|
قراءة في فكر نصر حامد أبو زيد
أبو العباس ابرهام
الحوار المتمدن-العدد: 3063 - 2010 / 7 / 14 - 15:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
توفي منذ أيام المفكر المصري، نصر حامد أبو زيد، أحد الكتاب في الفكر الإسلامي الذين كرسوا كتاباتهم للتأويل أو الهرمنيوطيقا في المجال النصوصي المركزي في الإسلام. وقد اشتهر أبو زيد بغرامشيته (في المجال الفكري فقط ، إذ لم يكن ناشطا سياسيا أو مثقفا طلائعيا) وذلك من خلال أشكلته لقضايا الإنسانوية و التاريخانية في النص القرآني. اشتهر أبو زيد الذي تعدت كتاباته الجمهور المتخصص إلى عموم جمهورالقرآء و ذلك بفعل حادثة التكفير الشهيرة التي تم فيها تطليقه من زوجته بحكم قضائي في بداية التسعينيات. و لقد عادت قضية التكفير إلى الواجهة مرة أخرى في إطار التغطية الإعلامية لوفاة المفكر، التي عن للبعض أن يربطها بـ"ارتداه"، من خلال الإشارة إلى "عقاب إلهي" تجلى في مرضه مرضا غامضا قضى عليه في ظرف أسابيع. ومن المهم اليوم بعد مغادرة المفكر للدنيا أن يتم تقديم- أو تقييم- فكره بعيدا عن البت في كفره و إيمانه. وللمفارقة فإن المفكر الإسلامي، محمد عمارة، كان من أوائل من دعا إلى محاورة أبي زيد بدل تكفيره وذالك في كتابه الخاص بفكر أبي زيد المعنون بـ"التفسير الماركسي للإسلام"، رغم أن الكتاب لم يكن محاورة بقدر ماكان تكفيرا، إذ كان كل جهده هو إثبات تعارض الأطروحات التي في فكر إبي زيد –خصوصا في كتابي "مفهوم النص" و " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجيا الوسطية"- مع إجماع جمهور العلماء، وبالتالي الإقرار بشذوذ فكره، وبالتالي تكفيره ضمنا. رغم هذا تظل الحاجة لفهم فكر أبي زيد مهمة لأنه لم يكن غير حلقة في سلسلة فكرية، بل و كان ضرورة تأويلية في إطار الحاجة للتنزيل الحداثي للنص المقدس. ويبدأ هذا الفهم بإخضاع المفكر المصري لماكان يحاول إخضاع النصوص الدينية له، وهو وضعها في الدائرة الهرمنيوطيقية: استعادة معانيها في سياقها التاريخي و الفكري.
1- السياق وفي الحقيقة فإن نصر حامد أبو زيد، وإن لم يكن صاحب مشروع فكري عريض كما وصف نفسه محاضرة القاهرة، (وإن البعض يختلف معه، إذ يعتقد أن مشروعه هو هرمنطقة القرآن) إلا أن فكره يقع ضمن مشروع تاريخي هو محاولة التوفيق بين الواقع العلماني و الباراديغم القرآني، أو الأجواء الفكرية والثقافية والنفسية للقرآن الكريم أو إعادة قراءة القرآن في ذلك الواقع. واليوم لا خلاف في أن هذا أصبح مشروع فكريا بفعل الكتابات المتلاحقة لتيار عريض من المفكرين و الكتاب. ويتم هذا التوفيق سواء من خلال الأعمال التوفيقية لكتاب إسلاميين أو التأويلية لعلمانيين. ومن العبث أن يفهم هذا المشروع على أنه صراع العلمانية و الدين- كما يفعل التسطيح الأصولي- إذ تأتي محاولات تحييز الفهم السائد للقرآن من خلال كتابات الإسلاميين أنفسهم. وهي تتحدى الفهم السائد في القرون الأولى إلى توسيعه بفهوم عملية و تاريخية، ويبرز الأمر أحيانا في اجتهادات الترابي و القرضاوي و الغنوشي والأنصاري و الزنداني وغيرهم، و الأمر قديم منذ تحوير محمد عبده لـ"المصلحة" لتصبح "المنفعة".
ويمكن فهم مشروع أبي زيد على أنه امتداد لمحاولات ابن رشد في الفصل بين التأويل النخبوي والفلسفي للقرآن وبين تأويله العامي و الشعبي. غير أن ورطة هذا المشروع تكمن في اصطدامه بالتأويل السائد مما يسفر دوما عن قصص تراجيدية من التكفير و تدمير الحياة الشخصية للمفكر، وهو أمر قديم منذ ابن رشد نفسه، الذي كان يرشق بالحجارة عند مدخل المسجد من قبل الأصوليين والعامين المتطرفين في زمنه. والحق أن سؤال التأويل في العالم الإسلامي، وتأويل القرأن خصوصا، سؤال مرتبط مع سؤال النهضة الذي أفرز كافة أشكال التفكير الديني الحديث، إذ يرتبط بالكشف عن معاني جديدة للدين تواكبه مع العلم والتقدم، وبهذا بدأ الأفغاني وعبده، وأحيانا وصلا إلى نفس الأطروحات التي تم بها التشكيك في دين أبي زيد و غيره. ويمكن القول أنه ابتداء مع عصرنا بدأت تأويلات القرآن في التطور إلى شكل مغاير لماكانت عليه في القرون الأولى، فشكلا انتهى التفسير الشامل للقرآن على حساب التفسير الموضوعاتي، فيما تراجع تفسير المعاني الحرفية إلى تفسير الأغراض و استخدام التاريخ و الثقافة للكشف عن معان جديدة. غير أن ظهور الحاجة إلى لاهوت التحرر، أو استخدام القراءة الحداثية للدين في تكريس قيم الإنسانوية، بدأ يطفو حثيثا على سطح التفسير القرآني وبما أن هذا هذا التأويل ثنائي الطرفية، أي أنه يحتاج لخلفية فكرية واعية بالإشكالات الفلسفية الحديثة على حدة و بالمعاني القرآنية وسياقها على حدة أخرى، فإن الأمر أسفر عن دخول كثير من المفسرين الحداثيين إلى ملعب التأويل القرأني الذي كان محتكرا على مر العصور من قبل أفراد المؤسسة الدينية و التعليم الديني حصرا، وهو الدخول الذي لم يكن هادئا في معظم الأحوال، و أسفر في أحيان كثيرة عن صراعات تكفيرية كبيرة طبعت الذهن العام أحيانا كما حدث في قضية على عبد الرازق و أمين الخولي و محمد أحمد خلف الله و نصر حامد أبوزيد و خليل عبد الكريم و عبد الكريم سروج...
إن سياق نصر حامد أبو زيد هو سياق أنسنة القرآن، أو إعادة تأويله، أو توسيعه بتأويلات تراثية ظلت هامشية في تاريخ تفسيره، ليتم تسييقه في معاني المساواة الحداثية (حقوق الأقليات و تدمير المركزية العربية، و تدمير المسلمات الذكورية...)، ويسمى هذا الطموح بالتأويلية، او الهرمنيوطيقا. وتكمن الفكرة الهرمنيوطيقية في الإتجاه القرآني فى فهم النص و تلقيه على أنه عملية متوسطة تاريخيا وهو ما يسمح بإزاحة سلطة التأويل و المعنى السائد للنص باعتباره محدد سياقيا وبالتالي لا يمتلك أي قدرة على التمدد خارج الزمان و المكان.
ولعل أهم المحاولات الهرمنيوطيقية المعاصرة لتأويل المعطيات القرآنية في الفكر الإسلامي الحديث هي محاولات عدة مفكرين من أهمهم: 1- فضل الله رحمان، المفكر الإسلامي الباكستاني المتوفي 1988، والذي يشخص الحالة التأويلية للقرآن بأنه أصبح خارج السياق و التلقي المعاصر و أنه مالم يوضع في قالب تأويلي يناقض التفسيرات التراثية-غالبا- فإنه سيبقى خارج السياق وسيكرس نظاما قيميا مناهضا للتقدم والحداثة و منافعهما للنفس الإنسانية. ولم يكتف رحمان بالتنظير بل قام بمحاولات هرمنيوطيقية مهمة في كتبه "الموضوعات الأساسية في القرأن" (1980) و "الإسلام و الحداثة" (1982)، حيث بدأ في إعادة تفعيل مفهوم التقوى كمفهوم أساسي في الرسالة القرآنية، باعتباره نوعا من "الضمير المتعالي" في الإسلام من أجل التركيز على القرأن كنص أخلاقي بشكل أساسي. ويخلص في "الإسلام والحداثة" إلى ضرورة علمنة القرآن و "تحريره من سجن التأويلات العتيقة". واستمر السؤال الهرمنيوطيقي في العالم العربي مع حسن حنفي، الذي يقوم بعملية إزاحة فينومينولوجية، لمسألة أصل النص و مصدره، وذلك بهدف تأويله إضافة إلى مساواته بالنصوص من حيث اشتغال آليات الفهم البشري الخاص به وهدم الفوارق بين التأويلات المقدمة له انطلاقا من هذا. كما تقوم ظاهرية حنفي على التركيز على الشعور و على التراث كمعطى حضاري و ثقافي، أما هرمنيوطيقيته فتبدأ بإزاحات تأويلية استبدالية مثيرة كوضع "الإنسان الكامل" محل "الله"، و "الأيدلوجيا" محل "الدين"، و"القبلي" محل "الشرعي". وهو بهذا المعني يخدم رسالة رحمان في تسييق الوحي في المعطى الحديث. و في نفس الوقت كانت الإشكاليات التأويلية قد بدأت في التمظهر في الفكر الشيعي من خلال الكتابات الهامة للمفكر الإيراني، عبد الكريم سروج، (من أهم كتبه الانقباض و الإنبساط النظري للشريعة) الذي كتب في الفصل بين الدين و تمظهر الدين، بين الدين و بين تأويله، وحيث الأول كل مقدس و الثاني عملية دنيوية مستهلكة، وهذا هو جوهر تأويلية نصر حامد أبو زيد كما سنرى. وهو بهذا المعنى يقدم نوعا من الكانطية في الفصل بين الشيئ (التأويل) و الشيئ في ذاته (الدين). ويرى أن أي تأويل هو بطبيعته محدد اجتماعيا و يخضع لعلاقات القوى القائمة، وهو بهذا ينفي ضمنا أي إمكانية للتوصل إلى معاني متعالية للقرآن. ولقد دفعت هذه المواقف إلى استعداء سروج من قبل العلماء الإيرانيين ومحاولة اغتياله مرتين، غير أن مشروعه أصبح يأخذ مدا متزايدا، ربما بفعل الإشكالات العملية التي يواجهها الفكر الإسلامي الشيعي بعد الثورة و في إطار تجربة الحكم القائمة عمليا والتي تفترض تنزلا إلى الإشكالات الإنسانية الحداثية، ولعل أبرز من أخذ خط سروج إلى شكل أبعد هو المفكر محمد مجتهد شابستاري الذي يرأب الصدع بين الذاتوية الإلهية و الإنسانية. ولعل إحدى أهم المحاولات التأويلية القرآنية، وذلك لإرتباطها الوثيق بالتجربة النضالية، هي قراءة المفكر الإسلامي من جنوب إفريقيا، فريد عسك، التي يستخدم فيها القرآن و التراث الإسلامي بشكل راديكالي حسب ما يقول في كتاب "القرآن: دليل المستخدم" في صب القرآن على الحالة الصراعية القائمة. وهو بهذا نوع من أسلمة لاهوت التحرر. في السياق التركي أيضا كانت هنالك محاولات تأويلية لمحمد باشاشي الذي يأنسن القرآن من خلال ربطه بغاية "إسعاد الإنسان و تغيير العالم"، وهو يسعى للتأويل في هذا السياق. كما أن هنالك محاولة المفكر التركي إلهام غولر، الذي يستخدم الهرمنيوطيقا في التأسيس لحداثة إسلامية تنتقد الفكر العتيق الذي يعتمد المفارقة والإسقاطية من أجل البقاء وهو يقترب كثيرا من المفكر الإسلامي محمود محمد طه الذي قدم محاولات تأويلية مهمة تتعلق بإعادة تفعيل القرآن وفق السياق المعاصر و تفكيك سياقه القديم، وخصوصا إكراهاته التاريخية في المدينة المنورة.
2- الفكر 2-1- أي تأويلية؟
تعتبر تأويلية نصر حامد أبو زيد نوعا من التأويلية الإنسانوية، التي تحاول تأسيس قرأءة للنص المقدس مركزها الإنسان بوصفه معطى في الكون، أو دازين أو "موجود في العالم" بحسب المفهوم الهايديغري الشهير. ورغم أن أبو زيد لا يستخدم هذه العبارة إلا أن مدلولها واضح في حديثه، وإن بلغة هيغلية-ماركسية عن أن الجدل القرآني هو جدل أرضي سماوي، وليس سماوي أرضي، بما أن منطلقه "أرضي" بحكم الإهتمامات و مقصد الخطاب، وهو أمر تكرسه آليات أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ. والقراءة الإنسانوية هي القراءة التي تعتبر الإنسان غاية ومركزا لها. ومشكلة التأويلات القرآنية أنها فصلت النص عن الإنسان من حيث هو سياق التفاعلات الإنسانية الظرفية وبدأت تتعامل كما لو أن له ذلك الوجود المستقل عن السياق. وعندما وضعته خارج السياق نتجت معارك الإقتباسات الشي الذي نتجت منه التأويلات السلطوية أو ما يسميه بسلطة النص، الذي ليس في الحقيقة غير خلاصة الإنتصار الأيدلوجي لتصور معين عن الحياة والعالم.
إن تأويلية نصر حامد أبو زيد، التي أرسى جذورها النظرية في كتابه "مفهوم النص" و "النص، السلطة، الحقيقة"، هي إذا هي إدخال السياق، الذي هو روح العصر، بالمعنى الهيغلي، -الذي يسميه أبو زيد "رؤية العالم" و نمط التفكير العربي البدوي لحظة نزول القرآن،- في النص من أجل فهمه. وبهذا المعنى يظل وفيا للهرمنطوقية الأولى عند شلايرماخر و ديلتاي التي تزعم إمكانية استعادة المعاني الأصلية للنص في حالة الإيفاء بشروط الدائرة الهرمنيوطيقية غير أنه يوسع هذه الدائرة بفتح بعد تأويلي آخر يسميه مغزى النص. والإستعادة ليست ممكنة إلا برأب "التأويل النفسي" بـ"التأويل النحوي". غير أن أبو زيد لا يتوقف عند هذه الوثوثقية المشروطة، بل هو في الإتجاه الهرمنيوطيقي الآخر الذي لا يقر بالشيئ في ذاته، إذ يحول السياق الحاضر دوما دون القدرة على الإستعادة التامة للنص، والحل هنا هو تقديم قراءة تقدمية للنص العتيق. غير أن هذا لا يعنى هجر المعاني القديمة بل قراءتها في محيطها النفسي من أجل البحث عن نظيرها في السياق المعاصر. وهذه تأويلية توفيقية بين الإتجاه الوثوقي الذي يؤمن بالقدرة على استعادة النص و بين الإتجاه النسبوي الذي يعوم معاني النص في "الوجود في العالم" (هايدغر) و "تداخل آفاق الفهم" (غادامر).
2-2- الإنتقال من الداخل إلى الخارج
تكمن النقطة الأساسية في تفكير نصر حامد أبو زيد في رؤيته النصية، المعتمدة على ألية الإنتقال من الداخل إلى الخارج. وهي آلية ينتهجها في تحليل النص عموما، وهي التي يكمن الجدل بخصوص تطبيقها على النص القرآني، الذي تفادته دوما الدراسات النصية النقدية، ولذلك سلمت من التحشيد الدعائي. إن النص، أي نص، بحسب أبي زيد، هو منتج ثقافي: رهين التفاعلات الخاصة به، وهذه التفاعلات هي الحقائق الإحتماعية والظروف التاريخية التي شهدت ميلاد النص. ولا بد من التفريق بين هذين المستويين من أجل اختراق النص لفهمه. وبخصوص النص الديني فإن أبا زيد يفرق بين الدين والفكر الديني. الدين هو مجموع النصوص المقدسة المثبتة في الأثر، أما الفكر الديني فليس سوى محاولات فهم هذا النص، بل هو في مجموعه أليات استنباط الأدلة واستخراجها من مكامنها. غير أنه إذا انتقلنا إلى تحليل النص لحظة إنتاجه أو نزوله فإنه سيكون من السطحية لو فصلناه عن الثقافة المنتجه له. وهذه العلاقة ليست أحادية بنظر أبي زيد، كما يعتقد الكثيرون، بل هو يقدم العلاقة في إطار جدلي: الثقافة تلعب دور التشكيل للنص لحظة إنتاجه فيكون مفعولا به و تكون هي الفاعل، غير أن النص يبدأ في تشكيل الثقافة بعد تأسسه و تمركز بنيته اللغوية و قيمتها الثقافية فتنعكس العلاقة على أن تصبح الثقافة مفعولا بها و النص فاعلا. ولعل كل الهجمات و الإنتقادات لفكر نصر حامد تأتي من ربطه هذا بين الثقافة والنص وقوله إن الجدل القرأني هو جدل أرضي-سماوي، بمعنى أن إشكالاته تحددت في الواقع قبل أن يتم إنزاله. وهذا الربط لا يعني نفي المصدر الإلهي للقرآن -كما يقرر المفكر- بل يعني إدراكه في النظام الدلالي الثقافي الذي أتى في سياقه، وإلا فإن النص لا يمكنه أن يقدم معانيه خارج الذهنية القائمة. ويمكن أن يفهم هذا بأنه نوع من الإزاحة الظاهراتية وإن تركزت على البعد التاريخي وليس البعد الشعوري، كما في الفينومينولوجيا غالبا. غير أن هذه الإزاحة هي تقريبا نفس الإزاحة التي يقوم بها حسن حنفي في تركيزه على تمظهر النص والتراث في النفس الجديد (رغم أن أبو زيد من أكبر نقاد ظاهرتية حسن حنفي و يعتبرها مجرد تلوين للنص بدل أن تكون قراءة نقدية له)، وهي نفس الإزاحة التي قام بها مالك بن نبي للإعجاز القرآني في "الظاهرة القرآنية"، حيث تنتهى الظاهرة الإعجازية في الحقيقة التاريخية المتمثلة في انتهاء الفصاحة العربية. هذه الإزاحة، تماما كما لدى بن نبي، لا تعنى التخلص من المتجاوز تاريخيا، بل هي تعني محاولة استتباع معانيه التي لم تكن متاحة لحظة نزوله. في هذا المجال هو يؤسس لنظام دلالي يقارب النص على ثلاث مستويات: الأول معنى النص المباشر الذي تم إدراكه لحظة ولادته التاريخية و الثاني هو المعنى المجازي لهذا النص، أما الثالث فهو مغزى النص أو مستوى الدلالات القابلة للإتساع. وهو بهذا المعنى يفرق بين المعنى و المغزى: المعنى هو كلام النص ومعناه اللحظي أما المغزى فهو قيمته القابلة للتفتح عبر التاريخ.
وهذا التفريق هو مايسمح للمفكر بالقيام بثورة كوبرنيكية في تحليل النص فبدلا من الإكتفاء بالآليات التقليدية في النحو و الأثر يقفز إلى الألسنية و الهرمنيوطيقا و السيمانطيقا و علم الإجتماع، الأمر الذي يتيح مد الجسر بين تحليل النص و استكناه دلالته إلى نقد الممارسات الفكرية و السياسية والثقافية الخاصة به. وهذا هو المنهج الذي اتبعه في دراسة النص القرآني وفي دراسة الفكر الإسلامي لدى الشافعي و لدى المعتزلة و لدى محيي الدين بن عربي، وبشكل سريع عند محمد عبده و رفاعة الطهطاوي زكي نجيب محمود و حسن حنفي.
2-3- التأسيس للتاريخانية إن قضية التاريخية هي جوهر النقاش في الفكر الإسلامي، وهي نقاش فريقين يقول أحدهما بجوهرانية الأحكام الإسلامية و بين آخر يرى بتاريخيتها، وبينهما تأويلات غير نسقية تميل مرة هنا و مرة هنالك. ومن الواضح أن تأسيس أبي زيد للتاريخانية يعود إلى فصله بين المعنى و المغزى. ورغم أن المفكر الإسلامي محمد عمارة يرى أن لهذه التاريخانية بعدا ماركسيا حيث هنالك البنى التحتية والفوقية التي تؤسس لمادية النص بدل لاهوتيته إلا أن نصر حامد أبو زيد لا يتحدث في إطار نقده للنص أو تحليله إلا إلى ثنائية الثقافة واللغة بشكل يثير اعتراض المحللين الماركسيين، أمثال محمود أمين العالم الذي انتقد عليه إهماله للبعد الإقتصادى المتعلق بعلاقات الإنتاج و الإكتفاء بالبعد الثقافي في تحليل النص. وبهذا يبدو لنا أبو زيدا أكثر هو فيبريا (نسبة إلى ماكس فيبر) مما هو ماركسي. وحتى عندما يذهب أبو زيد إلى نقد النص الديني أو إلى الدفاع عن التاريخانية واستخراجها من أفكار مناوئيه فإنه يبتعد أبدا عن حقيقة التاريخية المادية، مكتفيا بالإشارة إلى البعد الثقافي و تغيره (وكأن هذا التغيير هو معطى توقيفي)، فالذكورية في القرآن هي انعكاس لثقافة الذكورية القائمة، وبهذا المعنى فحقيقة دونية المرأة في القرأن (التي يمكن أخذها من "ألربك البنات و لهم البنون") ليست سوى انعاس لحقيقة الذكورية السائدة في المجتمع البدوي القرشي. أما تكريس هذه الذكورية فيتم من خلال المفسرين الأكثر تطرفا في ثقافة احتقار المرأة العاملين كوكلاء لأيدلوجية اللغة و و خطاب الإنحطاط. وليست تاسيسية الإمام الشافعي لفكر الوسطية سوى انتصاره لثقافة القرشية و الثقافة النقلية وهي الثقافة التي ستزدهر بعده في وسطية الأشعري في العقيدة وفي و وسطية الغزالي في الفكر و الفلسفة.
إن هذه الثقافة هي أنماط من الخطاب، بالمعنى الذي ينتهجه توماس كون حيث تنتج الروح السائدة العلوم وتطبعها بتصورها، وفي تغير هذه الخطابات لا يتم الحديث عن التغيرات التحتية بالمعنى الماركسي.
ولا مفر من هذه التاريخية كما يبين أبو زيد. وعندما ينتقد عليه مناوئوه الفصل بين المعنى والمغزى فإنه يستخرجه من تفكيرهم مبرزا أن المتجاوز فكريا ليس إلا المتجاوز تاريخيا. وهو يظلل تحت الجدل حول المواطنة في الفكر الإسلامي الذي شب في مصر و قام فيه المفكرون الإسلاميون بالرد على المفكر الإخواني مصطفى مشهور، الذي استدعى أحكام الجزية في الحديث عن حالة الأقباط في مصر، بأن أحكام الجزية هي أحكام تاريخية ولم تعد لازمة اليوم، وهو يشير إلى هذا الإجماع باعتباره تسليما بتاريخية النص وهو استنكار لرفض مبدأ التاريخانية مع الإيمان به عندما يكون مفيدا سياسيا. إن تاريخانية المعاني- وليس المغازى- القرآنية تكمن في نظام القرآن اللغوي الذي يتوجه نحو المخاطب الذي يتموقع اجتماعيا و ثقافيا. وإذا كان النص إلهيا- وهو كذلك بالتأكيد- فهو "يتنزل" على هذا المخاطب في إطار سيميائي معين، وهو بهذا المعنى "منتوج ثقافي". وتاريخانية المعاني الدينية تكمن في تحررها من القالب الثقافي الذي تنزلت فيه أول ما تنزلت. وهذا يحدو إلى الفصل بين الحقيقة الموضوعية للنص و بين حقيقته الثقافية. وليس معنى ورود الجن في القرآن دليلا على وجودهم الموضوعي، بل هو دليل على وجودهم الثقافي الذي تتم لغة القرآن من داخله. (وهذا الموقف سبقه إليه خلف الله، كما أن محمد عبد عبده لم يجد من التفاسير للجن سوى أنهم الجراثيم). ونفس الشيء بالنسبة للسحر و الحسد و الشياطين الموجودة في الثقافة التي يتنزل القرأن فيها مفهوما و ذهنيا، ولذلك هو يعبر بها باعتبارها دالا حاضرا في اللغة. غير أن مشكلة الخطاب الأصولي لا تكمن في عجزه عن فهم التاريخانية والتصرف على أساسها، وإنما في الدفع في الإتجاه المعاكس حيث يقوم بإحياء المعاني المتجاوزة تاريخيا و البحث لها عن تمظهر جديد في السياق المعاصر، فالربا، بالصورة المتحدث عنها في القرآن لم يعد موجودا، ولكن الخطاب الأصولي يقوم بإسقاطه على نظام البيوع الحديث، ونفس الشيئ بالنسبة لإرتداء الحجاب الذي يتم الإرتقاء به كحالة من التأسيس لنصوص غير موجودة، بل متخيلة.
2-4- نقد الخطاب الديني
ينطلق أبو زيد في نقده للخطاب الديني من الإقرار بضرورة الدين في أي خطاب نهضوي، وإن كان يتساءل عن المقصود بالدين، فالدين رهن بالتأويلات التي نقدمها له. وهو يلاحظ في هذا المجال الصور المتعددة للدين من خلال التأويلات المتعددة له على مر العصور تكاما كما في الحاضر. وبأخذ حالة معينة فإن هنالك ثلاثة مواقف دينية -أو معتمدة على التأويل الديني- من قضية ظاهرة المد الديني في مصر. وهذه الإتجاهات الثلاثة هي المؤسسة الدينية، الأزهر، ومواقف رجال المعارضة الدينية (الإخوان المسلمون)، وهنالك اليسار الإسلامي كاتجاه ثان، ثم هنالك التنويريون أو العلمانيون كرؤية ثالثة. إن كل هذه تأويلات للدين، وبمعنى من المعاني فهي تمظهر للدين وهي تختلف فقط في كيفية التعامل مع الدين، بين موقف اليمين و اليسار الذي يستخدم الدين استخداما نفعيا، وبين الموقف العلماني التنويري الذي يقدم قراءة علمية للدين تصقل عنه ما علق به من شوائب الخرافة والأسطورة من أجل استبقائه قوة دافعة تجاه الحرية والعدالة و الإصلاح، وليس تجاه الإلحاد و الإنحلال، كما تقدم ذلك السلفية الأصولية. غير أن الخطاب الديني المعاصر يميل إلى نفي شرعية التعدد وتكفيره، وينطلق من الإيمان بحقيقة واحدة للإسلام هي الأرثودوكسية التي يقدمها على أنها التأويل الشرعي الدقيق للإسلام، وكل ما عداه شذوذ و زندقة. وتكمن هذه الأزمة في بنية و آليات الخطاب الديني و منطلقاته الفكرية. وعليه فمن العبث التفريق بين المعتدل و المتطرف في هذا الخطاب إذ يعتمد كلا الفريقين على الإيمان بمصدر قطعي الدلالة وغير قابل للنقاش، وهذا المصدر هو النص و الحاكمية. ويتطابق الفريقان في النهج التأويلي حيث لا مسافة بين الذات و الموضوع في قراءة النص الديني و حيث يتطابق الدين مع الفكر، وحيث يسود إيمان مطلق بإمكانية تأدية المهمة الإلهية (الحاكمية) بمعزل عن التناقضات الإنسانية (حاكمية البشر). إن الحاكمية التي قام عليها فكر المودودي، ثم سائر حركات الإسلام الأرثدوكسي، هي ذروة هذه الآلية في الخطاب الديني التي تضع الأرثودوكسية فوق البشر، غير أن المشكلة تكمن في أن النص الحاكمي ليس سوى نص تعددي من بين نصوص أخرى، وليس سوى فهم نخبة ضمن فهوم نخبوية أخرى. والمشكلة أيضا أن تقديس هذا الفهم وإعطاءه سلطة فوق المراجعة يقضى على أهم المبادئ في الإسلام: العقل. ويتطرق المفكر إلى النصوص التأسيسية لهذه الأرثودوكسية و لمناقضة العقل هذه. وبرأيه فإن نص "لا اجتهاد فيما فيه نص"، الذي قصد به عادة التأسيس لجوهر ديني خارج على الزمان والمكان، لا يؤسس لهذه الحاكمية إذا المقصود بالنص المعنى القطعي الذي لا يحتمل غير تأويل واحد، وهو أمر نادر في القرآن، أما في الحديث النبوي فإن الأمر أكثر ندرة لأن الأحاديث نقلت بمعانيها لا بألفاظها.
ويرتبط نقد العقل الديني عند أبي زيد بإحياء التراث العقلاني الإسلامي كحل بديل للجمودية النصية، ومن المهم هنا الإشارة إلى مجهودات المعتزلة التي يؤصل لها بأولى ممارسات قراءة النص الديني في إطار سياقه التاريخي محاولة نزع الأسطرة عنه، ومن هذا المنطلق جاءت تأويلاتهم المجازية للنص الحرفي للتجسيمية الأسطورية للذات الإلهية وتأسيسهم لمفاهيم عقلية من أجل اتباع مبدأ العقل والعدل في الإسلام.
ولنقد الخطاب الديني لا بد من نقض دوافعه السوسيولوجية، ويرى نصر حامد أبو زيد في كتابه "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة"، أن الخطاب الديني وليد اللحظة الإجتماعية وأن شوائبها عالقة به، بل إنه يكرس هذه الشوائب. وفي هذا الكتاب يبدأ بتبيان شوائب المجتمع الذكوري الذي يحتقر المرأة وهو المر الذي يبدو واضحا في تفسير ابن كثير في قصة الخلق- مثلا. وهو يواصل الحفر في بنية اللغة والثقافة لإستقصاء الحيف ضد المرأة و يجده أصيلا في "أنثروبولوجية اللغة". وهذه الأنثروبولوجية تبدو واضحة حتى في فكر تنويري من الطراز الكبير هو محي الدين ابن عربي. ولكن قيمة الكتاب تكمن في محاولة استقصاء تسلل خطاب الميز ضد المرأة في الخطاب الديني في عصور الإنحطاط. ولهذا التسلل آليات منها إخفاء نصوص المساواة بين المرأة والرجل في النصوص الديني كحديث "النساء شقائق الرجال" ومنها الإرتقاء بمبدأ القوامة إلى مستوى العقيدة وربط المرأة بـ الشيطان" و "الكيد" و "الحية"، وكل هذا يحدث بحيل تأويلية و قراءات أيدلوجية و أنثروبولوجية للنص الديني. وحالة الميز هي حالة اجتماعية أبدا، و من المهم الإشارة إلى ازدهار خطاب تطويع المرأة بعد الهزيمة 1967، حيث تبدأ الذات الذكورية المنجرحة في إحياء الخطاب الأصولي حول تطويع المرأة للرجل.
ويواصل المفكر نقد الخطاب الديني في كتابات مختلفة أحدها "التفكير في زمن التكفير: ضد الجهل و الزيف و الخرافة"، وفيه يتناول قضية تكفيره الشهيرة كمثال على أزمة في الخطاب الديني، حيث يتم استخدامه نفعيا و سياسيا ضد كل اتجاهات النقد التي تتعامل مع التراث من منظور لا يقدسه عن الخضوع لأليات البحث العلمي. وهذا الكتاب هو استبيان تفصيلي لمسألة الجدل حول حادثة التكفير، وهو يبين فيه أن معظم الحجج التي قدمت من قبل التكفيريين هي استشهادات اجتزأت من سياقها، ولكنه لا يبرء هذا الإجتهاد وإنما يعتبره داخلا في آليات التكفير و ثنائية الإستقطاب العلماني-الإسلامي التي يصفها بحالة "الحرب".
2-5- الإمام الشافعي
تعتبر دراسة نصر حامد أبو زيد للإمام الشافعي، التي أوردها في كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطى" استمرارا لاتجاهه التأويلي إذ يحاول فيها ربط النص بظروفه من أجل الكشف عن مغازيه، وبرأيه حسب هذا المنهج فإن "نص" الشافعي ليس سوى التأسيس الأيدلوجي لتصور معرفي و فكري بعينه. وفي الحقيقة فإن التقعيد الشافعي لعلم الأصول صار مقصدا للنقد من قبل اتجاهات الفكر الإسلامي التي تدعو لإعادة فتح استنباط الأدلة الدينية و تدعو لفتح باب الإجتهاد وتأهيل الرأي و العقل و تجديد الفكر الديني. وقد انصب النقد في هذا المجال على الشافعي باعتباره مؤسسا لعلم الأصول السائد و ذالك من خلال رسالته الشهيرة التي قدم فيها بديلا للرأي كمنهج في الإستنباط. وفي الفكر الإسلامي جاء هذا النقد إما بشكل مؤدب هو البحث عن علم أصول بديل أو الكشف عن النظريات الأصولية البديلة، وخصوصا عند الشاطبي، كما يفعل مفكرون إسلاميون بارزون أمثال أحمد الريسوني و فريد الأنصاري أو غيرهم، وإما من خلال نقد يستهدف علم الإصول السائد و يحمله مسؤولية غلق باب الإجتهاد المبني على الرأي و العقل أمثال جمال باروت و نصر حامد أبو زيد و أدونيس في كتابه الثابت والمتحول. ويعتبر نصر حامد دراسته للشافعي دراسة في المعرفة ومحاولة لإستكناه الأصول النظرية التي قام عليها فكر الشافعي. وهي في حقيقتها رصد لآليات التأصيل عند الإمام و دراسة للمسكوت عنه- بتعبير فوكو- في نظريته. ونظرية الشافعي ليست سوى الوسطية التي يعرفها أبوزيد بأنها "الخصيصة التي تتجسد فيها الأصالة التي يتحتم على المجتمعات الإسلامية الإحتماء بها ضد أعدائها الساعين للقضاء عليها". و بما أن هذه الرؤية هي انعكاس لرؤية العالم فإنه من المهم دراستها في طور هذه الرؤية. و الحفر في هذه الرؤية وتبيان إكراهاتها الإجتماعية ينفي عنها صفتها الثابتة و يثبت عارضيتها. وتكمن وسطية الشافعي في قوله بعروبة القرآن المطلقة نافيا أعجمية بعض كلماته، وهو في هذا يعتمد تأويلا إكراهيا، (يسميه أبو زيد تلفيقيا) للأية القرآنية القاضية بأن القرآن "لسان عربي مبين". وبالنسبة له فإن هذا الإكراه يأتي من دخول الإمام في الصراع بين العرب و الشعوبيين، وغرضه في هذا الدخول هو إلغاء الإنفتاح الذي أقره الإمام أبوحنيفة على اللغات الأعجمية و تكريس العصبية القرشية و مركزيتها بحيث إنه يلغي شرط البيعة في صحة الإمامة في حالة كان المتغلب قرشيا. غير أن وسطية الشافعي الأكثر ارتباطا بظاهرة الأصولية هي صياغة مبدأ أن كل الحلول موجودة في النص، الذي يكاد يطابق مبدأ الحاكمية عند الحركات الأصولية المعاصرة. وهذا المبدأ و إن ساد قبل الإمام الشافعي من خلال تحكيمية الخوارج الشهيرة و رفع الأمويين للمصاحف في "صفين" فإن الإمام الشافعي هو الذي صاغه صياغته النهائية. ويرتبط بهذا منهج الشافعي الدلالي حيث يرى في دفاعه عن دلالة العام على الخاص أن القرأن من حيث هو عام يحتاج للسنة كخاص وللسان العربي القح كخاص لإدراكه، و يتخلص من الإستحسان و المصلحة المرسلة، ويجعل العام مرتبطا بطبيعة المتقلى وليس بطبيعة التركيب اللغوي. ويقوم الشافعي بهذه التأويلات في سياق دخوله في معركة ثانية موازية هي معركة أهل الرأي وأهل الحديث منتصرا للأخيرين. وفي هذا الإطار يرتقي الإمام بالسنة إلى مقام التشريع ويجعلها جوهرية في بنية النص القرأني. إن لهذا عدة نتائج بعيدة، فهذا يحدو بالإمام إلى اعتبار السنة نصا مستقلا ويدعها بهذا تنفرد بالتشريع دون مواكبة النص، بدل أن تكون نصيرا لما أجمله الكتاب. وبتطبيق هذا على الفتوى فإنه يكرس الحالة الإجتماعية في عهد الرسول إلى حالة فوق التاريخ، ويلغي إمكانية التأويل المقاصدي، ومثال هذا هو قوله بعدم وراثة العبد مخالفا في ذلك الإمام أبو حنيفة، صاحب الرأي، في اعتبار أن الحرية هي الأصل و أن العبودية هي حالة عارضة. غير أن معارضته الحقيقية لأبي حنيفة تكمن في اعتباره حجية القياس أضعف من حجية حديث الآحاد رغم كون القياس يعتمد على كليات الشريعة ومقاصدها العامة.
2-6- المعتزلة: إن دراسة "الإتجاه العقلي في التفسير" (1982) التي خصصها أبو زيد لدراسة المجاز في القرآن عند المعتزلة هي استمرارا لخطه التأويلي المشار إليه فيما سبق. وفي هذا الكتاب يواصل حفره في المحددات الأيدلوجية للنص المعتزلي، رغم رضاه العام عن النهج الإعتزالي، حيث يلاحظ أن مواقفهم محددة سياسيا؛ فليس الموقف في مسألة مرتكب الكبيرة مجرد خلاف فقهي بل هو خلاف بين مواقف سياسية معينة. كما أن اتجاههم في "المنزلة بين المنزلتين" هو نهج توفيقي لرأب الصدع بين الفرق المختلفة وخلق جبهة موحدة ضد النظام الأموي، أما مجهودات واصل بن عطاء فهي مجهودات سياسية لتوحيد المعتزلة والشيعة. الدراسة ترتكز على ألية اشتغال المجاز عند المعتزلة- وتطوره من مقاتل بن سليمان وأبو عبيدة إلى القاضي عبد الجبار مرورا بالجاحظ و الفراء والرماني- باعتباره نمط تأويل عقلي لنفي التجسيم و التصورات الإلهية الصنمية، غير أن المجاز ليس سوى ألية اشتغال في "خطاب" الإعلاء من العقل على حساب العصبية والشعوبية والتركيز على قدرة الإنسان على الفعل و الإختيار، وبالتالي تحمله لمسئولية أعماله. والعقل الإعتزالي هو عقل منطقي كما هو "مجموعة العلوم الضرورية التي يجعلها الله في المكلف". والكلام عندهم صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات، أما المواضعة اللغوية فهي اصطلاح وليست توقيفا، وهو ما يسمح بإدراك ظرفية النص وتعدد تأويلاته كما تفطن لذالك مقاتل بن سليمان مبكرا؛ وعليه فلا دلالة مقبولة غير الدلالة العقلية. وبما أن النص وليد اللغة الإصطلاحية فإن ظاهره لا يعبر عن باطنه وليس من سبيل لصرفه عن ظاهره سوى استخدام المجاز وذلك لرفع التناقض بين العقل و الشرع.
2-7- محي الدين ابن عربي
في الأندلس كان محيي الدين بن عربي قد قطع أشواطا في التأويل وإدراك ثنائية الظاهر و الباطن في النص. ولعل دراسة نصر حامد للمعتزلة هي التي نقلته مباشرة لدراسة التأويل عند محيي الدين بن عربي، وهو الأمر الذي فعله في كتابين "فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القران عند محيي الدين ابن عربي" (1983) و "هكذا تكلم ابن عربي". والحقيقة فإن تأويلات ابن عربي هي موضوع اهتمام متزايد في الفكر الإسلامي و العالمي عموما، وهو نموذج التفكير النسقي في الإسلام حيث التصور المعرفي يطابق التصور الوجودي و الـتأويلي. الوجود يماثل الصور وله مراتب متفاوتة في الدقة من عالم الخيال المطلق إلى عالم الحس و الشهادة. والتأويل يقوم به الإنسان الذي اجتمعت فيه حقائق الأنوسة والألوهة. والمرتبية الوجودية هي مفتاح المرتبية التأويلية أو ما يسميه ابن عربي "مراتب الذهن والفهم"، فالنص يعطي دلالات لاحصر لها ولا سبيل لإدراكها إلا من خلال ذاتية العلاقة بين الدال و المدلول. وبالنسبة لإبن عربي فليس الأمر تعددا في التأويل بقدر ما هو مرتبية فيه، فهنالك نص واحد الدلالة، مطلقها، وهو اللغة في جانبها الإلهي ، و ليس الإنساني، وهذه اللغة لا يدركها إلا الصوفي أو المتبحر في الفيض الإلهي، وهو ما يجعله يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل. ولقد سمحت هذه المرتبية لإبن عربي بتقديم تأويلات "إلهية" "كاملة" للنص القرآني، فيصبح الإيمان قوة بالجوهر لا بالموضوع و الإسلام هو دين المعرفة الإلهية وهو أشمل من الإسلام التاريخي الذي ليس إلا لحظة إنسانية في الحقيقة الإلهية المطلقة، أما الثنائيات المرتبطة بوجود العالم والإنسان كالجنة والنار و الثواب و العقاب فليست سوى التعدد الثنائي للحقيقة الواحدة، وليس الكون سوى النفس الرحيم الذي به "رحم الله الأسماء من بطونها وأظهر حقائقها، فالرحمة ماكانت إلا له من حيث أسماؤه في البداية، والرحمة لا تكون إلا له في المآل و النهاية".
الخاتمة كان مشروع نصر حامد أبوزيد هو متابعة الدراسات اللغوية والأدبية للقرآن، وهو اتجاه فرض نفسه بقوة منذ محاولات محمد عبدة لتوفيق الإسلام بالتقدم الغربي ثم محاولات أمين الخولي و لاحقيه أمثال عائشة عبد الرحمن ومحمد أحمد خلف الله، غير أن مشروعه ام يكن التأسيس لرؤية بديلة للإسلام كما يشاع غالبا، وإنما كان محاولة لتأويل النصوص الموجودة في ظل الإهتمامات الحداثية الراهنة وهو اتجاه فرض نفسه بشكل أكثر وضوحا في الفكر الإسلامي الحديث من خلال على شريعاتي و أية الله طلقاني و مهدي بازرجان و و أية الله مرتضى مطهري، وبشكل ما محمد محمد طه وحسن الترابي و حسن حنفي وغيرهم.
إن قارئ نصر حامد أبوزيد ليتفاجأ بغيات العبارات الصادمة المعادية لروح الدين، وفي المقابل فإنه قد لا يجد إلا تأويلات- أو إحيائيات لتويلات قديمة- للوحي. وهو بهذا المعنى لم يكن غير مؤول حداثي للقرآن، ولم يختلف كثيرا من حيث التأسيس النصاني بالفكر الأصولي، كما قال يوما عنه أحد نقاده، على حرب. ولقد التزم دوما بالنص معترفا بمركزيته و محاولا الحفر في معانيه البديلة التي يسميها مغازيه، وذلك من أجل مواصلة مركزيته. كانت هرمنيوطيقيته قرآنية محضة و لم تكن هرمنيوطيقا بديلة تحاول توليد معاني و مغازي بدون الإستئناس بالنص كما يفعل مفكرون إسلاميون تأويليون أمثال محمد مجتهد الشبستاري في إيران.
#أبو_العباس_ابرهام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|