ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 929 - 2004 / 8 / 18 - 13:25
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
لا خلاف على أن الحداثة مصطلح أوربي الولادة والنشأة . وهو شأن المصطلحات الأخرى الناتجة عن وضعية ( اجتماعية – ثقافية – تاريخية ) متحركة , يبقى محتفظا على الدوام بخصوصيّة المنشأ وسمتي التحوّل والتناقض , بحيث يغدو تكرار الوضعيّة التي أنتجته أمرا مستحيلا , فكيف بانتقال الوضعية ذاتها!
لقد استخدم مصطلح الحداثة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتجسيد حقيقي للفصام , حيث عاش , وما زال , بشخصيتيه الأدبية والاجتماعية دون ارتباطهما للحظة واحدة
فالحداثة كوجه أدبي أنجزت نصّها , غير أنّها أنجزته بمفردات سياق معرفي واجتماعي آخر هو السياق الأوربي , في الوقت الذي يحيا فيه الاجتماعي ما قبل تاريخيته أو ما قبل مدنيته . ولقد حاول أدونيس معالجة الفصام السابق بفرضية تقول بالتطور اللامتكافيء أو اللامتوازن ومفادها أنّه يمكن للأدبي أن يكون في قمة تقدمه وتطوّره ضمن مجتمع غارق في تخلّفه وجهله , وهذه الفرضيّة التلفيقية لا يستقيم لها عكس لأنها لا تتمتع برصانة الفرضيات وتماسك النظريات , وهي إضافة إلى ذلك محاولة يائسة لاكتساب شرعيّة من مشرّع لا تعترف هي ذاتها ( أي الفرضيّة ) بأهليّته للتشريع . كما أنّ حكم القيمة على هذا الأدبي المتطوّر والمتقدم الذي تعنيه تلك الفرضيّة يأتي هو الآخر من المنتج النقدي لوضعية اجتماعيّة ثقافية أخرى ويتحدّد بالترجمة والاحتفاء .
ومن المهم القول , أن الحداثة الأوربية قد عانت الكثير وخاضت جدلاً مريراً وصراعا داميا لإستيلاد ضماناتها الخاصة من ذاتها , ولقد أدرك الفكر الأوربي نقاط الضعف في حداثته فدأب , منذ( هيجل) مرورا ب (ماركس) و (نيتشه) و(هيدغر) وصولا إلى (هوركيمر) و( أد ورنو) حتى( فوكو) و(دريدا) , إلى إيجاد نوع من المصالحة بين العقلانيّة المتمركزة على الذات والدين الذي يمثّل كليّة شمولية .
إن الأمر السابق يظهر مدى الوعي الذي امتلكه الفلاسفة والمفكرين الأوربيين بالإنزياح الذي حصل لضرورة الحداثة( العقلانيّة) وتحوّل هذه الضرورة إلى غائيّة وأداتيّة . فالعقل الغائي أو الأداتي كان على الدوام الهاجس الذي وَجَدت فيه فلسفة الحداثة الأوربيّة عنصر دمار هذه الحداثة . وأظنّه عنصر دمار أيّة حداثة أو حتى طليعية أينما وجدت .
إن التركيز على الفكرة السابقة يستمد أهميّته من مدى الدمار والإرتكاس الذي أحدثه العقل الغائي في الإرهاصات الطليعيّة ( وليس الحداثية ) التي عاشها المجتمع العربي بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي , تلك الإرهاصات التي شكّلت, وبجدارة ,محاولة إحياء للهاجس النهضوي العربي . وهنا برزت الحداثة الأدبية كعزاء وبديل لتلك الإرهاصات , الأمر الذي جعلها تلعب , وبالطريقة التي مورست بها , دورا مضلّلا وانتقاميّا جعلها أسيرة الخصومة وقالباً للبديل . كما أنّها صاغت جوهرها , وعلى الدوام ,كسلّم قيَم مقلوب , شأنها شأن المعارضات السياسية المزامنة , وبالتالي أضحت( الأزمنة الحديثة) للحداثة الأدبية العربية محض تصوّر غيبي وافتراض لا يستند إلا على الحلم والتخيّل , وكانت صورة الأزمنة الغربيّة الحديثة هي الأيقونة والمثال المأمول , وتحوّلت الحداثة الأدبية العربية إلى طليعيّة مقاتلة من أجل تحقّق ذلك المثال مضحيّة من أجل ذلك ببدئها الفني والجمالي .
لقد تكرّس العقل الغائي الأداتي في الثقافة الحداثوية العربية عبر التفكير بإمكانيّة إعادة إنتاج( الأزمنة الحديثة )الأوربيّة , هذا التفكير الذي يمثّل نوعا من العماء التاريخي , والسحر الأيديولوجي , وذلك للسببين التاليين :
1- إن المخطط التطوري للحداثة الأوربيّة , الذي إعتمد القفز فوق المرحلة المسيحيّة أو العالم المسيحي الأوربي , بتبني العقل كمصدر أول للقرار والفعل وإنشاء عقلانيّة تتبنى العود الفلسفي إلى النابع اليونانيّة الأولى , لا يمكنه أن يحدث في مناطق أخرى لا تمتلك ذات المنبع .
2- كما أنّ تلك الأزمنة , حتى لو أعيد إنتاجها , فسيتمّ ذلك بكل تأكيد في إطار ( الأزمنة ما بعد الحديثة ) الغربيّة . وهذا ما يجعل من الأمر استحالة , لأن أدوات هذه الأزمنة هي التي ستقوم بإعادة الإنتاج في أيّة بقعة جغرافية أو شرط إجتماعي في هذا الكون وهي النقطة التي لم تأخذها بعين الاعتبار أيّ من الحركات الاجتماعية أو الأدبية في العالم اللاغربي .
إن ( الأزمنة الحديثة ) المقلوبة , التي تخيّل الجميع إمكانية إحداثها , أي تأسيس بنيّة فوقيّة ( حديثة ) وتغيير الزمن الاجتماعي على هديها , تبيّنَ أنها أكذوبة فاقعة . ومثلها دمج أو حرق المراحل الذي لم يكن سوى شكل من الاحتيال على ( الإشباع الزمني ) وأظهر أنه إلغاء أو تحييد للفاعل الاجتماعي في الوقت الذي كان الحديث يدور فيه عن هذا الدمج أو الحرق كمسرّع للعمليات التاريخية . ومن ناحيتي أرى أن الوهم يقبع هنا , ذلك أنّ الفاعل الاجتماعي لم يوجد إلا في النص , كمصطلح أو رمز , إنّه وجود بالنيابة , في النص السياسي أو الأدبي , ذلك أنّ كلا النّصين أو الخطابين انتميا إلى الفاعل الاجتماعي كمبرر وجود وشرعيّة ممارسة , غير أنّ أياً منهما لم يقبله كوجود حقيقي .
وفي العودة إلى خصوصيّة المنشأ بالنسبة لمفهوم أو مصطلح , عودة إلى تتبع المراحل والعمليات التاريخية التي راكمت تغيّرا نوعيّا فرض بدوره تعبيره النوعي والخاص حينما اكتشف ذاته كإضافة وتميّز . واكتشاف النوعي لذاته يأتي , على الأغلب , في اللحظة التاريخيّة التي تصبح فيها هذه الذات مهدّدة بالإقصاء أو الإلغاء , أي حينما يبدأ النوعي والخاص بالتحوّل إلى أداة أو مجموعة أدوات تلغي السبب أو الدافع , وتحرف الصيرورة إلى ناتج ضدّي .
بهذه الطريقة تعرّفت الحداثة الأوربيّة , عبر أقوالها الأدبية والفلسفية وحتى الاقتصادية – السياسية – الاجتماعية . واللافت أن الحداثة الأوربية تعرّفت إلى نفسها كحداثة في الوقت الذي كانت تطأ فيه عتبات ما بعد الحداثة . فالحديث لا يتعرّف ذاتيا على صفته إلا مقارنة بقديم أو تقليدي . وبالتالي فالبعد التعريفي له هو بعد تراكمي بالدرجة الأولى , أي تاريخي . وتلك المقارنة لا تأتي كمصادرة يكتنفها درس تعليمي في العصور التاريخية وخصائصها بل تأتي من ( الشعور التاريخاني بأننا نعيش في أزمنة جديدة بالكامل , بأن التاريخ المعاصر هو مصدر أهميتنا , بأننا مشتقون ليس من الماضي بل من المحيط أو السيناريو الذي يحيط بنا ويكتنفنا ) كما يرى ( مالكوم براديري )
و( جيمس مكفارلين ) في كتابهما ( حركة الحداثة ) وهنا يتخلّص قول( رامبو)
عن ضرورة ( أن نكون محدثين قطعاً ) من شوائبه الوعظية والتحريضية بالمعنى الرؤيوي النبوي ليتحول إلى دعوة للتشبّع في الكون ( حاضرين ) مقارنة مع ( مضينا ) والتأكيد على أننا نعيش عصرا جديدا في الحياة وليس في النص . كما أن هذه الدعوة جاءت في سياقها الزمني , لذا فهي تختلف عنها جذريا في مواقع أخرى يمكن أن توصف أزمنتها بالتقليدية أو القديمة. والوصف السابق لا يأتي من المقارنة بأزمنة الغير , بل من السكونية وإعادة إنتاج الذات بعيدا عن أي انعطافات أو إنكسارات في الخط البياني للسيرورة التاريخية .
أخيرا هل من علاقة حقيقيّة بيننا , نحن العرب , وبين الحداثة والأزمنة الحديثة . أم أنها حكاية وهم نجترّه مع أوهام أخرى كثيرة , وثمن باهظ دأبنا على دفعه حتى أدمنّاه ؟!!!!!!!!
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟