|
يوم في دار العداله
حامد حمودي عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3047 - 2010 / 6 / 28 - 16:23
المحور:
المجتمع المدني
كان الوقت يقترب من منتصف النهار ، حينما دخلت الى بناية المحكمه ، لأحصل على توكيل رسمي يحصل بموجبه احد اولادي على حق استلام راتبي التقاعدي .. ومنذ اللحظة الاولى ، كنت فيها اتقدم بخطاي المتثاقله ، صوب غرفة دلني عليها الحراس عند الباب الرئيسيه للبناية الداخليه ، داهمني إحساس بالخوف من مجهول لم اتمكن من تشخيصه .. لقد كانت حركة الموجودين داخل المحكمه ، وعبر ممراتها الضيقه ، توحي بمجملها بأن ثمة حساب سيجري بعد قليل للجميع وأنا منهم ، وخيل لي بان ذلك الزحام من البشر ، هو بانتظار صرخة سيطلقها أحدهم ، ليدخل الجميع الى قاعة كبيرة تتم فيها مرافعة من نوع خاص ، يحاكم بموجبها كل من سولت له نفسه بالتواجد حينذاك في ذلك المكان المهيب . انتظر الى ان ننادي باسمك .. قالتها تلك التي استلمت وثائقي الشخصية ، ووجهها يحمل سحنة جافة رغم كونها كانت في مقتبل العمر .. تراجعت الى خارج الغرفه ، متخذا جدار الممر من خلفي سندا لي لألقي عليه بثقل جسدي ، مطلقا العنان كعادتي لعيوني ومخيلتي كي يزحفا الى ابعد من تلك النقطه . لم يمهلني حب الاطلاع ، فرصة للانتظار في مكاني .. فتحركت منزلقا بجسدي خلال الممر دون قصد بعينه .. ثمة مقاعد خشبية تلتصق ببعضها تم رصفها على جانب الممر ، يجلس عليها من ينتظر قبالة الغرفة المعنية بالحالة التي جاء من اجلها .. وهناك عدد من الغرف ، ليس فيها ما يدل على اختصاصها ، سوى شرطي او ضابط يقف عند مدخل كل منها ، وهو يراقب بعينيه جموع الحاضرين ، يملأ محيطه القريب بدخان سيكارته على مهل . توجهت بهدوء صوب ضجيج أكثر وقعا ، تتخلله صيحات منادي يستدعي اشخاص باسمائهم ، كان الرجل يرتدي الملابس العسكرية ، ومع هذا فهو حاسر الرأس متخليا عن ما يفرضه النظام العسكري ، في أن يكون الشرطي او الجندي مرتديا لغطاء الرأس حين مزاولة مهامه الرسميه .. على المقاعد الخشبية المرصوفة هناك ، جلس صف من المتهمين بتهم مختلفة او متشابهة لا أدري ، وهم يتطلعون لأي شخص يمر من أمامهم ، وكأنهم يبحثون عن شيء مفقود ، من شأنه ان يعينهم في بلواهم .. توالت صيحات المنادي ، يعقبها في كل مره نهوض أحد الجالسين ، ليقوم أحد الشرطة بفك وثاقه من حلقة حديدية تربط ذراعه بذراع صاحبه ، ويسحب الى غرفة القاضي كما كانت تدل يافطة صغيرة معلقة على احد الجوانب العلوية للباب . كنت متشوقا لأن اجلس الى جانب احد منهم لمواساته بحديث افهم من خلاله اسباب وتفاصيل جرمه ، غير أن نظرات الشرطي لي بين الحين والآخر كانت تعيدني الى رشدي فانصرف عن نيتي تلك .. رواح ومجيء ، واوراق محفوظة داخل سجلات ضخمه كتلك التي تتعامل بها دوائر السجل العقاري ، ينقلها رجال البعض منهم بملابس مدنيه ، والاخر بملابس الشرطه ، في حين انطلقت على حين غره ، وفي آخر الممر ، صيحة عالية من امرأة مسنه ، وهي تشتم رجلا وقف قبالتها يحمل بيده حقيبة سفر ، ويرتدي نظارات طبية تدلت على مؤخرة انفه ، وهو يردد ملوحا بيده في الهواء كلمات غير مفهومه .. دنوت قليلا لأفهم فحوى المشكله ، كانت رائحة الرجل النتنه قد دفعتني لأن احوم حوله ، لأكون في الجهة التي تقف عندها غريمته .. انها قضية تتعلق بايجار منزل على ما يبدو ، وليس فيها ما يثير الاهتمام .. توالت صيحات منادي المحكمه ، تتبعها فك قيود المتهمين وادخالهم الى غرفة القاضي .. وفجأة لمحت صبيا يسحبه اثنان من الشرطه ، لا يقوى على السير منفردا ، فبادر الشرطيان الى مسكه من تحت ابطيه ورفعه الى اعلى لينتصب جسده ، كان كجثة تتحرك ، لا شيء يدل فيه على الحياة سوى العيون المفتوحة عن اخرها ، وهي تقاوم الاستسلام للموت .. القي به غير بعيد عني ، فهالني أنه كان محملا بآثار الكي على رقبته وكتفيه العاريتين ، وتنتشر مواقع الكدمات على وجهه بشكل عشوائي مريع .. انحنيت من مكاني لاتطلع الى وجه الصبي .. لم تكن فيه معالم بعينها تشير الى تقاسيم بشر ، إنه عبارة عن مساحة ملونة بالوان تداخلت بينها لتصبح أشبه بقطعة مدهونة بسخام الرماد ، وتحيط بعينيه هالات زرقاء مشكلة دوائر غير منتظمه .. سرت القشعريرة في جسدي ، في حين كان الصبي ممدد على الارض بانتظار ان يقول القاضي كلمته فيه ، ولربما سبق لتلك الكلمة ان وردت اليه مسبقا ، وما عليه الا النطق بها ليعاد ( الجاني ) الى حيث كان ، محكوما عليه هذه المرة ، وليس معتقل على ذمة التحقيق . انه من مدينة بابل ..هكذا قال احدهم وكان يقف قريبا منه ، فسارعت بالسؤال عن سبب اعتقاله ، وما إن سمع الرجل سؤالي حتى اختفى مباشرة من أمامي وسط الزحام ، لاختفي أنا في أثره فورا ، فوجدت نفسي الى جانب عربة لبيع الشاي في الساحة الخارجية للمحكمه . . ترى ما الداعي لأن احشر نفسي في عوالم لا قرار لها ولا حدود ، مالي وحال المظلومين والظالمين معا ؟ .. لماذا لا اسارع لإستلام اوراقي واغادر المكان على عجل ؟ .. لقد قالتها لي زوجتي يوما حينما وجدتني محشور بين طفل تمسك بي في عرض الشارع ، وبين امه الثائرة وهي تطارده لسبب ما ، قالت لي بأنني ساجد نفسي يوما في وضع اندم عليه إن لم أقلع عن الاهتمام بما حولي والى هذه الدرجة غير الطبيعيه ، لقد تمسك الطفل الصغير بساقي فمنعني عن الحركة تماما ، وامه التي هبطت من باب احد الفنادق ، حاملة قطعة من خشب ، تحاول النيل منه وترجوني ان اتركه لها .. شعرت ساعتها بانني أمام معركة لابد لي ان اخوضها ببساله ، فالمرأه كانت تبدو عليها علامات غير عادية توحي بانها إحدى بائعات الهوىممن يقمن في الفندق ، وكانت تزمجر وبشكل يتوعدني بالضرر ، إن لم استجب لطلبها في منحها ابنها لتقتص منه .. سلمت حقيبتي الى زوجتي وتحفزت اعضائي للقتال ، حملت الصغير لضمه الى صدري ، وقلت لها وبصوت حاولت ان افهمها من خلاله ، بانني لن اعيده اليها حتى تستكين ، وعليها ان تمنحني فرصة التحدث معها لينتهي الامر على خير .. صرخت بي زاعمة بانه ابنها وهي حرة فيه ، فاعدت الكرة بانني لن ادعها تؤذيه ، ولابد لها ان ترضخ لطلبي .. لقد كنت ارتعد في داخلي مخافة ان تقوم المرأة بفعل ما يجعل الغيارى من المتطوعين ( للدفاع ) عن كرامة النساء ، فتحدث المصيبة .. كنت كلما شعرت بالاقتراب من نقطة الاستسلام ، فتسترخي ذراعي من حول الطفل ، كان هو يضيق الخناق حول رقبتي ويطوي راسه الصغير على كتفي ليشعرني بقوة الدفاع عنه من جديد . - اسمعيني جيدا ، ولا تفعلي اية حماقة تؤذيك وتؤذيني وتسبب لطفلك مشكلة ، دعيني ادخل معك الى الفندق للتفاهم هناك عسانا نصل الى اتفاق مفيد . - ما شأنك انت وما يحصل لي ولابني يارجل ؟ .. هب انني اريد ذبحه بسكين ، ما دخلك انت في الموضوع ؟ . - دخلي هو ان ابنك استجار بي وهو الان وديعة لدي ، وتأكدي بانني سوف لن اتخلى عنه ما استطعت . لقد كنت حقا مستعد للدفاع عن الصغير والى الحدود التي استطيع ، ولم تثنني توسلات زوجتي بالتراجع عن ذلك .. كانت قطعة الخشب بيد والدته مدعاة لأن تحفز في داخلي احساسا بالقوة والاصرار .. كان فرحي كبيرا عندما القت المرأة ما بيدها ، وعادت ملامح الرحمة الى محياها .. مدت بيدها وبحنان ظاهر لتأخذ الطفل مني ، وبفطرة الطفولة ، استجاب لها الصغير حينما لمح فيها روح الام .. وبهذا تخلصت من ورطة تركت في نفسي أثرا لا زال يحفز في داخلي كراهية كل الاباء والامهات ، ممن يحملون في ايديهم وعقولهم لوحات من خشب ، ليخربوا بها اجساد ابنائهم وبناتهم الابرياء .
ايقضني فجأة صوت صفير سيارة للشرطه وهي تمر بالقرب مني مسرعة باتجاه ما ، فتذكرت بانني علي ان اسارع لاستلام اوراقي من الموظفة المعنيه .
في طريقي الى هناك ، وقبل ان اصل الى حيث الموظفة المختصة .. اعترضني جمع من الناس ، وقد تحلقوا حول فتاة تلطم وجهها وتصرخ لأن احدا سلبها ابنها وهما في اروقة دار العداله ، ترى من يكون هذا وكيف حدث ذلك ؟ .. وتوالت المعلومات .. انه زوجها ، جاء بها الى هنا بحجة تصديق عقد زواجهما القديم ، لتكون الغاية ليست كذلك ، إنه يريد منها التوقيع على تنازل عن دارها التي ورثته عن ابيها ، وحين اعترضت قام بتهديدها انه سياخذ ابنهما الى حيث لا تعلم ، الى ان ترضخ لطلبه . - عيب يا امرأه .. غادري المحكمه فورا واستري نفسك ، زوجك قيم عليك وله فعل ما يشاء . التفت الى المتحدث وكان قريب مني ، دنوت منه واجبته بهدوء – - ولكن هذا ظلم بحق هذه المسكينه ، كيف يحق له ارغامها على التنازل عن ارثها وهو حق لها شرعا ؟ . - ومن نصبك قاضيا لتفتي بالحق والباطل ؟ . - ومن أباح لك ان تفتي بجواز ارغامها على فعل ما لا تحب ، متعذرا بقيمومة باطلة اصلا ؟ . تراجع الرجل الى الخلف وصاح بعالي صوته – - متى تغادروننا أيها الحمقى لنقرر كيف لنا ان نعيش ، المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل . - لا يوجد بيننا انا وانت على الاقل ، من هو أحمق سواك .. دع المرأة تحاول علها تجد من يساعدها في محنتها واذهب انت الى حيث اعمالك . ساد هرج في المكان أضاع رده علي ، فتركته يقذفني بكلمات لم يصلني منها شيء ، وتوجهت الى حيث اوراقي ، فوجدت الغرفة مغلقه ، وعلمت بانني علي الحضور في اليوم التالي لاستلامها .. فايقنت بانني سأكون من جديد ، في مواجهة مجهول لا اعرف نتائجه .
#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أللهم لا شماته ....
-
رغم ما يقال .. سيبقى النظام الاشتراكي هو الافضل .
-
وجهة نظر من واقع الحال
-
من قاع الحياة
-
خطاب مفتوح لمؤسسة الحوار المتمدن
-
لماذا يلاحقنا إخواننا في الكويت ، بديونهم في هذا الزمن الصعب
...
-
ألقطة سيسيليا ...
-
المرأة في بلادنا .. بين التمييز والتميز .
-
من هو المسؤول عن مأساة ( منتهى ) ؟؟ .
-
أنا والمجانين
-
واحد من مشاريع التمرد ، إسمه ستار أكاديمي
-
تشضي الشخصية العربية ، وفقدان وسيلة التخاطب .
-
ألنفط وصراخ الكفار
-
يوم في مستشفى عمومي
-
أين نحن من توقعات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجي
...
-
ألفرات وقربان المدينه .. ( قصة قصيره )
-
مشاوير شخصيه ، في ثنايا الماضي .
-
حينما تصر الجماهير على رفض مسببات خلاصها .. أين الحل ؟ .
-
أعمارنا ليست عزيزة علينا ، وحربنا معها مستمره .
-
لماذا هذا الإهمال المتعمد للكفاءات العراقية المهاجره ؟؟ .
المزيد.....
-
وكالة الاونروا: اجزاء كبيرة من مخيم جنين تم تدميرها بتفجيرات
...
-
وكالة الاونروا: عملية قوات الاحتلال تسببت بتهجير الالاف من م
...
-
مفكرون عرب.. جرثومة العنصرية قدر غربي لا فكاك منه
-
شهادات لا تنتهي عن جرائم التعذيب والإذلال بحق معتقلي غزة
-
انتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي لحقوق الإنسان والقانون الد
...
-
أطباء بلا حدود: 8.5 مليون شخص يواجهون المجاعة في السودان
-
الاتحاد الأوروبي يدين حظر إسرائيل أنشطة -الأونروا-
-
أوروبا تبحث تخفيف قيود التعامل مع المهاجرين
-
طائرتان تجسسيتان بريطانيتان حلقتا قرب غزة أثناء تبادل الأسرى
...
-
مندوب إسرائيل بالأمم المتحدة: لماذا تعزز مصر جيشها؟
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|