|
نقد الخطاب الديني، التفكير والتكفير واللعب على المكشوف
سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 3067 - 2010 / 7 / 18 - 11:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يتمتع نقد الفكر الديني في الثقافة المصرية، والجدل فيه من منظورات مختلفة، بنكهة خاصة مميزة، لا نجد لها مثيلا في حواضر عربية أخرى. فالفكر النقدي المصري يستطيع أن يجد له، على رغم التكفير والحصار، سندا اجتماعيا وحاضنة ثقافية مقبولة في هيئة أفراد ومؤسسات علمية لم تفقد رجاحتها وحصافتها، وإن تكن ضعيفة نسبيا، قياسا بقوة الحاضنة التكفيرية وسلطتها. إلا أنها على رغم ذلك، تشكل ركيزة ايجابية مساعدة في مجال إنتاج الأفكار الخلافية وتوليدها وترويجها. في مثل هذا المناخ يمكن الجرأة الفكرية الفردية أن تجد سندا في مؤسسة ثقافية ما، ووسط اجتماعي ما، يمكّنانها من إنجاز خطابها وإظهاره علناً أولاً، والدفاع عن حقها في ممارسة الخطاب ثانياً، والحصول على بعض المناصرة التي تنجّيها من الوقوع في اليأس المطبق ثالثاً. لهذا فإن الجدل الديني في البيئة المصرية يكتسب الى جانب طابعه التنويري، صبغة التحريض، وهي وظيفة أساسية من وظائف تحرير العقل الاجتماعي. ففي المجتمع المصري ينتقل الجدل الى منابر عالية السقوف بيسر، وقد ينتقل من الجدل المحض الى الفعل بشكل مباغت، ومن القول الى الاجراء الحسي، حينما يصل الجدل الى حد التكفير الاجتماعي، وليس التكفير العقلي فحسب، كما حدث في واقعة نصر حامد أبو زيد، التي اندفع فيها التكفير الى السلطة القضائية، ليسجل حكما تجريميا اجتماعيا، بُني على خلاف عقلي خالص. إن التفريق الزوجي، فعل عقابي، ذو طبيعة عائلية، تتجاوز حدود الفاعل (المختلف عقليا)، وليس حكما خاصا بمصير المدّعى عليه الفردي، وبمسؤولياته الفكرية الشخصية. هذا الأمر يجعل الجدل في البيئة المصرية، كما أسلفنا، تنويريا وتحريضيا في الوقت عينه، أي يجعله موضوعا فكريا وصراعا اجتماعيا. ومن خصوصيات الجدل في البيئة المصرية، أنه يملك حق التجوال في التاريخ الفكري والديني بحرية نسبية لا يجدها كثيرون غيره، وبشكل خاص في البلدان التي تضع حسابا جديا للعلاقات بين الطوائف الإسلامية. ففي مصر يمكن الدخول في عمق التفكير السلفي لـ"الجماعة"، من دون تحفظ طائفي. والجماعة كما هو معروف هي الصورة العليا للاقصاء السياسي التاريخي في الثقافة الإسلامية، لأنها الإطار الاحتكاري للشرعية العقائدية من وجهة نظر معتنقيها. عدا دراساته ومحاضراته وترجماته، ربت مؤلفات أبو زيد على عشرين كتابا، جمعها إطار واسع، لكنه محدد منهجاً ومادة: البحث في مناطق القوة والضعف في الفكر الإسلامي، وفي التجربة التطبيقية الإسلامية عامة والعربية خاصة. في هذا الحقل ظهرت أهم مؤلفاته عن النص والتأويل والمنهج التشريعي والتصوف، التي يمكن اعتبارها الإطار النظري العام الذي تحركت على رقعته أفكاره الأساسية، التي شكلت في مجملها حلقة مهمة وضرورية من حلقات تطوير الفكر النقدي العربي المعاصر. الرد على التكفير بالتفكير على الرغم من أن العديد من أفكار أبو زيد "المثيرة"، المتعلقة بالنص والحاكمية والتنزيل والتأويل أمور مطروقة ومعروفة عربيا، ولا جديد فيها من حيث الجوهر، سوى إعادة انتاجها وتجديد ملامحها واغناء صورتها الخاصة، إلا أنها اكتسبت في البيئة المصرية صوتا عاليا، سهل سماعه قوميا. من هنا تحظى أفكار أبو زيد بأهمية مضاعفة في السجال من أجل انتصار العقل والتنوير في الثقافة العربية. في هذا المناخ انطلقت صرخة التكفير ضد فكر أبو زيد، وانطلقت معها موجة من الجدل الفكري الحيوي، الذي شغل المجتمع المصري والعربي، جارّاً إياه، لبعض الوقت، من سبات التفكير، ومن لجة الاضطراب والانغمار في متابعة حركة المد الإسلامي الصاعد بقوة، والمد المعادي للاسلام عالميا. المدّعون، المطالبون بتطبيق أحكام الردة، استندوا قضائيا على بعض مؤلفات أبو زيد: "الإمام الشافعي وتأسيس الايديولوجية الوسطية"، "مفهوم النص: دراسة في علوم القران" و"نقد الخطاب الديني". الكتابان الأول والثاني، وردا في صحيفة الاتهام لتضخيم أسباب الدعوى لا غير. أما الموضوع الأساسي فهو كتاب "نقد الخطاب الديني". بيد أن الطريف في هذه الواقعة أن هذا الكتاب، الذي كاد أن يكون الجزء الرئيسي من مادة الاتهام، لم يكن مجهولا لدى القراء ذوي الاطلاع، فقد سبق لأبو زيد أن نشره فصولا في 1998 و1999، ولم يثر نشر تلك الفصول هلع المتعصبين. لماذا أضحت مادة الكتاب فجأة مادة للخصام والتكفير؟ الإجابة متشعبة، بعضها يتعلق بالمتابعة الثقافية، ومنها ما يتعلق بحجم المادة وسبل نشرها. وربما لعب عنوان الكتاب دورا خاصا في جذب الأنظار اليه، وتحفيز الآخر المغاير. وقد أضاف أبو زيد الى هذه الملاحظات ما هو أطرف، أن خصمه الرئيسي في المحاججة عبد الصبور شاهين، كان كتب في عام 1966 بعض الأفكار في الفكر الإسلامي تتناحر تماما مع تهمه الموجهة الى أبو زيد. إن تفسير هذه الظاهرة يكمن في أن درجة الاحتمال والصبر وصلت الى نهايتها لدى من يتربصون بالكاتب وبفكره، وأن الأوان آن لغرض تقديم ضحية جديدة على مذبح التكفير. ويفسر أبو زيد أسباب اتخاذ كتابه "نقد الخطاب الديني" مادة للاتهام بالقول: "نجح "نقد الخطاب الديني" في أن يعكس لعبد الصبور شاهين ولأمثاله صورتهم، إن على مستوى الخطاب أو على مستوى السلوك، وهذا ما يفسر حالة الذعر التي أصابته حين رأى صورته منعكسة على سطح مرآة" (نقد الخطاب الديني، ص 116). تهم قديمة لتكفير جديد لخص أبو زيد أهم مواضع الاتهام الموجهة اليه، وحصرها في النقاط الآتية: 1- الاتهام بأنه خص نصوص القرآن والسنة بالعداوة والرفض والتجاهل. رد أبو زيد على هذه التهمة: "التحرر من سلطة النصوص كما هو واضح، دعوة للتحرر من سلطة أضفاها بعضهم على هذه النصوص، حين جعلوها نصوصا خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات، وهي دعوة للفهم والتحليل والتفسير العلمي القائم على التحليل اللغوي للقرائن السياقية المعقدة للنصوص" (ص 154). 2- الهجوم على الصحابة: اتهام عثمان بتوحيد قراءات القرآن لصالح قريش، في كتابه "مفهوم النص"، الذي لم يتعرض للنقد إلا لاحقا. وتركزت محاولات التكفير حول مبدأ خلق القرآن وقدمه. وكان الكاتب تناول في كتاب لم ينقد "فلسفة التأويل" الحرف القرآني، الذي أثار إشكالات إضافية أيضا. 3- إنكار مصدر القرآن الإلهي، الذي رأى فيه أبو زيد: "إتهام باطل، وهو الذي سوّغ مسألة عداوة النص القرآني وسهل تصديقها من جانب النقلة والاتباع". 4- إنكار مبدأ الخلق والغيب. وهو موضوع فهمه المكفّرون خطأ. 5- الدفاع عن الماركسية والعلمانية. 6- الدفاع عن رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية". وقد أبدى أبو زيد رأيا صريحا فيها: "رواية رديئة من المنظور الأدبي والجمالي، والروايات الرديئة يتجاهلها النقاد فتموت موتا طبيعيا، لكن الضجة التي أثارها الخميني لحشد الجماهير خلف قضية وهمية أعطت الرواية قيمة نابعة من هذا السعار الذي تلبس البعض لقتل الكاتب" (ص 58 "نقد الفكر الديني"). اللعب الفكري على المكشوف عقب حادثة التكفير توصل أبو زيد الى اقتناع جديد مفاده أن النقد يجب أن يتجاوز حدود التوفيقية، ويصل الى مداه الكامل، الذي سماه "اللعب على المكشوف". ففي تقسيمه مجموعات النقد الإسلامي، التي جعلها ثلاثاً: أصحاب العقل الثابت (تشبه فكرة أدونيس غير المعمقة عن الثابت والمتحول)، والنقد العلماني اليساري، والوسط، رأى أن ما يعرف بالوسط "يحاولون في الحقيقة حل إشكالية الصراع بين السلطتين بإغلاق نافذة المقاومة الفكرية، النافذة التي يطلق الجميع عليها اسم العلمانية، وذلك لأنها ببساطة نافذة الفكر الذي يناهض الشمولية بكل صورها، ويقف ضد ارتهان الحاضر في أسر الماضي من جهة، وضد تبعيته المطلقة للعدو من جهة أخرى... وقد آن الأوان للعب على المكشوف لحسم القضايا على أرض الفكر. آن الأوان لكي نناقش مفهوم العلمانية ومفهوم الاسلام معا، وربما نجد أن الاسلام دين علماني لو أحسنّا الفهم والتدبير: تدبير النصوص والتاريخ والواقع في الوقت نفسه" (ص 40، "التفكير في زمن التكفير"). ويمضي أبو زيد قائلا: "قررت أن الخلاف بين "الاعتدال والتطرف" في بنية الخطاب الديني ليس خلافا في النوع، بل هو خلاف في الدرجة، وكان من أهم الأدلة التي استندت عليها لإثبات هذا الحكم أن كلا من الخطابين يعتمد "التكفير" وسيلة لنفي الخصم فكريا عند المعتدلين، ولتصفيته جسديا عند المتطرفين، وإذا كنت قد امتنعت في ذلك الكتاب عن استنباط وجود أي نوع من التعاون أو "تقسيم العمل" بين التيارين فإنني هنا أقرر – بضمير مستريح – أن هذا الضرب من التعاون و"التعاضد" قائم بالفعل على مستوى الخطاب على الأقل" (المصدر السابق، ص 61، ط1 دار سينا، 1995). بيد أن هذا الوعد لا يكاد يتحقق على نحو واضح وملموس في المحاججات المتعلقة بالالحاد والنظريات الغربية غير الدينية والفلسفات والاتجاهات اللادينية. فقد ظلت صيغة الانكار والتبرير هي السائدة. وهذا ما لم يحدث في التنوير الغربي، الذي لم ينكر وجود الالحاد ووجود المذاهب والنظريات اللادينية، أو يتستر عليها. من مظاهر هذا التبرير الدفاعي، الموقف من نعت الماركسية بالالحاد. يقول أبو زيد: "ما يعنينا الكشف عن توظيف آلية "رد الظواهر الى مبدأ واحد" في الخطاب الديني، وقد ألمحنا الى اختزال الماركسية في الالحاد والمادية، فليس مهما على الاطلاق في أي سياق ورد قول ماركس إن "الدين أفيون الشعوب"، وليس مهما كذلك أن يكون هذا القول موجها الى الفكر الديني والتأويل الرجعي للدين. لا الى الدين ذاته، بل المهم أن يؤدي هذا الاختزال غاية ايديولوجية. وهذا يؤكد الخطاب الديني- بمثل هذين التأويل والاختزال- مقولة ماركس، في حين أراد أن يدحضها، وبالطريقة نفسها يتم اختزال الداروينية في مقولة يصوغها الفكر الديني بشكل منفّر وهي حيوانية الانسان، ويتم بالمثل اختزال الفرويدية في "وحل الجنس" (ص 83). ويشير أبو زيد هنا الى سيد قطب في كتابه "الاسلام ومشكلات الحضارة"، الذي يرى أن ماركس جعل الإنسان مخلوقا ضئيلا أمام إله الاقتصاد أو إله الانتاج. وسيد قطب، كما أحسب، يصر على تأليه مبادئ الخصم، حتى لو كان هذا الخصم ملحدا. فكل مبدأ هو ربّ لديه، كما لو أن عقله موشور يعكس العالم بصيغة الآلهة. فالخلل لديه لا يكمن في الاختزال فحسب، وإنما بإلباس المغاير دينا بديلا. فهو يعتقد أن التنوير قام بـ"تأليه العقل". ويكرر سيد قطب الأمر التأليهي بقوة سافرة حينما يسترسل في كتابه "معالم في الطريق": "وقد اتخذ الإنسان له آلهة من دون الله، فاتخذ من المال إلها، ومن المادة إلها، ومن الانتاج إلها، ومن الأرض إلها، ومن الجنس إلها، ومن الهوى إلها". إن الفكر النقدي مطالب بتحليل هذا النمط من التفكير تحليلا علميا، وعدم الاكتفاء بالسخرية منه، أو نعته بالسطحية، أو الجنوح الى الدفاع السلبي في مواجهة كل ما يصدر منه. سخر أبو زيد أيضا من سخرية بعض المحاججين الإسلاميين المعترضين على الوصية المسيحية الكبرى: "من ضربك على خدّك الأيمن أدر له الأيسر"، ولم ينظر في موقف فرويد، الذي عدّ هذه العبارة مقرفة وغبية بشكل لا يصدّقه عقل، لأنها تتضمن جوهريا علاقات قائمة على العدوانية والخضوع وما يلازمهما من عوارض مرضية. أحد مواطن القلق في الخطاب التنويري في "نقد الخطاب الديني" و"التفكير في زمن التكفير"، وهو واحد من عيوب الفكر اليساري العربي عموما، محاولة تنزيه كل ما يتم نقده سلفيا، وعلى وجه التحديد إسلاميا. إن محاولة تخفيف إلحادية الماركسية مثلا لا تعدو أن تكون دعابة في نظر قراء ماركس العارفين، لا يمكن إمرارها على أحد بيسر، ولا يجوز اللعب بها بحثيا. أما كون الماركسية فكرا ماديا، فهذه ليست فرية دينية، إنها الخصيصة الأساسية التي وضعها ماركس على رأس منظوره الفلسفي حينما ربطها بالجدلية؛ وكذلك الحال مع ما يعرف بالعلمانية، التي تكون فكرة فصل الدين عن الدولة الحجر الأساس في بنائها، وهي الركيزة المادية، التنفيذية، لفكرة التعدد الفكري والاختلاف. مارس الفكر التنويري والتحريضي الأوروبي "لعبة الصراع على المكشوف" بطرق أخرى، مغايرة تماما لطرق متنورينا التسترية الانكارية، لا تقوم على التبرير أو ردود الفعل العقلية والسجالية، إنما على أساس قوة الحقيقة كما هي: إلحادية الماركسية، وغرائزية الفرويدية، وطبيعية الحياة العضوية الداريونية، وتجريبية لوك، وغيرها. لقد أوقع الخطاب التبريري جمهورا واسعا من دعاة ما يعرف بالعلمانية، في موجة عنيفة من التبلبل الفكري، جعلته لا يعرف الى أي مسار يسير، وفي يد من يضع يده، وفي أي بقعة ينقل خطوته المقبلة. هذه البلبلة العظيمة ناتجة من الانغماس في موجة اتخاذ التفكير وسيلة لا لإنتاج ما هو مبتكر وجديد، بل وسيلة، تقترب من حدود الغاية، للسجال حول العقائد وتأويلها، حول الماضي وتأويله، حول النصوص وتأويلها. لا أحد يجهل الدور التنويري العظيم للمفكر الفرنسي، والمحرض الأكبر فولتير. ولا أحد منا يجهل أن دارسي الثورة الفرنسية من دون استثناء جعلوه واحدا من أسباب نجاح الثورة، جنبا الى جنب مع الأزمة الاجتماعية والاستبداد، والخسارات الحربية الخارجية، وسنوات الجفاف. بهذه المرتبة الرفيعة وضع فولتير الأعزل. لكنه لم يكن أعزل اجتماعيا، ففكره التحريضي الجذري، هو الذي أوقع جبهة تحالف النبلاء والحكم والمؤسسة الدينية في ورطة التصويت، التي جاءت لصالح الأقلية: الطبقة الثالثة. بتأثير قوة أفكار فولتير، تمكنت فكرة التغييرمن اختراق جبهة تحالف الكنيسة - الملك - النبلاء. إن الفكر التنويري يصبح قوة تغييرية فاعلة وحاسمة، حينما يجد حاملا إجتماعيا يتوافق معه في لحظة تاريخية معينة. وهذا ما يفتقده خطابنا التنويري والتحريضي. إن وقوع منهج البحث في شرك الشكلية، يفضي الى التلفيقية التي أشار اليها أبو زيد بنفسه عند حديثه عن محاولة تأويل الشياطين والجن والسحر على طريقة المنهج الفرويدي: "حاولت بعض التفسيرات الحديثة والعصرية تأويل الجن والشياطين على أساس من معطيات علم النفس الفرويدي بصفة خاصة بأنها بعض القوى النفسية، لكن هذه التأويلات لم تنطلق من أي أسس معرفية عن طبيعة النصوص، بقدر ما كانت تهدف الى غايات نفعية لنفي التعارض بين الدين والعلم. إنها محاولات تلفيقية لا تزال مستمرة في الخطاب الديني". ويحق لنا هنا القول جازمين إن هذه المحاولات لم تزل مستمرة حتى في الخطاب الناقد للخطاب الديني، ومنها مبحث العلمانية، الذي أفاض أبو زيد في تبريره، وأحاله بعض اليساريين العرب على ضرب من المصانعة تقترب من التلفيق، طمعا في التوفيق بين أمرين لا بد لهما أن يُحسما، بمرور الزمن، من دون ضرورة الى اتحادهما. لأنهما لربما لا يتفقان أو لا يحسنان الاتفاق، لكنهما سائران لا محالة الى التسليم بالحل الذي تقتضيه قوانين الحياة يوما ما (ص 212 "نقد الخطاب الديني"، دار سينا للنشر، ط2). نقد المسيحية: حصان طروادة العربي لا يوجد أدنى شك في أن نقد الفكر الإسلامي من خلال المثال المسيحي، أو أي مثال ديني آخر، صيغة مقبولة وفاعلة في الجدل الفكري والبحث العلمي. ونقد المسيحية تجربة أساسية من تجارب البشرية الرائدة في مجال التنوير، مارسها المنوّرون والتحريضيون والعلماء والفلاسفة كخطوة تمهيدية لإحداث التغيير الثقافي العام في مجتمعاتهم. تالياً، هو مثال جيد للمقارنة والمحاججة. وليست المسيحية وحدها من خضعت للاستعارة في محاججات المتخاصمين، فقد كان فولتير الشاب الثائر يتخد من مظاهر التزمت في الإسلام وسيلة لمهاجمة تخلف الفكر الكنسي، واستخدم الإسلام ورموزه لهذا الغرض، مستفيدا من مناخ العداء للإسلام، ولكن لمصلحة أخرى، هي تقويض التكفيرية الكنسية والتزمت اللاهوتي. من الطريف أن الكنيسة ذاتها، كانت على دراية جيدة بهذا الأمر، فقد منعت مسرحية "محمد" لفولتير، الناقدة للاسلام بأوامر كنسية، إحساسا منها بأنها هي المقصودة بهذا النقد، ولكن بصورة غير مباشرة. ولم يتوقف الإحساس الكنسي بالخطر على النقد السلبي غير المباشر، فحتى الفكر الإسلامي الايجابي التنويري خضع للكبح والكبت والتجريم على يد الكنيسة، فقد حورب الرشديون الغربيون، لأنهم شكلوا تهديدا عقليا لمبادئ الفكر الكنسي المتزمت. ولكن ذلك كله لا يعفينا من مسؤولية الحذر عند التعامل مع النص الديني، أو التجربة الدينية المأخوذة من مثال غير إسلامي، لأسباب جوهرية، تتعلق بالاحترام المبدئي الطوعي، الداخلي، للآخر. فالقداسة واحدة. هكذا تعلّمنا العلمانية الحقة. من مظاهر الوهن في منهج بعض الكتّاب العلمانيين العرب هو الاجتراء على نقد المسيحية بعلانية وخفة بالغة، والتحرج والحذر، الى حد التلفيق، عند معالجة إشكالات فكرية مماثلة في الإسلام. فحينما يقدّم باحث يساري إسلامي تعريفا للعلمانية يجعلها على النحو الآتي: " فصل الكنيسة عن الدولة". الكنيسة، وليس الدين! ويصل هذا الأمر الى حد غير سارة لدى كثيرين، لم يسلم أبو زيد منها أيضا. فحينما يحاول فتح ثغرة في المنظور الإسلامي، يقوم بدراسة النص القرآني المتعلق بالسيد المسيح والسيدة مريم العذراء، كمقدمة لمناقشة ما يماثله في الإسلام. كما لو أنه يتخذ من المسيحية، الأضعف في لاوعينا، مدخلا مقبولا لدى التكفيري ونقيضه، لمناقشة غير المسموح الإسلامي. هذا الاجتراء، في جوهره، لو أردنا أن نطبّق عليه مناهج علم التحليل النفسي، ليس سوى عرض مرضي مبطن، ينطوي على خشية من جهة وعلى عدوانية من جهة أخرى. أي أنه استلاف صريح لبعض مكوّنات العقل والشعور التسلطي وآلياتهما، يجب على النقد مكافحتها بقوة، ولجمها في أعماق حاملها. معضلة العلمانية العربية كانت العلمانية وربطها بالالحاد من التهم الأساسية الموجهة الى أبو زيد. وقد أفاض هو في تحليلها، إحساسا منه بأنها نقطة الصراع الحسي الاجتماعي والشخصي الجوهرية الموجهة ضده، وليست نقطة السجال الحوارية الجوهرية فحسب. لم يكتف أبو زيد بالاسهاب في تحليل مصطلح العلمانية ومفهومها كما يراه ويفهمه، بل أسهب أيضا في توسيع ايجابياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، حتى كاد أن يوصلها الى مرتبة الايديولوجيا الشمولية: الايديولوجيا السحرية، المالك الوحيد للحلول الاجتماعية والسياسية والثقافية. مما لا شك فيه أن الدفاع عن العلمانية حيوي وضروري، كردّ مباشر على تهمة تكفيرية وجهت اليه شخصيا، وكقضية عامة من قضايا التحرر والتنوير أيضا. بيد أن ذلك كله لا يدفعنا الى الغلو في الدفاع الى درجة أننا نقع في وهم صناعة مقدس جديد، لا ديني، ونحن نحاور المقدس الديني. في هذه النقطة تتحول العلمانية ضرباً جديداً من التكفيرية اليسارية، الرثة. فالعلمانية مفهوم شديد الغموض، معنى واصطلاحا، في الثقافة العربية. فسواء رددنا أصل الكلمة الى العِلم (المعرفة) أو العَالم (الكون)، وسواء أرجعنا الكلمتين الى ترجمة سريانية أو عربية، فإن هذا المصطلح لا يحمل المدلول اللغوي ومحمولاته السياسية والاجتماعية الموجود في اللغات الأوروبية، التي هي الأصل في نشوء المصطلح. ففي اللغات الأوروبية تعني الكلمة الفصل بين الديني والدنيوي، سواء في مجال الحكم، أو السياسة، أو الحقوق، أو الفكر. وقد تتوسع الكلمة فتكون بمعنى مدني، أي لا ديني؛ وقد تتوسع أكثر فتطلق على ما هو متحرر أو حتى عصري. ذلك كله لا نراه في مصطلح علمانية العربي، الذي لا يشي، ولو بقليل، من ذلك الايحاء. وحتى لو رددنا أصل الكلمة الى السريانية وجعلناه مأخودا من العالم، أي الواقع أو الحياة، فستظل كلمة علمانية مبهمة، ضعيفة الدلالة. وإذا تركنا الناحية الاصطلاحية، وقعنا فورا في محظور آخر، لا يقل فسادا، هو المضمون، الذي جعله البعض حلا سحريا لمشكلات المجتمع العربي، حالما ننطق به تزول مشكلات المجتمع المستعصية. ربما لا بكون المرء مخطئا لو استنتج أن هذا التحميل المبالغ فيه للعلمانية عربيا، هو صدى لأمرين، الأول: تفكك جماعات اليسار العربية وتشرذمها، والثاني: التأثر، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بإيديولوجية صراع الحضارات، الملازمة للتمدد العسكري، التي تعلي من شأن الاختلافات الثقافية، وتجعلها بديلا من الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تعني أن الحلول تأتي ثقافيا، وليس من طريق التغيير الاجتماعي والسياسي. فالعلمانية بثوبها العربي الهش، كما يروّج لها الآن، واحدة من سقطات مرحلة انهيار الشيوعية. فهي أشبه بزهرة مقطوعة الجذور، عائمة على سطح مائي، فارغة من أي محتوى اجتماعي، لا تملك سوى بريق إثارة الآخر المتزمت والتكفيري إدعاء، لا تصلح بذاتها لأن تكون "جبهة مقاومة"، ولا يصلح الناطق بها أن يكون "مقاوما" ذا خصوصية اجتماعية محددة. لأن العلماني الأوروبي، الذي سبقنا في العلمانية، يمكن أن يكون يساريا أو يمينيا، مؤمنا بالحرب أو بالسلام، بالاشتراكية أو بالرأسمالية، أو بغيرها. يقول أبو زيد: "العلمانية ليست نمطا من التفكير معاديا للدين، بل هي تعادي التأويل الكنسي (لاحظ هنا تعبير كنسي)- تأويل رجال الدين- الحرفي للعقائد، وتناهض محاولة الكنيسة (!) فرض تأويلها من أجل هينمتها وسيطرتها. إنها نمط من التفكير يناهض "الشمولية" الفكرية و"الاطلاقية" العقلية الكنسية (!)، أي لرجال الدين، على عقول البشر حتى في شؤون العلم والحياة والاجتماعية. العلمانية هي مناهضة حق "امتلاك الحقيقة المطلقة؟ دفاعا عن "النسبية" و"التاريخية" و"التعددية" و"حق الاختلاف" بل وحق الخطأ. وفي ظل العلمانية ازدهرت الأديان، وتحرر أصحابها من الاضطهاد والمطاردة والمصادرة. قد تخون بعض الأنظمة هذه المبادئ، وقد حدث مثل هذا بالفعل في ظل الأنظمة الشمولية في شرق أوروبا. ولعله يحدث الآن في غربها بفعل التحولات التي بدأت في الحدوث في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وبحكم محاولة الرأسمالية العالمية "الهيمنة" و"السيطرة" على ثروات العالم الثالث. هذا كله باطل تجب مناهضته، لكن المبادئ العامة تظل صائبة ومشروعة. بل أن الوقوف في وجه التبعية ومناهضة محاولات الهيمنة والسيطرة لا يتم إلا وفق مبدأ "عدم امتلاك الحقيقة" وهو مبدأ العلمانية الجوهري والأساسي" (ص 81). على النقيض من نبرة التخويف العلمانية الفارغة الجوهر، نرى أن أكثر المجتمعات علمانية، دستورياً وواقعيا، كالمجتمع الأسوجي، تنظر بعقلانية عالية الى الإيمان، كموقف إجتماعي للأفراد. فاستطلاع عام 2000 في أسوج يشير الى أن ما يقرب من 59 في المئة من الذين شملهم البحث عن المعتقد يؤمنون بوجود قوى عليا أو إله يحكم الوجود. لذلك يجب على البحث العلمي اليساري أن يتجنب لعبة تخويف أو إثارة الآخر، المغاير، من دون سبب وجيه. إن ما يؤخذ على علمانيينا، أنهم أحالوا العلمانية على ايديولوجيا مطلقة للحرية العقلية، حتى أن أبو زيد أدخل فيها الدين، وعلى وجه التحديد الدين الإسلامي، وجعله المرشح الأفضل للجلوس على كرسي العلمانية، لأنه يخلو من حيث المبدأ، نظريا، من طبقة اللاهوت: "إنه مشروع "التحرر" الذي صار مجرد خندق "مقاومة". هذا المشروع في الأساس، معرفي في الجوهر، سياسي في دلالته ومغزاه. وهو مشروع لا يقف خارج الإسلام، لكنه لا يقف خارج العلمانية التي يتبرأ منها كثير من ممثليه". ويضيف أبو زيد: "نخلص من هذا الى كله الى أن العلمانية ليست بالضرورة مضادة للعقيدة، بل إن الإسلام هو الدين العلماني بامتياز، لأنه لا يعترف بسلطة الكهنوت، ولأنه يمثل بداية تحرر العقل لتأمل العالم والانسان، أي الطبيعة والمجتمع واكتشاف قوانينهما. ان العلمانية هي الحماية الحقيقية لحرية الدين والعقيدة والفكر والابداع، وهي الحماية الحقة للمجتمع المدني ولا قيام له بدونها (ص91، نقد الخطاب الديني). وربما وجد نصر أبو زيد، في كتابه "التفكير في زمن التكفير" أن تصعيد السجال من مستوى التنوير الى التحريض حلقة ضرورية من حلقات إشاعة الفكر وتثبيت أسسه الجوهرية، وهو قرار صائب تماما، لكن خصومه قد يفسرونه تفسيرا مغرضا، كما فسر هو تحول سيد قطب في اتجاه فكرة السلطة في حقبة القمع الناصرية ضد "الإخوان المسلمين". فقد يقال إن ذلك التحول رد فعل محض، بعدما اندفع الطرف الآخر بعيدا في إجراءات التكفير، وان أبو زيد استند على دعم الدوائر الأوروبية الحاضنة والآمنة. بيد أن هذا لا يشكل عيبا أو مأخذا يقلل من فكر أو أسلوب إدارة الفكر والصراع؛ على العكس ربما أضفى هذا القرار الجريء على صاحبه قدرا من البريق الإضافي الذي يستحقه بجدارة، في ظل الخناق العقلي والاجتماعي الظلامي القائم، الذي يحتم على التنويريين الأحياء واجب الاستمرار في حمل لوائه. المقدس واللامقدس: المنهج والواقع في الفصل الثالث من "نقد الخطاب الديني"، يجري الفصل بين "الدين" و"الفكر الديني". وهو مبحث جوهري من مباحث الكتاب، لكنه جزء تعوزه الدقة المنهجية، القادرة على الانفلات من أسر العقل غير النقدي. إن أخطار التحرر من ورطة المقدس وغير المقدس بحثيا، هي الأساس الذي قاد أبو زيد الى مثل هذا التقسيم. فمعضلة الجدل حول المقدس وغير المقدس هي التي أرغمته على ابتداع هذا التقسيم، الذي يتعارض تماما مع منهجيته القائمة على التحليل والوضوح المعلل. فمن طريق صناعة ثنائية تشطر "الدين" شطرين، يتم عزل المقدس (الذي لا يناقش)، عن غير المقدس (القابل للنقاش). وهذه مشكلة ذاتية، تتعلق بالدارس لا بموضوع الدراسة. أي أنه تقسيم تقحمه إرادة الباحث على موضوع البحث. أما نتائجه فوخيمة بحثيا. فهذا التقسيم يفترض وجود جزء اسمه الدين وجزء آخر ينتسب الى موضوع آخر، غير الدين. وهذا وهم واضطراب. يقول أبو زيد: " لا بد من التمييز والفصل بين الدين والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالاتها" (ص 197)، وهذا حل تعسفي وهروبي، ينفي العلاقة الجدلية والتواصلية المتبادلة بين الأصل والفرع، بين النص والممارسة، بين الدين كبنية ثقافية واجتماعية متكاملة عقليا وحسيا، روحيا واجتماعيا، حياتيا ونظريا. وكان من الجائز والممكن للباحث الخروج من هذا المأزق بالحديث عن الأصول الأساسية المكونة لدين ما، والفكر الديني الملازم له، التي تندرج جميعها، أصولها وفروعها، تحت عنوان واحد هو الدين. ومن الناحية التاريخية لم تكن محاولة أبو زيد تلك بدعة بحثية، فقد انشغل بعض فلاسفة المسلمين بهذه القضية بطرق متنوعة، نعثر على بعض آثارها في قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل، في الفصل الخاص بتجربة حي (رمز العقل الخالص والبرهان المنطقي) مع أسال (رمز الحقيقة الإيمانية). حاول ابن طفيل أن يثبت في قصته الفلسفية مبدأ الفصل بين المعرفة الكشفية من طريق الإيمان أو المعرفة بالتجربة البرهانية العقلية المنطقية وبين الفهم العامي والشعبي للحياة والدين. فبعد وصول حي الى جزيرة الحاكم سلامان اصطدم بقوة بتمسك العامة بالحياة الدنيا ومشاغلها، وفشل في تغيير اقتناعاتهم، حتى اضطر في النهاية الى التسليم بحقيقة اعتبرها نهائية، هي أن العامة تسعى الى الفوز بالدنيا فحسب، عدا مَن طغى فمصيره الجحيم. أما أصحاب الكشف والعلم فهم وحدهم يفوزون بـ"السعادة الأخروية". إن تقسيم ابن طفيل للإيمان بهذه الصورة نابع من بيئة الأندلس، وهو تقسيم قائم على الخبرة الحسية، الاجتماعية، المجربة واقعيا. لذلك فهو نظرة واقعية، ربما نجد فيها الركيزة الأساسية، لفكرة التفريق المنطقي والضروري تاريخيا بين الفوز بالحياة الدنيا أو الفوز بالحياتين: الدنيا والسعادة الأخروية؛ وإذا أضيفت اليها نظرة حي الى اكتناز المال والسعي الربح: "كان رأيه هو أن لا يتناول أحد شيئا إلا ما يقيم به الرمق؛ وأما الأموال فلم يكن لها عنده معنى" (نظرة اشتراكية مبكرة)، اكتملت الصورة باتحاد الفكرة الفلسفية بالبعد الاجتماعي السياسي. تلك وجهة نظر تنظيرية، لكنها في الوقت عينه نظرة تصالحية مع الواقع وقوانين الحياة، ومحاولة دينية توفيقية نابعة من حاجات الناس الفعلية لا من الخيال، وهي ما لا يريد أن يفهمه التكفيريون والمتزمتون الذين يصرّون على تحويل الدنيا آخرة متقدمة. وإذا تركنا الغرناطي ابن طفيل المتوفى عام 1185 في مراكش، وذهبنا الى فيلسوف أندلسي آخر، هو القرطبي ابن رشد المتوفى في مراكش أيضا عام 1198، عثرنا على تقسيم جديد أعلى شأنا، من الناحية النظرية، يتعلق بحل مشكلة فصل المقدس عن غير المقدس. فحينما نظر ابن رشد الى قضايا الدين شطرها شطرين، الإيمان: الجزء الغيبي، وهو الجزء الذي يسمو على النقاش؛ والممارسة العقلية: موضع الاجتهاد الشخصي. فابن رشد يردّ سبل إدراك الحقيقة الى الإيمان الروحي، والى العقل البرهاني المنطقي الخالص؛ ويرجح العقل البرهاني، ولكن من دون أن يفصل بين الحقيقتين. لهذا السبب وضعت مناهج البحث الغربية ابن رشد تاريخيا على رأس مؤسسي مذهب ما يعرف عربيا بالعلمانية. هل كانت ولادة أفكار ابن طفيل وابن رشد محض مصادفة؟ (التقى الرجلان عام 1182 في خلافة الموحدي أبي يعقوب) ألم تكن فكرة ابن رشد هي التنفيذ النظري لتجربة ابن طفيل القصصية والحياتية، ولكن بشكل معمق؟ ألم يزل المجتمع الإسلامي يدور حول نفسه، بما فيه باحثوه العلمانيون، متخلفين عن فكرة ابن رشد وابن طفيل، من دون أن يتمكنوا من التقدم الى أمام؟ ألم تزل محاججاتنا تقف الآن، بعد ثمانمئة عام على وفاة هذين الفيلسوفين الإسلاميين، في مرحلة ما قبل ولادة أفكارهما؟ لهذا نرى أن الفصل بين الدين والفكر الديني يقود الى صناعة ثنائية قسرية تفصل الأصول عن الفروع، والممارسة عن النص، وتخرج الفكر الديني من حقل الدين، وهو أمر فيه قدر كبير من الاضطراب المنهجي، لمن يريد أن يقيم فكرا تحليليا. كيف نفسر قول ماركس: الدين أفيون الشعوب؟ هل المقصود هنا ذم الكنيسة المتعاونة مع جهاز السلطة؟ هذا هو الجواب التبريري الشائع. وهذا تأويل آخر ضعيف منهجيا، على الرغم من أن سياق عبارة ماركس تعني ذلك حقا. لكن صفة الإطلاق هنا لم تكن سهوا، بل هي جزء مكوّن للفكر الماركسي؛ وهذا الأمر ينطبق على فكر فرويد أيضا، الذي يضع الدين ضمن الإلهيات التخديرية، والذي قارن كثيرا بين بعض الطقوس والنزعات الدينية والهلوسة وبعض أمراض العصاب، على الرغم من إقراره لاحقا بأهمية النظر بجدية الى موجبات الإيمان الديني، كوظيفة اجتماعية روحية وعقلية. على النقد التنويري اليساري واجب التحصن العلمي منهجيا، وواجب محاكمة منهجه أولا قبل محاكمة منهج الآخرين، لكي لا يتحول المفكر الى تبريري وهو ينتقد تبريرية العقل الديني المغلق، وعليه أن لا يكون ملوّنا للنصوص الالحادية وهو يواجه تلوّن الخطاب "التضليلي" الديني. ففي هذه النقطة يقع نقد الفكر الديني منهجيا في إشكالات الفكر الديني التفسيرية نفسها، التي يظن أنه يسعى الى تغييرها. الدين الإسلامي إلهية علمانية بامتياز إذا كان فرويد، في تحليله للدوافع الغريزية، يرى أن الدين يندرج ضمن الإلهيات التخديرية، فمن المنطقي أن يرى المرء أن الدين تحول في أيامنا الحاضرة، على يد العلمانيين العرب، عقب تفكك النظام الاشتراكي، وصعود المد الديني الإسلامي، وتعاظم موجة الايديولوجيا المعادية للاسلام عالميا، إلهية يسارية خالصة، أو علمانية، بمعنى أدق. فمن يراقب الانهمام العقلي للقاعدة الأساسية، المتعلمة وشبه المتنورة، التي تمثل ركيزة العلمانية أو اليسارية الاجتماعية، يجد أنها منشغلة انشغالا محموما بموضوعات الدين وتفصيلاته الصغيرة، المهملة والمبتذلة. نعني بالدين هنا الدين الإسلامي تحديدا، كما لو أن الدين ومحاربة الدين أضحت المهمة الكونية الأولى. من أين أتى هذا الانهمام ولماذا؟ إن هشاشة اليسار وغموض مفهوم العلمانية، ليس في وعي متلقيها فحسب، بل في وعي منظّريها أيضا، هما اللذان جرّا القاعدة الفكرية الاجتماعية العلمانية الى الانغمار التام في إلهية الحرب على الدين، ولكن ليس في صورة مناقشته أو التعمق في فهمه أو ايجاد مقاربات معه، وإنما في هيئة دعاية ترويجية وضيعة ومخجلة أخلاقيا وثقافيا، تعود في بعض أصولها الى ثقافة السوق الاغترابية الأوروبية، كالاهتمام بمعضلة الحيض عند السيدة عائشة، وتصويرها على أنها إحدى مشكلات العصر والوجود الجسيمة. في مقال سابق لي، في مجلة "الآداب" اللبنانية، أشرت الى الانهمام المَرَضي الذي يعيشه قسم كبير من القراء، المنتسبين الى"قاعدة العلمانية العربية". فقد رأيت أنهم مهمومون بتفاهات دينية يخجل منها أكثر البشر وضاعة، مثل مناقشة "فتوى توسيع الدبر"، التي نسبها أحد العلمانيين الى "القاعدة" في أحد مواقع الانترنت، والتي تحاور حولها 131 شخصا، كتبوا عنها 39 تعليقاً حماسيّاً، وفي الوقت عينه حصل مقال "فلسفة التنوير وسبينوزا"، المنشور في العدد نفسه، علـى تعليقين وقوّمه تسعة أشخاص فقط. في هذا المثال، يكون فولتير العربي، الذي دأب على مهاجمة الجمود العقائدي، مجرد أعزل حقيقي، لا سند له في الحياة، ينشغل مريدوه بالاستمتاع والتعليق على "فتاوى توسيع الدبر" المخجلة. إن معركة التنوير تتطلب استخدام الوسائل الدعائية كافة لغرض اختراق جبهة التكفير والانغلاق المقفلة، لذلك يجب على الخطاب التنويري العربي، إذا أراد حقا اللعب على المكشوف، أن يحرر منهجه من التبريرية ومن مهمة إنتاج الفكر النقدي على قاعدة ردود الأفعال، وأن يحرر قارئ خطابه من التباسات مفاهيم التنوير والعلمانية وغيرها من المسميات، وأن يبحث عن قاعدة تستطيع أن تحمل أعباء الخطاب اجتماعيا، في الممارسة الواقعية، اليومية. بخلاف ذلك سيظل التنوير لدينا جزءاً من حلقات لولب التخلف، تدور صاعدةً نازلة، من دون أن تجد نهاية لدورانها. في الختام، لا بد لي من القول إني أدين بهذه الأفكار، الايجابية منها والأقل ايجابية، الى هذا المتنور التحريضي الشجاع، نصر حامد أبو زيد، الذي أعانني، حيا وميتا، على تفهم جزء من إشكالات الواقع الثقافي العربي التاريخية، وعزز فيّ الثقة بوجود مثل عليا، فكرية، تأبى الخضوع بيسر الى سلطان القوة، ملقيا على عاتقي مسؤولية تفحص ما يواجهني من خطاب، ديني أو علماني، بعين تحليلية ناقدة، جذرية، هي العين التي اتخذها لنفسه منهجا ¶
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظافة من الإيمان: ثلاث كلمات قتلت سردشت
-
كاكه سرو وعبلة: قصّة حبّ كرديّة
-
البحث عن السعادة الخادعة في الأدب الغريب وثقافة الآخر
-
الثقافة والعنف بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع
-
يهود العراق وخرافة البحث عن وطن افتراضي
-
هل نرتقي بضربة حذاء؟!
-
البعثيُّ الذكيُّ والعراقيُّ الغبيُّ! ( رسالة الى المثقف البع
...
-
سيئات حميد مجيد الفاضلة
-
رسالة شخصية الى نائبة عراقية: صفية الوفية!
-
رسالة شخصية الى السيد هوشيار زيباري: العقل زينة
-
جنايات علي الدباغ الجسيمة ( رسالة شخصية الى الناطق الرسمي با
...
-
الكرد الفيلية: عراقيون رغم أنف العرقيين جميعا!
-
البيان الشيوعي لمرحلة الاحتلال- الجزء الثالث
-
البيان الشيوعي لمرحلة الاحتلال - الجزء الثاني
-
موت الماركسية أو ورطة النصر.... الحلقة الأولى: موت الاشتراكي
...
-
اللجنة الإعلامية للحزب الشيوعي العراقي تدعو الى محاكمة كاتب
...
-
الشيوعي ما قبل الأخير (كامل شياع كما أراه)
-
أسرار أزمة كركوك: المقدمات، الدوافع، النتائج
-
المادة 24، الانتقال من التحاصص الدستوري الى سياسة كسر العظم
-
الجوانب الخفيّة في الاتفاقيّة الأميركيّة العراقيّة
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|