|
سلوك القطيع وسيكولوجيا الحشد
رائد الدبس
الحوار المتمدن-العدد: 3067 - 2010 / 7 / 18 - 20:06
المحور:
المجتمع المدني
"إن الملاحظات هي تاريخ الفيزياء ، والأنظمة هي الحكاية"./ مونتيسكيو.
كُتِبَ وقيل الكثير عن سلوك القطيع وسيكولوجيا الحشد و"ثقافته"، لكن لا بأس من الكتابة والتذكير مجدداً . فليست الكتابة في هذا الشأن من باب ممارسة الترف الفكري، بل هي ضرورة دائمة في ظل ما نعاني من مشاكل وما نواجه من تحديات كبيرة، ومن تعثّر وعجز عن تحقيق نهضة وبناء مجتمعات مدنية ودول حديثة. من المفيد والضروري أن يتأمل الإنسان سلوكيات قطيع أو قُطعان من الكائنات الحيّة الأخرى ، فالإنسان يتميز عن باقي الكائنات بميزة ونعمة العقل. وأولى وظائف العقل هي التأمل والملاحظة . فالتأمل إذن وظيفة وواجب عقلي وليس ترفاً. الواجب الوظيفي جزء من منظومة تكوين العقل البشري ولا حضور لهذا العقل بدونه.
إذا تأمل الإنسان في سلوكيات أي قطيع من الكائنات الحية، فسوفَ يرى كيف يُساق القطيع ولا يَسوق ، يُساس ولا يَسوس ، يُحذى ولا يَحذي ، فلا بد للخيل من سائس يسوسها ويحذي سنابكها... يُحدى القطيع ولا يَحدي، فلا بد لقافلة العيس من حاد يَحدوها ... لا يُصغي القطيع إلا لعازف واحد مُنفرد على آلة وحيدة منفردة . وأياً تكن الفكرة التي يُساقُ القطيع من أجلها : أصولية دينية متطرفة، أم شمولية لادينيّة متطرفة تدعي لنفسها صفة " الكلّويّة " والكمال، أم عرقية وطائفية منغلقة أو قبلية وإن اتخذت لنفسها أشكالاً حداثية، فإن القطيع هو القطيع وإن اختلف لونه .
يُباع القطيع ويُشترى فُرادى أو جماعات ولا يدري من سيكون سيدهُ ومالكهُ الجديد ، فهو لا يملك قرارهُ وهكذا دواليك.. يسير القطيع ويأكل ويشرب ويلهو وينام ويقضي كل احتياجاته البيولوجية على نحو جماعي ، ولا يشعر بالسكينة والطمأنينة إلا ضمن القطيع لكنه سرعان ما يتفرق ويهرب فُرادى ، والهرب للنجاة بالنفس هوالسلوك الفردي الوحيد الذي يُتقنه القطيع بصورة غريزية . الفردية وهي سمة من سمات الإنسان ، لا يمتلكها القطيع أبداً إلا في حال الهرب للنجاة بالنفس ... فلا يمكن لأي كائن حي في القطيع أن يتخيل نفسه خارج القطيع لأن ذلك يتنافى مع نمط السلوك الذي اعتاد عليه وهو أنه مجرد جزء من قطيع وليس فرداً في حد ذاته ، فلا قيمة له إلا ضمن القطيع ، لكنه يشعر غريزياً أن الأضعف والأقل حظاً سوف يَمضي إلى قَدره دون أن يحميه القطيع ، لذا فهو جبانٌ عديم الإرادة سهل الافتراس وسريع الاستسلام ، ولا قيمة أبداً لمعنى التضامن لديه رغم أنك لا ترى القطيع إلا مُجتمعاً .
يصرخ القطيع جماعياً ولا يقول شيئاً . يُساق إلى الذبح بصورة جماعية لكنه يُذبح فُرادى ، وخلال عملية ذبح كل فرد من أفراده يعلو صراخهُ جماعياً من شدة الخوف من مصير الذبح المحتوم وعزاء كل فرد أن سكين الذبح لم تصل رقبته بعد . هكذا ، بالتواتر وبصورة تلقائية يتحول الأمر إلى ما يُشبه اللامبالاة وانعدام الشعور وصولا لدرجة القسوة اللاواعية الفظّة والفظيعة طالما أن السكين لا يزال بعيداً عن الرقبة وبالتالي فلا وجود لمفهوم الضمير الجماعي بل مجرد غريزة القطيع . لذا فقد قال الأديب والمربي الفرنسي الشهير آلان في كتابه " أحاديث عن التربية" : "القسوة تتضاعف بفعل الحشد (القطيع) ولذا فهو يَمضي لحضور عذابات يخاف منها ."
القطيع يُكرس أنماطاً من السلوك اللاواعي واللامُفَكر فيه ، وتصبح تلك الأنماط قواعد جامدة لا يُمكن الخروج عنها . كما يُكرس أنماطاً من الغريزة تكون جاهزة عند الحاجة وبما أنه لا يمتلك ميزة التفكير فإنه يستعيض عنها بنمط سلوكي غريزي مُحدد وموروث لا يُمكن أن يَخضع للتفكير أو إعادة النظر أو المقارنة ، لكن هذا النمط يُنتج أشكالا نمطية من ال "فوبيا" . فلدى القطيع فوبيا الخوف الهستيري وعدم الثقة بكل ما يراه جديداً من الأشياء والكائنات الأخرى . فهو لا يملك قدرة التمييز بين الصديق والعدو ، السمين والغث ، النافع والضار ، بين السيل وغُثائه ، بين الخطر الحقيقي وما يُشبهه ، والخ .. أي أن سلوكه يَخلو دوماً من التمييز ، ويجنح نحو التعصب والانغلاق والأصولية والطائفية وكل أصناف الجهل والضحالة. فليس غريباً أن ترى قطيعاً من الكلاب ينبح على ضوء القمر . أو أن ترى سرباً من الغُربان يُهاجم نسراً جريحاً وحيداً...أو أن ترى غُراباً بشريّاً مُقنّعاً يهتفُ فوق جثة أخيه ..!!
القطيع لا يتصرف إلاّ وفقاً لاحتياجاته الآنيّة العاجلة في الزمان وفي المكان ، لا يَعرف ولا يَملك القدرة على تأجيل أو ترتيب أولويات احتياجاته ، ولا يَملك القدرة على التدبير والمراكمة التي تُحول الكمية إلى نوعية ، وكأن لسان حاله يقول : عَيشني اليوم وموّتني غداً.. فهو لا يَمتلك ميزة التخطيط والتنظيم ، والشكل الوحيد للنظام الذي اعتاد عليه غريزياً هو وجوده على هيئة قطيع . وهو قد يألف الحظيرة (المكان)ويستأنس بها لأنها تَمنحهُ شعوراً بالأمن والطمأنينة لكنه لا يَنتمي لها انتماء واعياً أو مُدرَكاً إدراكاً بل عَبر شعور غريزي سرعان ما يتبدد ويتحول نحو حظيرة أخرى بلا ذكريات أو حنين ..!
يَمتلك القطيع حاسة شمّ قوية غريزياً ، ويستخدمها لاستشعار الخطر عن بُعد أو للاستدلال والتعرف إما على قرين له أو على فريسة مُحتمَلة . وفي كلتا الحالتين لا يمكنه استخدام تلك الحاسّة القوية لأغراض لها علاقة بنظام يربط الحواسّ ببعضها ويمنحها فاعلية وجمالاً ..فهو يعاني من فوضى الحواس وفُقدان جماليتها وفاعليتها ، لأن اقتصار الحاسة القوية على محاولة تأمين الوجود والبقاء هو ما يجعل القطيع يَحيا ويمارس كينونته البيولوجية بلا ذائقة جمالية وبلا معنى .
يُلجمُ الحيوانُ باللجام ،ويوضع له حول عينيه ما يُسمى بالعامية الفلاّحية الدارجة " حَجّابات" تَحجب الرؤيا إلا باتجاه واحد ، كي لا يَحيد نظره يميناً أو يساراً خلال تنفيذ مهمة الحرث...
غريزة القطيع لدى الكائنات الحية ، طورت نظائرها لدى أرقى الكائنات : الإنسان . فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائناً بيولوجياً اجتماعياً ، فرداً منتمياً للمجتمع أو الجماعة البشرية ، يُطورها وتطوره ، يُقدرها وتقدره ، يَسمعها فتسمعه ، يُعطيها وتعطيه ،يَسوسها وتَسوسه ، يتفق معها ويختلف .. وفي كل ذلك يبقى النظام هو الفيصل والحكم .
غريزة القطيع التي لا علاقة لها بالنظام الإرادي الواعي ، تتسرب إلى سلوك الناس عبر ما يُسمى احتراماً لعقل الإنسان : سيكولوجيا الحشد و "ثقافة الحشد" . سيكولوجيا الحشد تطلب من عقل الإنسان أن يَستريح وأن يكون مجرد سَند للحشد وألا يَجتهد ، بل أن يَتذاكى على أقرانه من الحشد ، وأن يُمجد الحشد ويهتف ويتآمر معه ضد أي حشد أو فرد آخر( وخصوصاً إذا كان ذاك الحشد أو الفرد" الآخر" يتحلى بميزات إنسانية ومواهب أفضل) ..!!
سيكولوجيا الحشد هذه لا تبتعد كثيراً عن غريزة القطيع ، فهي لا تفترض تعليم من انخرطوا في سياقها أن يمارسوا التفكير والعمل بروح الفريق بل مُجرد الظهور بمظهر الفريق ، ويُصبح كل عضو في الحشد مَعنيّاً بالحصول على منافع الظهور ضمن الحشد وعندما يَجدّ الجد ، فكل عضو في الحشد يفكر بنفسه وبنجاته ، ويلوذ في صمت مُطبق. فإذا نظرنا إلى أسباب فشل معظم تجاربنا السياسية والفكرية في العالم العربي، من القومجية إلى الاشتراكية-اليسارية إلى الإسلاموية، سنجد أن سيكولوجيا الحشد واحدة من تلك الأسباب. لأنّ سلوك الحشد البشري يُشبه في هذه الحالة سلوك القطيع في ابتعاده عن إعمال العقل والتفكير الحر، وفي ابتعاده عن مفاهيم التضامن الإنساني الواعي، وفي نزوعه الدائم نحو إضفاء سحر التكريس والتقديس على شخصية "أمير" القطيع، والشعور بالدونية أمامه . لكن هذا السلوك الخالي من الكرامة والشجاعة لا يَمنع أفراد القطيع من ممارسة "دونيّة المُتعالي وغطرسة الوضيع " على حد تعبير شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش .
الحشد البشري يضم أعضاء متفاوتي الذكاء والمواهب والمهارات ، لكن الحشد يَخلق مناخاً مواتياً كي يتصرف كل منهم بمواهبه وذكائه منفرداً لذاته ، مُتظاهراً بالحشد ومُتدثراً به . الحشد لا يُنشئ نظاماً بل يُعادي النظام . لا ينشئ مجتمعاً مدنياً بل يكرس أنماط التخلف السائدة فيه. لا يُعزز تضامناً إنسانياً واعياً مُستنداً للعقل والضمير بل مُجرد تواطؤ غرائزيّ . لا يُربي انتماءً واعياً بل مجرد تعصّب . لا يُنمي شخصية الفرد بل يَطمُسها ويُبرز أسوأ ما فيها. لأنّ كل فرد في الحشد يسعى أن يقول : أنا أُمثّل الحشد والحشد يُمثلني ..!! وإذا ما شعر أحدهم أن الحشد لم ينصفه ولم يقدر "مواهبه" حق قدرها، فسرعان ما يعلو صراخه بالطريقة وبالنبرة الصوتية ذاتها التي يمارسها الحشد.
سيكولوجيا الحشد تنمّي لدى أفراده عادات سيئة مثل الإكثار من الادعاءات والتشكي والتظلّم ، وليس ممارسة النقد الواعي أو المعارضة المنظمة . . وعندما تصبح هذه العادات مزمنة فإنها تؤدي لتضخم "الأنا" لفظياً كتعويض نفسي عن الشعور الحقيقي بقلة القيمة وانعدام الفعل الإيجابي. وهذه السيكولوجيا المدمرة، يُمكنها على نحو غير مُفَسَّر، وعبر طرائق تحتانية وباطنية وضيعة ، أن تحوّل أي فرد فيها ( أو من خارجها إن شاءت) من مُخطئ إلى مُصيب ومُحق. من عديم مواهب إلى أكبر موهوب ومُبدع . ومن ظالم إلى مظلوم . . .والعكس صحيح تماماً.
وباختصار شديد : إن سيكولوجيا الحشد البشري هي النظير المُشع أو النسخة المُعدّلة وراثياً عن سلوك القطيع ... لكنها لا تُسمن ولا تُغني من جوع ولا تؤمن من خوف...والاعتماد عليها لا يَجلب نفعاً بل يُسبب ضرراً محضاً . "فما يَنفع الناس يَمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب هباءً.." وتبقى الملاحظات هي تاريخ الوجود البشري ، ويبقى النظام هو الحكاية .
#رائد_الدبس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وفزّاعة التوطين!!
-
سياسة العمق الاستراتيجي لتركيا وحصار غزة
-
ما بعد رياح السماء ودلالاتها.
-
محاكم التفتيش الجديدة والثقافة الاعتباطية.1-
-
حوار الأديان -3 :دور الجامعات ومراكز البحث العلمي في بلادنا
...
-
حوار الأديان: هل يستطيع الفارس أن يجري أسرع من جواده؟(2)
-
حوارُ الأديانِ : هلْ يستطيعُ الفارسُ أن يجريَ أسرعَ منْ جواد
...
-
مقال
-
السباحة في بحر الفيسبوك
-
تأملات في قضية المرأة .
-
الثقافة الوطنية وحالة - أمير حماس الأخضر-.
-
فولكلور سياسي
-
دروس دبي.
-
إسرائيل ومسلسل كيّ الوعي الفلسطيني.
-
أطراف نهار -الأيام- الفلسطينية ونقطة ضوئها.
-
بُرقع الوجه وبُرقع العقل.
-
في ذكرى رحيل حكيم الثورة الفلسطينية . 2/2
-
في ذكرى رحيل حكيم الثورة الفلسطينية.
-
قطر-الجزيرة ومقاييس قوة الدول
-
بين الواقع المرّ، وفتاوى التحريض.
المزيد.....
-
منظمة حقوقية تشيد بمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائي
...
-
بايدن يعلق على إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتني
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وجالانت لأ
...
-
كندا تؤكد التزامها بقرار الجنائية الدولية بخصوص اعتقال نتنيا
...
-
بايدن يصدر بيانا بشأن مذكرات اعتقال نتانياهو وغالانت
-
تغطية ميدانية: قوات الاحتلال تواصل قصف المنازل وارتكاب جرائم
...
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|