أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أبو اسكندر الشامي - لماذا نحتاج الله؟















المزيد.....



لماذا نحتاج الله؟


أبو اسكندر الشامي

الحوار المتمدن-العدد: 929 - 2004 / 8 / 18 - 13:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


بدأ الانسان منذ تواجده على الأرض رحلة استكشاف طويلة لم ولن تنتهي، بل انها اصبحت صفة ملازمة له ونتاجا طبيعيا لملكة العقل والتفكير التي تفرد بها (تقريبا) عن بقية الحيوانات. (1)

وبالاضافة للتفكير والمحاكمة العقلية، امتاز الانسان ايضا بالمشاعر والاحاسيس (ما فوق المادية. أي ما ليس له علاقة مباشرة بالحواس الفيزيائية).

واشترك الانسان مع الاحياء كافة في الحاجة الغريزية للمحافظة على النوع والصراع من أجل البقاء. وبينما زودت الطبيعة الاحياء كلهم بما يلائم من الغرائز من اجل خدمة هذا الغرض، خصصت الانسان بالسلاح الاقوى وهو كما ذكرنا آنفا العقل. (2) وميزة العقل هنا انه يمكن اعتباره (مصنع أسلحة) يزود الانسان بما يحتاجه وفق الظروف التي يخوضها.

فالثابت علميا أن الانسان كان يعيش حياة أقرب إلى حياة بقية الوحوش اللاحمة وأنه استعمل أدوات بسيطة جدا لاصطياد فرائسه ومعالجتها وربما اكتشفها بالصدفة المحضة أو كانت نتيجة لتفكيره الذي دعته اليه الحاجة.

والانسان كغيره أدرك مكانه في سلسلة الغذاء الطبيعية وعلم بالتجربة أنه مفترس اليوم فريسة غدا، فبدأ يستخدم عقله في مواجهة كل ما يتهدد وجوده واستمراره من أخطار ومنها:

1 - الحيوانات المفترسة
2 - القوى الطبيعية
3 - عوامله الداخلية وادراكه لمحدودية قدراته تجاهها.

ففي ما يتعلق بالحيوانات المفترسة، نجد أن الانسان القديم قدّر ضعفه الجسدي أمامها واستخدم عقله بطريقة دفاعية أولا، شملت إيجاد الوسائل للتحصن ضدها والهروب من طريقها، ثم بهجومية فيما بعد حيث طور من أسلحته واستراتيجياته للقضاء عليها قبل أن تقضي عليه. وفي هذا المضمار نجد انه في المرحلة الدفاعية تلك، دفعه الخوف الى عبادة الوحوش كونها (=العبادة) تعطيه إحساسا بالأمان وظنا أنه يدرأ بذلك الخطر عن نفسه، وآثار ذلك واضحة في التاريخ. ثم تضاءلت نسبة العبادة والخوف بزيادة إدراكه لملكاته العقلية وتفوقه على تلك الخصوم في معركة البقاء. وهنا يظهر التاريخ أن الانسان حتى بعد انتقاله للمرحلة الهجومية، حافظ على هيبته من تلك الوحوش واحترامه لها وأنه كثيرا ما كان يتخذ من جلودها أو آثار أخرى (كعظامها أو أسنانها أو رؤوسها) نياشين يمتاز بها تدلل على قوته تجاه أقرانه، بل ان هذه العادة مازالت موجودة الى يومنا هذا بين مجتمعات الصيادين الهواة (3) .

أما القوى الطبيعية فهي كانت مصدرا كبيرا للخوف عند الانسان تصغر أمامه التهديدات التي تشكلها مفترساته من الحيوانات. ومن منا (حتى في يومنا هذا) لا يرتجف فرقا من صوت الرعد المفاجىء أو لا تسحره بروق السماء أو لا تبعث في أوصاله الرعب سيول الحمم والنار المنبعثة من البراكين أولا تسلب جأشه اهتزازات الزلازل وعواصف البحار والى ذلك الكثير؟

أمام إدراك الانسان لعجز الوسائل التي كان يملكها عن مواجهة قوى الطبيعة لجأ بداية للوسائل الدفاعية فاتقى شر تلك القوى ما استطاع واتجه الى تقديسها وعبادتها مرغبة لارضائها ورغبة في فوائدها التي كان يكتشفها تباعا ايضا (كالنار مثلا).

ولكنه - بقدرته على الملاحظة والاستنتاج والمراكمة العقلية - رأى ان عبادته لم تغنه شيئا مما كان يتأمل ! فالنار واصلت حرقها له رغم كل محاولاته لارضائها، ولكنها في الوقت نفسه سقطت ضحية للماء أو لنقص الوقود، أو للريح الشديدة المفاجئة ! فتقلصت هنا هيبتها عنده وازداد استخدامه لها وتحول هدف العبادة من الخوف الى الرغبة في مواصلة النار لحياتها ليتزود منها بفوائدها المختلفة كطهي طعامه ومنحه الدفء والنور في الظلام ودرء الوحوش... الخ. لتتوقف حاجة العبادة تلك عند اكتشافه لطرق إيجاد النار حسب الطلب (4) وأخضاعها نهائيا لمشيئته.

عبد الانسان النار فوجدها ضحية للماء وأداة طيّعة في يديه وعبد الماء (البحار والأنهار والأمطار) فوجده يتبخر بقوة الشمس وعبد الشمس والقمر فوجدهما يختفيان ويحتجبان خلف الغيوم وعبد الغيوم فوجدها لاحول لها ولا قوة أمام الريح فعبد الريح فوجدها تقف بكل جبروتها عاجزة أمام الصخور والجبال (التي اتخذ منها مكانا لسكنه سواء في الكهوف أو البيوت البدائية المصنوعة من الحجارة) فعبد الجبل والحجر فوجدها تتفتت أمام النباتات والأشجار التي رآها أضعف منه بكثير.

وهكذا استمرت دائرة الخوف والعبادة ثم الاستكشاف والسيطرة ثم الانتقال لقوة أخرى من قوى الطبيعة وإعادة الكرّة.

أما من ناحية العوامل الداخلية أو الخاصة به وبنوعه، فقد واجه الانسان (ومازال الى يومنا هذا) عوامل كثيرة تهدد وجوده ومنها:

- محدودية طاقات جسده الفيزيائية وخضوع هذا الجسد لدورة الحياة (طفولة - شباب - هرم - عجز - موت)،

- الأمراض والأوبئة المختلفة التي فتكت به دون اعتبار للسن أو الجنس أو الترتيب الاجتماعي في القطيع (المجتمع البسيط الأول)،

- تسلسله الاجتماعي.

فلفترة غير قصيرة لاحظ الانسان عجز الاطفال وقلة حيلتهم وتشابه الطاعنين في السن بالاطفال من حيث القدرة والحيلة، وظهرت مقدرة الرجال الجسمانية المتفوقة على مقدرة النساء بشكل عام وفي خلال فترة الحمل والحضانة بشكل خاص، ولاحظ كيف ان الشباب هم في أعلى مرتبة اجتماعية نظرا لتفردهم بالقدرة على تأمين الغذاء والحماية لأفراد المجموعة. ومن بين فئة الشباب المحظوظة تلك، كان جليا أن الزعامة للأقوى (بطريقة لا تختلف كثيرا عن الحيوانات الاجتماعية {التي تعيش ضمن قطعان} الاخرى). فالشاب الأقوى جسما والأكبر عضلا وقدرة على التحمل احتل المكانة الاولى كما احتلتها الصبية التي امتازت عن العجوز بجمالها وخفة حركتها ومقدرتها على القيام بالأعمال فائقة الأهمية كالحمل والولادة والارضاع وتحضير الطعام وادارة المنزل وشؤون المجتمع... الخ من المهام التي قامت بها.

ووقف الانسان عاجزا تماما أمام الموت لا يملك سوى العويل البدائي في حالة أهله أو أحد أفراد مجتمعه أو صراخ الفرح (البدائي أيضا) تجاه مقتل خصومه على يده أو بعوامل أخرى.

ثم كان الصراع الدائم على الزعامة والقيادة (ولو بأشكالها البدائية) ضمن المجتمع الواحد، والصراع بين المجتمعات على مصادر الغذاء والانتاج التي تنوعت بتطور الانسان، وما يحققه المنتصر في هذه الصراعات من مكاسب عدة مادية ومعنوية.

ورافق تطور ونمو العقل نمو شعورين وإحساسين رئيسين مازالا إلى يومنا هذا المصدر والدافع لكل عمل إرادي يقوم به كل انسان بلا استثناء وهما:

- الرغبة في السعادة (حسية أو معنوية)،
- الحاجة الى تجنّب الألم (حسيا أومعنويا).

ويتفرع عن هذين المتضادين كل المشاعر الاخرى التي تجول في نفس الانسان سلبية كانت أم إيجابية.

فكل فعل قام ويقوم به الانسان يمكن تأويله في النهاية إما لكسب السعادة أو لتجنب الألم وفي بعض الأحيان يكون الهدف مزدوجا لكنه لا يخرج إطلاقا عن نطاق هذين الأمرين! (5) .

وفيما حقّق الانسان في مسيرته الطويلة على هذه الأرض انجازات ضخمة في مقاومة العوامل المذكورة اعلاه كتنمية الجسم والعضلات والمحافظة عليه، واكتساب القدرات والخبرات التي تعزز مكانته الاجتماعية بالنسبة للرجال والنساء كل في نطاقه، ومكافحة الأمراض وتطوير وسائل الانتاج وتطويع واستغلال كل ما يمكن من قوى وموارد الطبيعة... بقيت عوامل أخرى كثيرة إما مستعصية عليه كليا أو جزئيا. واختلف تقدمه في هذه المجالات باختلافها.

فالعشوائية المنظمة (6) التي تمتاز بها الطبيعة مازالت (وظني أنها ستبقى للأبد) مستعصية عليه كليا.

أما الأمور التي تدخل في نطاق الاستعصاء الجزئي فتتناسب عكسيا مع تقدم العلم وازدهاره والنقلات النوعية التي شهدتها وتشهدها الحضارة الانسانية كالثورة الصناعية وثورة المعلومات والتقدم الشاسع في مجال الطب... الخ.

وكلما تقدم الانسان في علم ما، تلاشى من امامه احد هذه العوامل أو عدد منها، لتبرز أمامه تحديات أخرى قد يكون له دور في صنعها أو مسببات وجودها على الأقل.

وهنا يبرز أيضا إدراك الانسان لقدرته على التأمل والتفكير في ماوراء الأمور المباشرة وظهور أم العلوم (الفلسفة) وحاجته الى تفسير ما حوله وفهمه حتى ولو لم يكن يشكل خطرا مباشرا عليه أو حاجة أساسية لوجوده، وإدراكه مقدرته على الخيال.

بالتأمل والفلسفة والخيال، اضافة الى الخبرات المتراكمة لديه، أدرك الانسان القوة الكامنة في المعرفة وقيمتها كسلاح في معركة البقاء. وباستعمالها تمكن من قلب الموازين القائمة في صراع القوة بل كرّست المعرفة كقوة أعم وأكبر وأشمل من القوة الجسدية. فاكتشاف أن المعرفة مفتاح العقل الذي يسيطر بدوره على الجسم، عنى أن الكهل العاجز عن صرع شاب واحد أقدر منه جسديا أو العاجز حتى عن القيام بما يكفل استمراره كتحصيل الغذاء والمأوى، يمكنه - باستخدام المعرفة للسيطرة على عقول الآخرين- تسخير من يخضع لسيطرته تلك لتحقيق كل ما يريد !
فالقوة الجسدية لا تدوم طويلا، ولكن العقل باق ما بقي الانسان حيا ولو كان مشلول الجسم حبيس السرير.

وهنا ظهر الدين ليسد احتياجات الجميع بشكل أو بآخر. فأصحاب الدين (موجدوه ومحافظون عليه ومنتفعون منه) تمكنوا بواسطته من تحقيق كل اهدافهم التي ما كان لهم أن يحلموا بتحقيقها دونه.

وتابعوه وجدوا فيه - بإيحاء وتوجيه الفريق الأول - جوابا لكل العوامل التي مازالوا عاجزين عن التعامل معها والتحكم فيها. وسدّا لكل الفراغات الماثلة في حياتهم.

واستغل الفريق الأول الى أقصى الحدود كل ما يمكن استغلاله لتثبيت دعائم مصدر قوتهم هذا وإيجاد "فراغات" جديدة يتمكنون بواسطتها من التعويض عن الفراغات التي قام بسدها العلم أو التقدم الحضاري. بل كان من أقوى الاسلحة التي استخدموها لتثبيت دعائم الدين: الربط التعسفي بين الدين والاخلاق الاجتماعية التي فرضها انضواء الفرد تحت راية أي مجتمع صغيرا كان أم كبيرا.

فلا يختلف عاقلان اليوم أن العلاقة بين الدين والأخلاق هي علاقة طفيلية يقوم فيها الدين بامتصاص مبررات وجوده الكبرى من جذع الاخلاق ويشاركها غذاءها دون أن يقدم أي مقابل ملموس !

فالأخلاق الاجتماعية نسبية كانت أم شمولية كـ(المشاركة، الاحسان، التعاون، عدم القتل أو السرقة أو الاستيلاء على ممتلكات الآخرين المادية والمعنوية وعدم الكذب عدم الزنى ... الخ) كلها ضرورات لبقاء المجتمع وتماسكه، ودون هذه الأخلاق لا تقوم للمجتمع قائمة ويعود الانسان الى ما كان عليه الحال في شريعة الغاب.

أما الدين فهو زائدة طفيلية على تلك الأخلاق، تغلغلت فيها وادّعت ملكيتها دون وجه حق. وليس هناك مايبرر ضرورتها لبقاء المجتمعات أو استمرارها، بل انه يمكن بثقة الجزم بدورها التخريبي المستمر الى يومنا هذا !

وككل مصادر القوة كان الصراع بين مختلف الأديان حتميا لاستقطاب العدد الاكبر من القوة البشرية التي يمكن تسخيرها ومواردها لخدمة الفريق الأول وكانت الحروب المعروفة على مدى التاريخ (وما تزال بأشكال مختلفة) نتيجة طبيعية لهذا الصراع.

وباستخلاص كل ما تقدم نجد نقاط العجزالتالية (دائمة كانت أم مؤقتة) تشكل مدخلا لتثبيت دعائم الفكر الغيبي في حضارتنا الانسانية:

- انتصر الانسان على كثير من قوى الطبيعة وطوعها لخدمته أو تكيف مع العاتية منها، لكنه عند خلو يده كفرد أو جماعة من وسائل التحكم هذه يشعر بالعجز فيتقدم الدين فورا بالحل: ادع ربك أو صلّ له "ربما" يستجب لك (لا ضمانات هنا فالأمر أمره). وماذا يخسر الدين من هذه المراهنة وهو قبض الثمن ولم يضمن النتيجة؟ (7) فإن استجاب الله كان كريما وكنت جديرا وإن امتنع فبسبب ذنوبك أنت وما عليك إلا أن تدفع أكثر وتحاول أكثر. (8)

- تقدم العلم وخصوصا الطب وقضى على أمراض كثيرة، والمستقبل واعد بالنسبة لبقيتها، لكن ماذا نفعل أمام الأمراض والعوارض المستعصية التي إما لا أمل قريبا في إزالتها والقضاء عليها أو أن الوسائل لذلك موجودة ولكن الامكانيات معدومة؟ بل ماذا نفعل تجاه الاعظم والأكثر إيلاما وهو الموت؟

لقد شكل الموت "الغول الاكبر" للانسان منذ وجوده على الارض، لأسباب لا تخفى على أحد ومنها:

- الخوف من المجهول. والانسان دائما عدو ما يجهل. فلم يحدث أن عاد أحد من الموت ليخبر بما جرى معه. (9) الموت بكل الاعتبارات نهائي (10) ومخالف للتركيبة الغريزية والكيميائية للانسان والمجبولة على الصراع من أجل البقاء.

- فقدان من نحب يشكل خسارة (قد تكون مادية أو معنوية أو كلاهما) لا نستطيع ولا نريد احتمالها. وخصوصا عندما لا نجد لها مبررا منطقيا (كموت الاطفال أو الابرياء في الحروب).

- بالنظرة الفلسفية التأملية للانسان الذي يبحث عن "معنى" لوجوده و"أصله"، ويرفض غروره هضم حقيقة كونه مجرد عابر عشوائي في هذا الاتساق الكوني العظيم، يشكل الموت معضلة حقيقية. بل من هذا السياق نفسه يشكل الوجود معضلة يصعب فهمها وخصوصا في عصرنا الفضائي الذي نحاول فيه سبر أغوار الكون الكبير وندرك من حقائقه أكثر مما حلم أسلافنا بإدراكه مع أننا مازلنا في أول الطريق.

اذن، الموت بكل أشكاله وأنواعه مكروه ومرفوض ! والمزعج أننا (حتى الوقت الراهن) (11) عاجزون أمامه متى وقع فماالعمل؟

يسارع الدين (بقوالبه الجاهزة لكل مناسبة وتاريخ ومكان) ليحل هذه المشكلة حلا جذريا ويقول ليس هناك موت ! هكذا ببساطة. وبصرف النظر عن اختلاف الحلول المقدمة من الاديان باختلاف مكانها وزمانها والثقافة المرتبطة بها (كالتقمص، والبعث، والحياة الدائمة في الفردوس أو على الأرض أو في "أرض الميعاد" وتجدد الطاقة وحتى النيرفانا... الخ) نجدها كلها نسخا مختلفة لبضاعة واحدة خلاصتها: الانتصار على الموت. واذ لم يكف هذا الطرح بذاته لتحقيق رغبات وأهداف السلطات الدينية أو لطمأنة الفريق الثاني التابع بالتغلب على هذا الشبح الرهيب بكل مايمثله من ألم نحاول تجنبه، جرى ربطه فورا بشروط تعجيزية تطالب بالكثير آنيا وتعد بالاكثر لاحقا. وهنا أيضا دون أية ضمانات !

فالمسلم قد يقوم بكل ما ُطلب منه من قبل ربه (عبر الوسطاء إياهم) ليكتشف ان الله قد حدد سلفا (وفي بعض الروايات قبل الخليقة) من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار ! ويزيد في الطين بّلة تكفير- أو في اقل الاحتمالات تجهيل - كل طائفة من طوائف الاسلام المتعددة للاخرى !

والمسيحي في أغلب الروايات لن يكسب "الحياة الأبدية" بعمله صالحا كان أم طالحا بل بإيمانه فقط (ويتكفل نواب الرب على الارض بتحديد ماهو "الايمان" كلٌ حسب مذهبه ومصالحه، بل بتحديد من هو المسيحي. وينطبق هنا مبدأ الطوائف نفسه أيضا !

هذا عدا عن اليهودي الذي لايعلم هل يبعث أم لا وهل اليهودية دين أم عرق ومن هو اليهودي الحق؟ الارثوذكسي المتطرف أم المحافظ أم الاصلاحي؟ الشيء الوحيد الموثوق منه هو معاناته الازلية الممزوجة بالدم سواء كان "مؤمنا" أم لا ! وفي التوراة قصص تقشعر لها الابدان من تلاعب "رب اسرائيل" بهم وتنكيله ثم وعوده على يد موسى. والعمليات "البطولية" الانتحارية التي تحصدهم يوميا في فلسطين وغيرها لاتفرق بين صهيوني ارهابي وداعي محبة وسلام ووفاق اسرائيلي (وهؤلاء موجودون وفي بعض الاحيان فعالون لخدمة القضية الفلسطينية أكثر من غالبية "الثورجيين" رافعي الشعارات الطنانة من وراء اقداح الفودكا واطباق الكافيار الشهي) الاطفال اليهود الذين لم يعرفوا غير هذا بلدا يموتون كل يوم جنبا الى جنب مع أطفال الفلسطينيين الذين لايقووا بعد حتى على حمل الحجارة !

نتيجة كل ما سبق، يتين أننا نحتاج الله:

- ليشفنا حين نمرض (بالمرض الذي خلقه هو) أو ليجنبنا الاصابة به ان كان "كتب علينا" ذاك القدر.

- لينتصر لنا من أعدائنا وكل الظلمة الذين لا حول لنا ولا قوة في مواجهتهم (واللذين أمدهم هو بأسباب القوة والمنعة).

- ليرزقنا من واسع كرمه وليصبرنا على عوزنا ان اختار لنا الفقر.

- ليعطينا (طبقا لنوابه الارضيين) اقرارا بأننا نمتاز عن الباقين وأننا "خير أمة أخرجت للناس" أو "شعبه المختار" أو "أبناءه" الى ما في جعبة اولئك النواب من ألقاب ترضي حاجتنا للتميز.

- ليمنحنا الراحة والسكون النفسيين عند مواجهتنا لفظائع الأمور التي لا تحمل أي تفسير منطقي أو مخرج عملي بأنه هو "القادر الآمر" و"ضابط الكل".

اذن، اذا حذفنا كل ما ُوعدْنا بالحصول عليه بعد موتنا، ولوجدلا، حيث ان لا شيء مؤكد ولا مضمون، وفكرنا بتجرد فقط بما نحصل عليه الآن "هنا - في هذه الحياة الفانية" من مقابل لقاء تنفيذ كل ما أمر به الله (من خلال نوابه طبعا) ودفعنا كافة الخّوات المفروضة علينا مادية كانت أم معنوية "قد تصل الى التضحية بالحياة [الدنيا] نفسها"، ماذا تكون محصلة ما نكسبه من الله؟

انها ببساطة تتلخص في ملء الله لكل الفراغات التي مازالت تعكر صفو اكتمال صورة حياتنا ! وحين نتوصل الى القناعة بذلك، نرتاح ونريح ! فالله اذن يقوم بدور المعالج النفسي لكل مشاكلنا هنا على الارض، - حتى وان نكث بوعوده في الحياة الاخرى - لقاء مقابل بسيط جدا هو الالتزام المطلق والحرفي بتعليماته المترجمة من اللغة الالهية الى لغاتنا المختلفة بواسطة من "قدس الله سرهم" وبشكل خاص ما تعلق منها بـ"شراء الآخرة بالدنيا" وابدال حياتنا التعيسة والفقيرة والمرذولة بجنات نعيم تجري من تحتها الانهار، نكون قد تمتعنا بحياة سعيدة هنا على الاقل.

وهنا قد يسأل سائل: "وما العيب في ذلك؟ ان كان الناس سعيدين وقانعين بعلاقتهم مع ربهم، وإن كان الايمان يقوم بهذا الدور النفسي الفعّال فماالمانع ولماذا تحمل العلمانية السلم بالعرض ولا تدع "لخلق للخالق؟".

في هذا نقول: لنا اعتراضان:

أولهما ان أية عقيدة فكرية (وبشكل خاص الدينية منها) تدعي الكمال بالصحة ولا تقبل النقاش والتمحيص والتعديل، تسلب الانسان أقوى وأعز ما يملك وهو العقل المفكر الواعي المتسائل أبدا، والباحث عن المعرفة، هذا العقل الذي يستطيع الانسان به - في حال واجه مشاكله الحقيقية ونتائجها الحقيقية، لا تلك المُقدمَة له جاهزة معلبة ومصدقة بتوقيع فئة متحكمة بأسباب المعرفة ومستفيدة من جهله - لكان قادرا - كما أثبت على مر التاريخ - على استنباط الحلول الناجعة لكل العوامل التي مايزال يشعر بالعجز أمامها، وتمكن بالتالي من الارتقاء بالجنس البشري إلى أعلى درجة من الرفاهية والتقدم والسعادة. ولتعامل مع عجزه تجاه الموت الأبدي والنهائي مثلا، بتحقيق الخلود الذي ثبت انه ممكن جدا بما يخلفه وراءه من أعمال أو إنجازات أو خير وسيرة طيبة.
فالانسان الذي يعيش حياته القصيرة نسبيا يخلف دائما شيئا ما وراءه. وشتان بين ما خلفه وسيخلفه الخالدون من أمثال سقراط، أبقراط، حمورابي، موتزارت، أديسون، نيوتن، لافوازييه وكل شهداء الفكر والحرية الانسانية وما شابههم، وبين ما خلفه وسيخلفه الملك الفحل عبد العزيز آل سعود (يقال انهم زادوا عن الثلاثمائة ولد عدا الفراطة) ومحاكم التفتيش والحملات الصليبية وعصابة الأربعة الصينية وهتلر والاخوان المسلمون وعصابات شتيرن والهاغاناه "التحريرية" والزعماء العرب جميعهم بلا استثناء - الذين يجثمون على صدورنا وأنفاسنا وبيدهم وثائق التكليف الالهي او العقائدي التي تبدأ بـ"طاعة ولي الامر" ولا تنتهي "بالتضحية من أجل القضية" - وأشباه الزعماء كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري و"آية الله حجة الله العظمى الخميني" واللوحات التجريدية اليومية التي يخلفها لنا "أبطال" المقاومة الاسلامية في العراق وفلسطين (فلسطينيون وصهاينة) مزينة بأشلاء الاطفال ودماء الابرياء.... كل هذا لاكتساب مرضاة الله الذي لا يبدو انه يشبع دما ويطالب دوما بالمزيد !

كل هؤلاء وكثيرون غيرهم دخلوا وسيدخلون سجلات التاريخ وحققوا وسيحققون الخلود الانساني المنشود بعد موت أجسادهم. كل حسب طريقته وكل في مكانه المناسب.

أما اعتراضنا الثاني فيكمن في أن تلك الفئة الانتهازية (الفريق الأول أعلاه) المنتفعة من الدين والمتاجرة بأحاسيس ومشاعر واحتياجات الناس البسطاء، شكلت وتشكل العائق الأعند بوجه تقدم العلم والرفاهية والحريات الانسانية سواء استلبت مواقع السلطة بشكل مباشر كما نرى في بعض دكتاتوريات الدول العربية وإيران وغير المأسوف عليهم "الطالبان" في أفغانستان، أو وقفت خلف القوى الاستبدادية بكل أشكالها، تطبّل لها وتزمّر، وتذكرنا ان الله أمرنا "بطاعة ولي الأمر" وتشكل لها الغطاء الديني المطلوب لتبرير وجودها.

ولمن يشكك بالدور الرئيس الذي لعبته وتلعبه القوى الدينية المختلفة "باسم الله وبالنيابة عنه" في تخلف الامم، نحيله الى تاريخ عصور الخلافتين الاموية والعباسية وبعدها العثمانية، والى ما عرف بـ"عصور الظلام" في أوروبا أيام سيطرة الكنيسة ومحاكم التفتيش والتاريخ مليء بالشواهد الحية وأبلغها في يومنا هذا سلطة مشايخ وعمامات الأزهر في عاصمة الحضارة "مصر" التي تتعايش وتتبادل الدعم مع السلطات الديكتاتورية لسحق أي محاولة للتعبير عن الرأي الحر ولو حتى في أشكاله الفنية البسيطة ووصل بها الارهاب الى التدخل حتى بالحياة الخاصة للادباء والمفكرين الذين "تجرؤوا" على المس "بمقدساتهم" مطالبين بتطليق الرجال من زوجاتهم كما حدث للدكتورة نوال السعداوي وغيرها من أدباء وعلماء ومفكري مصر العظام !

لو اقتصر دور الاديان على الدور الروحي والنفسي المفترض بها لما كان لنا اعتراض. فالدولة العلمانية الحرة الحديثة تكفل الحرية الفكرية وعلى رأسها حرية الاعتقاد الديني طالما التزمت الاديان بدولة القانون وابتعدت عن السياسة والتسييس والغاء الآخر ومحاولة مصادرة العقل والفكر والاخلاق الانسانية لتبرر وجودها وبقاءها. الانسان المستنير بالعلم والحرية والديمقراطية هو الذي سيكتب له البقاء وهو الذي ليس بحاجة الى الله مهما تعددت طبائعه وأسماؤه وعدد نوابه المخلصين على الارض.


هوامش:

(1) نقول تقريبا هنا لأن العقل بمفهومه الانساني وحتى المشاعر توجد في بعض الحيوانات المتقدمة بنسب مختلفة وإن تفاوتت مع الانسان بشكل كبير.

(2) العقل هنا بمفهومه الشمولي الذي يجمع بين وظائف الدماغ الداخلية وتراكمات الخبرة والعلم المكتسبة.

(3) الذين يقتلون الحيوانات لمجرد القتل لا لحاجة كالطعام ويفاخرون بعرض نياشين شجاعتهم وانتصارهم على الحيوانات هذه في بيوتهم.

(4) كان الانسان بعد اكتشافه فوائد النار يلزم اماكن وجودها الطبيعية كشجرة محترقة من عاصفة أو ما شابه وإذا اضطر للرحيل حرص أن يحمل معه جمرات يغذيها قبل ان تتلاشى حتى تمكن من اعادة انتاجها باحتكاك الخشب أو حجر الصوان.

(5) ففعل تناول الطعام مثلا ينتج الهدفين معا: التلذذ بالطعام والشعور بالأمان لتوفير الحاجة (=سعادة) وتجنب الجوع وخطر الانقراض (=ألم). جدير أن نذكر أن دافع تجنب الألم أقوى من دافع تحصيل السعادة.

(6) نظرية في مقاربة شرح الكون والوجود والطبيعة متشابكة نوعا ما لا يتسع لها المجال هنا، وتحتاج الى فصل خاص بها.

(7) يمكن تشبيه هذا بخطة للنصب على المواطنين المساكين الراغبين بالهجرة الى الولايات المتحدة أو الدول الغربية قام بها بعض المحتالين في سورية قبل ما يقارب العشرة أعوام. تتلخص في ان المحتال كان يوهم طالب التأشيرة بمقدرته على استحصال التأشيرة للمواطن المتعوس بحكم علاقاته (=المحتال) ببعض المسؤولين في السفارة مقابل مبلغ خيالي من المال ُيدفع جزء منه قبل الطلب والبقية عند الحصول على الفيزا. فإذا ُرفض طلب المواطن يتعهد المحتال بإعادة كل ما قبضه. كان كل ما يقوم به هذا المحتال هو تعبئة الطلب للمواطن والتدقيق فيه ثم تلقينه ما يجب ان يقوله في المقابلة. فإذا حصل المواطن على الفيزا (بشكل عادي طبعا ودون تدخل المحتال الحقيقي) قبض هذا باقي المبلغ. أما إن رفض الطلب، فيخترع المحتال عذرا يلوم به المواطن على الخطأ الذي "لابد وانه ارتكبه هو" (=المواطن) ويعيد اليه ما كان أخذه منه. وهكذا يكون قد قامر دون احتمال خسارة حقيقية عدا الوقت الذي صرفه في تحضير الطلب !

(8) الدفع هنا لا يقتصر على المال والقدرات بل يتعداه الى مزيد من الواجبات الالهية حسبما يرئ "اصحاب الشأن" و"ولاة الأمور".

(9) نتجاهل هنا الدعاوى السخيفة لاناس قالوا انهم ماتوا وعادوا من الموت بعد ان ابطلها العلم وأوضح زيفها أو فسرها في حالات أخرى.

(10) في كل الديانات يتعبر موت الجسد نهاية لمرحلة حياة الانسان على الارض وإن اختلفت فيما بينها عما يحدث بعده.

(11) بعد ثورة علم الاحياء وعلوم المورثات والاستنساخ، ليس بغريب على العقل أن يتمكن الانسان يوما من قهر الموت وإن أدخلنا ذلك في مشكلات فلسفية واجتماعية لا مكان لها هنا. لكن المحاولات والابحاث جارية (تجميد الجثث، مكافحة الكهولة والامراض، زرع الخلايا المتجددة... الخ).

_________________

"أصبحت لا أقيم للتاريخ وزنا ولا أحسب له حسابا لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال ومتجشم أهواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة." معروف الرصافي (ابن الفلوجة)



#أبو_اسكندر_الشامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- علاء مبارك يهاجم قياديا في حماس بسبب تصريحه عن مصر: -خلي عند ...
- المبادرة المصرية تنتقد خطة وزارة التعليم لسد عجز المعلمين وت ...
- استقالة رئيسة جامعة كولومبيا بعد احتجاجات الطلاب على حرب غزة ...
- عيد انتقال العذراء: لماذا تكرّم الأديان السيدة مريم؟
- التقدم الأوكراني في الأراضي الروسية يقوض صورة بوتين كـ -رجل ...
- اللبنانيون -يترقبون بحذر- والوسطاء يسعون تجنب اندلاع حرب شام ...
- البيت الأبيض: محادثات وقف إطلاق النار في غزة أحرزت تقدما ملح ...
- منظومات -اسكندر- الروسية تدمر راجمات الصواريخ -هيمارس- في مق ...
- روسيا تدعم الجيش بعربات برمائية جديدة
- بري لسيجورنيه : لبنان ملتزم بقواعد الاشتباك وحقه في الدفاع ع ...


المزيد.....

- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أبو اسكندر الشامي - لماذا نحتاج الله؟