رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 929 - 2004 / 8 / 18 - 13:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الله – الشيطان – العبد
ثالوث الذات البشرية
بقلم/ رياض خليل
6- العصاب الديني
ولكن التوحيد تطلب المزيد من التجريد الذهني , وابتعاد الله عن الأرض والخلق , وهنا تكمن الإشكالية الفكرية- المنطقية- والعملية , فالله لم يعد قريب الشبه بالإنسان , ولم يعد موجودا من أجله , بل هو موجود بذاته , منفصل عن " عباده " , إنه الآن فوق البشر , يحكمهم , يسير شؤونهم , يشرع لهم , يتدخل في حياتهم وخصوصياتهم , يستبد بهم , يهددهم , يرهبهم , ويطلب منهم الاستسلام والطاعة والخضوع والولاء والتسليم بسلطته المطلقة , ويغلق باب الاجتهاد والحوار , ويضيق فسحة الحرية إلى أقصى حد , بل ويضعها في زنزانته . وهكذا يتحول الله من أب إلى حاكم مستبد مطلق , له الملك والخلق دون سواه
في هذه المرحلة يحتجب الله , ويتعامل مع الناس عبر الرسل والوسطاء , الذين يختارهم , ويميزهم عن الآخرين , إنه يلعب لعبة التمييز والتحيز إزاء الناس .
ومع ظهور الإسلام , حمل الدين السيف , وتبنى الحرب والغزو عقيدة ومنهاجا للانتشار والسيطرة والاستبداد , وترافق هذا مع المزيد من تجريد الله , وحصره في العدمية والعبثية , وتمت عملية تحنيطه وتعقيمه , وإغلاق أي فرصة لتعديله وتطويره , أو حتى محاولة إحيائه وتجديده وتكييفه مع متطلبات التطور والتبدل الواقعية . لقد صار الله عدما غير قابل للتوصيف والتحديد والقياس والاستدلال عليه بأي كلمة أو لفظة أو عبارة أو فكرة . وبذلك تنقطع الصلة بينه وبين الناس , الذين فقدوا أي إمكانية لمعرفته والإيمان به , بواسطة العقل . لقد تحول الله إلى فكرة ثابتة – ميتة – محنطة في الذهن البشري , فكرة تجذرت واستولت على العقل , وأخذت تقوده , وتتحكم بحركته وعمله ومساره ووظائفه , ولايعني هذا كله سوى شئ واحد , هو : إن الدين قد تحول إلى " عصاب " مزمن , وهو مرض نفسي – عقلي - يحتاج إلى علاج , لا إلى نقاش . وإن المصاب ب" العصابية " يتحول إلى : عبد ومستبد في آن واحد , وفي شخص واحد .
ويتخذ العصاب الديني لنفسه نظاما وآليات خاصة به , تمنعه من التكيف السليم مع الواقع والمحيط المختلف عموما . ويصبح مثبطا وكابحا للتطور الطبيعي للإنسان , وهو إذ يتبنى الإطلاق في أفكاره وأحكامه ومواقفه , فإنما يستخدم السلاح الوحيد المتبقي لديه , لتحاشي أي إحراج أو انكشاف وانهيار , فهو لا يقوى على مواجهة المنطق والعقلانية والواقعية بعبثية ولامعقولية الفكر الديني , وبنيانه الهش , ولاسبيل للحفاظ على بنيانه إلا بالاستبداد والإرهاب والعنف , وتحويل رذائل : ( الذل والخنوع والخضوع والطاعة العمياء والتسليم بالأمر الواقع , والتصرف كقطيع وآلات), إلى فضائل وأخلاق حميدة , وهي صفات العبد الصالح ( لنظام الاستبداد الديني طبعا ) . وبذلك يتبنى الله عقلية الديكتاتور المستبد , المزاجي , المتقلب , المتناقض في فكره وسلوكه , فهو يساوم عبده , يرغبه ويرهبه , ويهدده , ويعمل على تدجينه لا على إقناعه , ويفرض عليه الحقيقة التي يريدها , ويرغمه على الاقتناع بها , تحت طائلة العقاب , إنه لابترك له الخيار والحرية في التفكير والتصرف ,
إنه يصادر حريته , ويستولي على إرادته وعقله ووجدانه , ويفكر ويقرر بالنيابة عنه , حتى ولو تعارض مع رغبته , بذلك تتسع دائرة الإرهاب الديني المادي والمعنوي , وتضيق مساحة الحرية والحوار والبحث والمساعي الهادفة للحد من سلطة الله الاستبدادية على الأرض والحياة الدنيا , وهو ما يضعنا في واقع مأزوم , ينذر بتدمير الحياة الإنسانية وترويع الجنس البشري ,
وهو ما عانى منه الإنسان الأوروبي في القرون الوسطى , وما يعاني منه الإنسان حاليا في البلدان العربية والإسلامية , والتي تعيش الآن حالة أشبه ما تكون بحالة القرون الوسطى في أوروبا , التي عاشت حقبة قاسية من العصاب الديني , الذي يشبه ما نعيشه الآن في بلداننا , حيث لاوجود لمناخ المنطق والعقلانية والحوار , والتعايش السلمي / الديمقراطي بين سائر القوى المتعارضة محليا وخارجيا . وتغدو الحرية والديمقراطية ضربا من الكفر والانحلال الأخلاقي – الفكري الشامل , وبالتالي يبدو المجتمع وهو يسير في اتجاه وحيد وقدري نحو المزيد من الانحطاط والتخلف والانهيار المحتوم .
-4-
7- آفة الميتافيزيقا
بالطبع الميتافيزيقا ليست آفة بحد ذاتها , بل هي جزء لا يتجزأ من الواقع , لكنه عرضة للإصابة بالمرض , مثله في ذلك مثل الواقع الذي ينتمي إليه , مهما ابتعد عنه , ومهما بلغ من مستويات التجريد .
إن آفة الميتافيزيقا هي في استحواذها على الواقع الأم أو الأصل , هو – إذا صح التعبير – في استعمارها واستبدادها بالواقع الذي خرج من أحشائه , بوصفه الابن الشرعي له . العاق والمتمرد على أصله . في هذه النقطة بالذات تكمن الآفة – المشكلة , فما هو الميتافيزيك ؟
إنه وجود فرعي , منبثق عن الواقع الفيزيائي , وجود له جذوره العميقة في أحشاء الواقع , والتي تمده بالغذاء , ومن غيرها لا يبقى ولا يستمر في الوجود . الميتافيزياء ليست عدما , ولا فراغا مطلقا , ولاوجود للفراغ والعدم , إلا بوصفهما افتراضات عقلية – رياضية ضرورية لسيرورة الفكر العلمي , وهي إذن مخلوقات بشرية – أرضية غير فيزيائية , وهكذا عالم الميتافيزياء , إنه مخلوق أرضي غير فيزيائي , بمعنى آخر أقول : إن الوجود الفيزيائي هو أبو الوجود الميتافيزيائي , وكلاهما في المحصلة يعتبر وجودا حقيقيا .
إن الدين إذ خرج وشذّ عن وظيفته الطبيعية الأ صلية كحافز على التطور والتقد م , تحول إلى آفة ميتا فيزيائية , تهدد بأخطارها المجتمعات البشرية , وهو ما شهدنا آثاره مرارا , وما نشهده اليوم في بلداننا . والمطلوب إعادة القطار إلى سكته , وهذا ليس بالأمر اليسير , ولا قريب المنال . ولا يتحقق هذا إلا باستعادة سيطرة الواقع على الميتافيزيك , وضمان عدم خروجه عن السكة المخصصة له أصلا .
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟