد حبيب الطائي وهو عربي من مدينة الصدر في بغداد وكان من المناهضين لحكم صدام ويعمل ضمن المعارضة الشيعية وقد هرب الى الحرية في كوردستان بأعتبارها ملاذا آمنا للعراقيين الاحرار ودخل مدينة حلبجة لكي يتخلص من بطش الحكم الاستبدادي , إلا ان الاقدار شاءت ان يكون شاهدا على جرائم صدام في قصف حلبجة الشهيدة بالسلاح الكيمياوي والغازات السامة حيث كان أحد ضحاياها , وهو ما يزال يعالج من أثار هذه الضربة منذ عام 1988 وحتى اليوم متنقلا بين المستشفيات الايرانية والالمانية . والغريب انه يتمتع بمعنويات عالية ولا يفكر بحقوقه المشروعة في التعويض المادي و المعنوي بقدر تفكيره في توثيق جرائم صدام وحزبه النازي , وقد كتب مقالا يروي فيه ما تعرض له يوم 16-17 اذار من عام 1988 . ويمكن الاطلاع على حالته مفصلا من خلال مقالته الموسومة ب ( مات الكيمياوي ...ومازلت حيا ) المنشورة في مواقع متعددة :
http://www.akhbaar.org/wesima_articles/articles-20100126-84224.html
4- للمزيد من التفاصيل المثيرة حول الحرب العراقية – الايرانية وحجم الخسائر والضربات الكيمياوية والدول التي ساعدت صدام راجع الكتاب المهم لوزير الدفاع المصري : الحرب العراقية – الايرانية – المشير عبد الحليم ابو غزالة – 1994 ص 6 ,ص 60 ,ص 66 , ص172 , ص 239 , ص 241 حول استعمال غاز الاعصاب والغازات السامة من الجانب العراقي ضد القوات الايرانية .
#منذر_الفضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟