|
نصر حامد ابو زيد... فجيعة الغياب
شاكر فريد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3055 - 2010 / 7 / 6 - 14:47
المحور:
سيرة ذاتية
لم يمض وقت طويل على رحيل وتساقط كبار المثقفين الرياديين والمبدعين الشرفاء ـ فؤاد زكريا ، محمد عابد الجابري ،محمود السعدني ، اسامة انور عكاشة، فاروق عبد القادر، محمد عفيفي مطر، واذا بالموت يهجم مجدداً ليسلب ويخطف عملاقاً فكرياً فذاً والمعياً هو الاستاذ الجامعي الدكتور نصر حامد ابو زيد ، الذي هوى وغادرنا الى رحلته الأبدية صباح الاثنين الخامس من تموز، اثر مرض غريب عجز الأطباء عن تشخيصه وعلاجه، وبعد رحلة عطاء ثرية قضاها في الدراسة والبحث في ميدان التراث الديني الاسلامي وتجديده باستخدام المناهج العلمية المعاصرة ، ومخلفاً وراءه انتاجاً فكرياً وفلسفياً ضخماً سيظل سلاحاً بتاراً حاداً بايدي عشاق المعرفة والعلم والاجتهاد والتغيير. وبوفاة نصر حامد ابو زيد يخسر الفكر العلمي التنوري النقدي احد قاماته الشامخة والسامقة ، ونودع نجماً مضيئاً ومشعاً في سماء الثقافة والفكر الديمقراطي الحر ، ونفتقد مثقفاً نخبوياً عقلانياً تقدمياً شجاعاً وجريئاً، وفيلسوفاً كبيراً امتلك الكثير من عمق المعرفة والرصانة وجدية الأدوات المنهجية. نصر حامد ابو زيد من اعلام وعمالقة الفكر والفلسفة والنقد والحداثة والمعاصرة والديمقراطية ، وأحد ابرز المفكرين الاسلاميين التنويريين والليبراللين الحداثيين المجددين والخلافيين المثيرين للجدل، والمشتغلين بقراءة خطاب النهضة ونقده، وقراءة النصوص الدينية والفكر الديني قراءة علمية تستند على اسس منهجية واضحة ابرزها الالسنية والهرمنيوطيقيا وعلم الاجتماع، والحرص على قراءة هذه النصوص من خلال البحث عن الدلالة فيها، دون ان يفرض رؤاه الايديولوجية من خارجها. اكتوى عقله بجمر المعرفة الذي بقي قابضاً عليه كالجمر حتى وفاته ، واعتبر ظاهرة انسانية وعالمية كونه احد اساتذة اجيال المثقفين النقديين في مصر والعالم العربي ، لما امتلكه من رؤية فلسفية ونقدية خصبة ونظرة علمية ثاقبة وحجة قوية وحس انساني راقٍ. كان نصر حامد ابو زيد شجاعاً غير هياب في ابداء رأيه والدفاع عنه ، وعرف بمواقفه الاصيلة الثابتة والراسخة وابداعاته العلمية الجادة الواعية . خاض اشرس المعارك الفكرية والفلسفية واعنفها ضد الجمود الفكري ، مستخدماً نعمة العقل وليس غريزة القطيع والتسليم الأعمى ، وهزم خصومه في ميدان الرأي فلاحقوه بشتى الأساليب الغادرة الخسيسة .لكنه واجه كل الحملات الغوغائية الشرسة والموجات الارتدادية والتكفيرية الظالمة من قبل فقهاء الظلام وأعداء الانسان والفكر التحرري ، والجماعات الاصولية المتعصبة وقوى التخلف والامية والجاهلية الجديدة الساعية الى محاربة وتقويض الافكار النهضوية الحداثية المعاصرة، وتدمير التراث العربي التقدمي ،وتعطيل دور العقل والعلم والمعرفة لصالح الغيبية ومحاكم التفتيش وحالات التكفير وقمع كل فكر مخالف وكل اجتهاد في الدين والسياسة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية .وهذه السلفية المتشددة المتعنتة هدرت دمه وهددته بالقتل ولجأت الى قانون الحسبة وتمكنت من نفيه هو وزوجته (ابتهال يونس) خارج حدود الوطن. وكان ابو زيد يحلم بانجاز وتذويت مشروعه الفكري القائم على النقد الجذري لكل الأصول الدينية التراثية ، التي تشكل وعينا ومفاهيمنا ونضفي عليها القداسة والتقديس. ان من يقرأ مؤلفات نصر حامد ابو زيد قراءة علمية وموضوعية ، خاصة منجزيه "مفهوم النص ـ دراسة في علوم القرآن" و"نقد الخطاب الديني" سيتبين له ان جميع الاجتهادات التي تضمناها تأتي في اطار النقد والسجال والاستشراف العلمي الذي يتجاوز الانماط التقليدية من حيث تقنيات البحث المنهجي وافتراضاته الأولية ، كما ان قراءة اعماله من شأنها اثارة التقدير والاحترام والاندهاش والانبهار لامكانياته في النقد والتحليل المدعم بالمراجع وبالرصيد المعرفي الضخم اضافة الى الجرأة التي تستوجبها اجندات الموضوع المطروح للبحث. وقد حاول ابو زيد عبر ادواته العقلانية المستمدة من المخزون الفلسفي العربي الاسلامي مقاربة النصوص التراثية بالواقع العربي ، بوعي نقدي وحس مرهف وانفتاح واسع وقراءة غير جامدة وتأويل مختلف ومغاير. وفي منجزاته البحثية يقدم دراسة طليعية لأصول النص القرآني ، في تصور جديد للاسلام الراهن ، الذي بنى حضارته العظيمة متأثراً بشدة من النص المحوري في تاريخ ثقافتنا العربية الاسلامية وهو القرآن الكريم، كاشفاً المنطق الدلالي المستور لبعض الآيات القرآنية وبلورة صياغات علمية جديدة على أساسها. والفكرة التي تناولها وتداولها ابو زيد في دراسلته وبحوثه هي فكرة"تاريخية النص الديني" وانتمائه الى بنية ثقافية محددة .ولم ينكر مصدر النص الآلهي المقدس وانما اشار الى ذلك واثبته وأكده في مؤلفه "النص والسلطة والحقيقة" لكنه اراد كشف وايضاح ان كون النص خطاب الهي من حيث المصدر لا يعني عدم قابليته للتفسير والتحليل لأنه خطاب لغوي تجسد في لغة انسانية ، هي اللغة العربية بكل اشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي قراءته للخطاب الديني يميز نصر حامد ابو زيد بين الفكر الديني والدين ، فالدين _كما يقول _هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً ، في حين ان الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم هذه النصوص وهذه الاجتهادات ، وهذا يعني الطابع التاريخي للفكر عامة. ومن المؤلم ان الخلاف حول مشروع ابو زيد الفكري لم يتحول الى سجال حضاري عقلاني موضوعي يثري الفكر العربي المعاصر ، بل اجهض هذا السجال واقتصر على اتهام وادانة هذا المشروع بالتكفير والتحريم. وهذا المسلك التكفيري في قراءة افكاره وآرائه من قبل السطة الدينية يثبت بما لا يدع للشك سيطرة الجمود في الفكر الديني في العالم الاسلامي ويؤكد حاجتنا الى نقد وتجاوز النهج التكفيري العنجهي المتعصب . نصر حامد ابو زيد باحث اقتحامي ، ومثقف عضوي وعصامي قدير وعميق وموسوعي جامع ، ومفكر كبير وعالم جليل من طراز فريد ونادر ، نحني له القامات اعترافاً بفضله وعلمه . عاش حراً شريفاً ونزيهاً ونظيفاً لم يساوم يوماً على قناعاته ،صادقاً مع نفسه ، في زمن يندر فيه رجال العقلانية والتنوير والوعي النقدي والاستقلالية والاعتدال،وحاول جاهداً ان يسبق عصره بأفكار عبقرية نيّرة لا تسعها المعلبات والقوالب الفكرية الجاهزة. وقف ضد تجار "الاسلام السياسي" الذين امتطوا صهوة الاسلام لتحقيق غايات ومكاسب سياسية ، وحارب الشعوذة والدجل الديني والخرافة ، ودافع عن الاسلام الحقيقي الناصع وعن قيمه الأخلاقية العظيمة، ورأى ان التدين ليس باطلاق اللحى ولبس العمائم والدشاديش واستخدام المسواك ، وانما بالعلم والمعرفة والثقافة الدينية المنفتحة وبسلطان العقل والتفكير المنطقي الحر واعادة التفكير .وقد أثرى الفكر العربي الحديث بجهوده واسهاماته الفكرية والفلسفية البحثية ، التي تميزت بجديتها والتزامها الصدق والعلمية والمعرفة والنظرة النقدية. وفي النهاية نصر حامد ابو زيد أكبر من ان يعرف به ، مات في وقت صعب وعصيب نحتاج فيه الى فكره وفلسفته واجتهاده ، وفي زمن انحسرت فيه العقلانية لصالح الفورة الراهنة للاصولية الدينية ، لا سيما المقترنة بالتطرف والعنف ، والتي تهيء الشروط والظروف لولادة ونشوء الظواهر السلفية والعدمية متعددة الأشكال والألوان وموته هو خسارة كبيرة وفادحة بكل المقاييس لا تعوض ، وتشكل انتكاسة للحركة الفكرية العربية الراهنة ، ولكن العزاء ان حضوره يبقى في فكره وارثه الثقافي الفكري الذي خلفه لنا.
#شاكر_فريد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في وداع الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر
-
لينين والثقافة الجماهيرية
-
صدور العدد الثالث من مجلة (بواكير)
-
عدد جديد من (الاصلاح ) الثقافية
-
حول الأدب الطبقي
-
الانفلات العنصري الفاشي ضد النائبة حنين الزعبي
-
في ذكرى -عاشقة الليل- الشاعرة العراقية نازك الملائكة
-
صدور كتاب (ذاكرة من الزمان) من اعداد وتقديم الكاتب مفيد صيدا
...
-
الجريمة والعقاب
-
مشاكلنا الاجتماعية والتحدي المطلوب
-
عالم جورج طرابيشي الفكري
-
في ذكرى اغتياله : مهدي عامل باق في الذاكرة الجماعية
-
ماذا نقرأ في العدد الجديد من مجلة (الإصلاح) الثقافية
-
صدور كتاب -مآثرة يوم الأرض الخالد وحكايات- لعمر سعدي
-
الوحدة الوطنية طريق الانتصار
-
ورحل الهرم الفكري والفلسفي العربي محمد عابد الجابري
-
14عاماً على غيابه: اميل حبيبي من طلائع الفكر والابداع الفلسط
...
-
الصادق النيهوم الباحث عن المعرفة من خلال انسانية الثقافة
-
محاكمة كتاب-الف ليلة وليلة-..!
-
دار جبرا ابراهيم جبرا تتحول الى ركام ورماد ..!
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|