|
شجرة الكراهية . . من الجذور إلى الثمار
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 928 - 2004 / 8 / 17 - 10:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إذا كان من الصحيح بوجه عام أن الأفراد والأمم تسعى في الاتجاه المحقق لمصالحها، المادية على وجه الخصوص، فإن المراقب لشرقنا الكبير يستطيع بسهولة أن يلاحظ أنها تسعى في عكس الاتجاه، بل وتندفع نحو صدام مع العالم المتحضر، بعاطفة جياشة عارية من أي حسابات عقلانية للعواقب، ويمكن اختصار هذه العاطفة الجياشة في كلمة "الكراهية"، كما يستطيع المراقب المنصف أن يقرر أن الكراهية المزدهرة حالة إيجابية موجودة، بمعنى أنها ليست رد فعل سلبي على فعل من طرف مقابل، مهما ساق بعض كهنتها من مبررات يعرفون زيفها، وبوجه عام يخرج عن موضوعنا هذا عواطف الكراهية الناجمة عن أفعال عدائية من آخر، لينصب حديثنا على الكراهية للآخر بما أنه آخر. من المثير للانتباه أن الكراهية محل اهتمامنا متغلغلة على مستوى الأفراد في المنطقة، نحو أمم بكاملها، غالباً لم ير أي من هؤلاء الكارهين فرداً واحداً من أفرادها، فالمفترض أن العواطف حباً وكراهية تكون من فرد لفرد، تعامل معه ثم كرهه، أما على مستوى الدول والأمم، فيكون الخلاف ربما إلى حد العداء بين الحكومات، لا يمنع أن تكون مؤيدة من شعوبها، لكن أن يتحول الأمر إلى عداء شعبي من أفراد أمة ما لأفراد أمة أخرى، وهو ما نراه في أعمال قتل لأبرياء هنا وهناك، وما يصاحبها من ابتهاج مشوب بالغلِّ على المستوى الشعبي، فيما الحكومات، الأولى أن يكون الخلاف على مستواها لا يتعداه، على علاقات صداقة أو تحالف، فهذا ما يثير اهتمامنا لنرصده بالتحليل. رغم هذه المشاعر نحو عالم بكامله، العالم الغربي، فإن أعداداً هائلة من أفراد شعوبنا تسعى للنزوح للعالم المكروه، سواء بطرق شرعية أو غير شرعية، ويموت المئات منَّا سنوياً غرقاً في البحار خلال عمليات تسلل غير شرعية لذلك العالم الكافر الفاسق، ومن بين الآلاف أو الملايين التي تستقر هناك، قليلون على ما نعتقد يحتفظون بمشاعر طيبة للمجتمعات التي آوتهم وفتحت لهم ذراعيها، والأغلبية تحتفظ بكراهية ربما تتضاعف، فيما ينخرط صفوتهم في التحريض على تدمير تلك المجتمعات، ليستجيب لتلك الدعوات نفر من خيرة الشباب حسب تقييمنا، ونحتسبهم إذا قتلوا وهم يقتلون عند ربهم شهداء. إذا كان لنا أن نقفز إلى ادعاء أن استشراء أو استزراع الكراهية، في بعض المجتمعات على الأقل، أسرع وأسهل من استزراع الحب، فإن علينا أن نتباحث في المقومات التي تدعم هذا النوع من العواطف: مقومات ابتدائية المقومات الابتدائية هي عناصر إيجابية، بمعنى أن حضورها، وهو حضور فطري دائم لدى الإنسان في كل العصور، وكل الأجناس، هو الذي يحدث الأثر المقصود، ونعني بها المقومات التي نتصور أو نفترض وجودها في الإنسان البدائي الأول: · الكراهية الفطرية: إن العاطفة الأولي التي سيطرت على الإنسان الأول يوم فارق القردة على قمم الأشجار، وقرر أن يسكن الأرض، كانت الخوف، الخوف مما يطأ بقدميه من حشرات، والخوف مما يهاجمه أو حتى يفر منه من حيوانات، الخوف من الأمطار والبرق يدهمه في العراء، ومع الوقت واستخدام وعيه المتنامي أخذت عاطفة الخوف تتحول إلى اتجاهين: 1. اتجاه الكراهية إزاء مثيرات الخوف (الكائنات) التي بدأ في منازلتها، أو تصور نفسه قادراً على ذلك. 2. اتجاه التعبد، ليسترضي مثيرات الخوف التي قدَّر أن لا قبل له بمواجهتها، فعبد الشمس الحارقة والأمطار والرعد والحيوانات الشديدة الافتراس وما شابه. ومع مسيرة الحضارة بدأ الإنسان، استجابة لنوازع بدأت جنينية مع وعيه الوليد، يعرف عواطف أخرى مثل الحب، لتبقى الكراهية العاطفة الأولى والأقرب للفطرة، مصحوبة بقدرة على الحب تتوقف على درجة التحضر، بوصفها عاطفة دخيلة تحتاج لعناصر غير فطرية (حضارية) لتدعيمها في مواجهة إلحاح الكراهية الفطري في أعماق الإنسان، أو فلنقل أن الكراهية هي الأساس، والحب ارتفاع عن هذا الأساس، بما أنه بناء حضاري، ومن الطبيعي أن تميل الأحجار دائماً إلى السقوط، ومن هنا نكتشف سر رواج الدعوات والعقائد والأيديولوجيات الداعية إلى الكراهية، كراهية الآخر، أي آخر، فدعوة الكراهية دعوة للسقوط، والاستجابة لها سهلة ومرغوبة لأنها لا تكبد عناء، بل وتستجيب لنداء الفطرة والطبيعة الإنسانية، عكس دعوة الحب والتحضر. رواج عاطفة الحب إذن رهن بتحضر الشعوب، وسيادة الكراهية ملازم للتخلف الحضاري، ولأننا دون فخر نحتل حالياً مكاناً مرموقاً في قائمة الشعوب المتخلفة، فليس من الغريب أن نحاصر داخل أنفسنا بمشاعرنا البدائية الكارهة، وسنظل كذلك حتى نتحضر، لكن المعضلة هي كيف يمكن أن نتحضر ونحن في حالة عداء وصدام مع المتحضرين؟!!! · التفرد: الإنسان فرد فريد لا يتكرر unique ، وهذا على المستوى البيولوجي وعلى مستوى الوعي والإرادة المستقلة، ويؤدي هذا التفرد الطبيعي بمعنى الحتمي إلى تقاطع رغبات وميول البشر، وبالتالي تولد الكراهية بين البشر، كأحد نتائج هذا التفرد، ووعي الإنسان بتفرده يزداد بزيادة تحضره، أي زيادة وعيه بذاته، وإن كان بنفس الدرجة يزداد وعياً بالقواسم والمصالح المشتركة التي تربطه بالآخر، وبالتالي تخفض من درجة كراهيته للآخر، على أساس أن التفرد الإنساني ليس تفرداً كاملاً، وإنما هو تفرد جزئي، يختلف حجمه من فرد لآخر، ويمكن القول أن تأثير عنصر التفرد في الدفع للكراهية لا يرتبط طردياً ولا عكسياً بدرجة التحضر أو زيادة الوعي الإنساني، وإنما يرتبط بعلاقة جدلية، تأخذ اتجاهات تتعدد بتعدد حالات التفرد الإنسانية. · طبيعة الجغرافية: تنعكس طوبوغرافية المكان على ساكنيه، فالمناطق الصحراوية ذات المناخ القاري تطبع البشر بطابعها فيتسمون بالقسوة، ويصعب تخلصهم من هذه القسوة حتى لو سكنوا المدن، فالتحول إلى أخلاق جديدة يستلزم مئات وآلاف السنين، كما يستلزم نجاح التحول عوامل أخرى قد لا يتوفر بعضها، كما في حالة القبائل البدوية التي نزحت لمصر بعد القرن السابع، واستوطنت صعيد مصر، والتي يظهر حتى الآن تأثير أخلاقها الصحراوية، وميلها للعداء والكراهية، وإليها يرجع رسوخ قيم الثأر في جنوب مصر رغم التقدم الحضاري النسبي. · طبيعة التراث الفكري: في المجتمعات المحافظة يكون للعقائد والأفكار والنصوص الموروثة أهمية قصوى باعتبارها أفكاراً مقدسة، فإذا ما كانت طريقة فهم أو تفسير هذا التراث الفكري يغلب عليها التحريض على عداء الآخر، فسوف ينعكس هذا التوجه على نظرة تلك الشعوب إلى العالم، فنحن لا نتلامس مباشرة مع الحقائق الموضوعية في العالم، وإنما نراه عبر عدسات ملونة من أفكارنا المسبقة. · البداوة وطبيعة النظام الاقتصادي: هنالك فرق في النظرة إلى الحياة والآخر بين المجتمعات البدوية، التي تعتمد الإغارة والغزو للسلب والنهب كوسيلة لتعظيم الثروة، انتقاصاً لا ريب من ثروة الآخر، وبين المجتمعات الزراعية والصناعية التي تحقق الثروة ببذل جهد يضفي على المادة الخام قيمة مضافة، دون الحاجة لانتقاص من ثروة الآخر، بل تكون ثروة الآخر في هذه الحالة معين في تحقيق نجاح العملية الإنتاجية، سواء في مرحلة الإنتاج أو التسويق، ومن الطبيعي أن تنظر مثل هذه المجتمعات للآخر نظرة إيجابية، أو على الأقل نظرة إلى منافس، في حين تكون النظرة البدوية إلى الآخر نظرة إلى خصم، وشتان بين النظرتين، فالنظرة البدوية إلى الحياة كما لو كانت zero sum game ككرة القدم، ما يحققه فريق لا بد ويكون خصماً من الآخر، وهذا النمط وإن كان موجوداً فعلاً في الحياة، إلا أنه جزء من الصورة وليس كلها كما في المفهوم البدوي العدائي. مقومات ثانوية المقومات الثانوية هي عناصر سلبية، بمعنى أنها مقومات غياب، فهي حالات غياب العناصر التي ارتقت بالإنسان من حالة الفطرة المتوحشة، وهي مقومات لا يتقاسمها البشر بالتساوي، لأنها ناجمة عن ضمور أو فشل ما أسميناه نوازع جنينية لدى الإنسان الأول، تدفعه لمغالبة طبيعته الداخلية الثقيلة، ومغالبة الطبيعة العدائية حوله، ليسود عليها سعياً للوصول إلى السلام، السلام مع ذاته، ومع الآخر، ومع الطبيعة بمكوناتها المختلفة. · ضعف الشخصية: الشخصيات والنفوس القوية تتحرك في اتجاه البناء، تنزع إلى بذل الجهد لإقامة المجد الشخصي، الفردي أو الجماعي، عن طريق الإضافة، إضافة قيمة للحياة، أو للمواد الأولية المتوفرة، أما النفوس الخائرة فليس أمامها غير الكراهية، تملأ بها خواء داخلها. · الكبت الجنسي: يحتل الجنس مساحة واسعة من تكوين الإنسان، سواء البيولوجي أو النفسي، وإشباع الميول الجنسية بصفة عامة يؤدى إلى إزالة التوتر الداخلي الناجم عن الرغبة، وبالتالي الإقبال على الحياة، لتكتسي مشاعره تجاه كل ما حوله بالود، كانعكاس لتصالح الإنسان مع ذاته بالأساس، ويحدث العكس في المجتمعات المغلقة، التي يعاني أفرادها الكبت الجنسي، حيث يحدث التوتر الداخلي عداء وخصام مع الذات، وهي الحالة التي شخصها بولس الرسول في أحد رسائله قائلاً: أقمع جسدي وأستعبده، وتنعكس حالة الصراع مع الذات هذه على نظرة الإنسان للحياة عموماً، فيكون أكثر ميلاً للعداء خاصة مع الآخر. · الجهل: الإنسان عدو ما يجهل، وفي المجتمعات التي يسودها الجهل تتسم نظرة الإنسان للحياة بالخوف، ومن ثم تكون مشاعر الكراهية هي الأقرب، فإذا شبهنا الجهل بالظلمة، فإن من يسير في مكان مظلم لا يرى من معالمه شيء يكون متلبساً بالخوف والكراهية لكل صوت يسمعه وكل لمسة يلمسها. · الانقيادية وأخلاق القطيع: الشعوب التي تتسم بسهولة الانقياد، وتميل للسير خلف قائد تسلم له مصيرها، تكون أكثر قابلية للوقوع في براثن الكراهية إذا ما دفعها إلى ذلك قائدها، أو النخبة المعينة له، بعكس الشعوب الحرة، التي يتسم أفرادها بنظرة نقدية للحياة عموماً، ولكل ما يقال لها أو تحرض عليه. يمكن أن تعتبر المقومات الابتدائية بمثابة الجذور لشجرة الكراهية، وهو ما يصعب إن لم يستحل التعامل معه، تغييراً أو اجتثاثاً، أما المقومات الثانوية فأقرب لأن تمثل جزع الشجرة، وربما يمكن التعامل معه، تطعيمه بجزوع أخرى مثل أشجار الموالح، العملية صعبة، ولا نتصور النتائج مبشِّرة، وإن كان بصيص الأمل يمكن أن يكون عن طريق تأثيرات خارجية، نرى بوادرها ووعودها بالمساعدة، وإن اعتبرها أشاوس أمتنا تهديدات بالغزو والهيمنة. ثمار شجرة الكراهية، هل تحتاج لبيان، الفقر والجهل والمرض، تلك الثلاثية الشهيرة، زاد عليها أن أصبحنا مطاردين ومستهدفين من القوى العالمية، أصبحنا موضوعاً للبحث والدراسة في أحسن الحالات، وهدفاً لطائرات الأباتشي وصواريخ الكروز في أسوأها.
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبل تغيير الشرق
-
دوائر الانتماء بين التفاضل والتكامل
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 6
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 5
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 4
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 3
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 2
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 1
-
الفاشيون الجدد والتانجو الأخير
-
الفاشيون الجدد ودموع التماسيح
-
- أثداء الصبار- قصة قصيرة
-
خربشات على جدار مفترض - كتابة عبر النوعية
-
الشيخ وهالة الصبح - قصة قصيرة
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 3/3
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 2/3
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 1/3
-
نحن وأمريكا الجزء الثالث
-
نحن وأمريكا الجزء الثاني
-
نحن وأمريكا الجزء الأول
-
الفاشيون الجدد والاقتداء بمقتدى
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|