|
النقاب الدخيل والنقاب الأصيل !
سعيد الكحل
الحوار المتمدن-العدد: 3044 - 2010 / 6 / 25 - 04:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عادة المشاكل التي تواجهها المجتمعات وتجد صعوبة في حلها أو تخطيها تبدأ يسيرة وبسيطة لدرجة أنها لا تثير الانتباه إليها أو لِما سيترتب عنها من تعقيدات فيما بعد . ومناسبة هذا الحديث هو النقاش الذي يثيره ارتداء النقاب في الأماكن العمومية ، ليس فقط في المجتمعات الغربية ، ولكن أساسا في المجتمعات العربية التي فكت الارتباط بالموروث الثقافي الذي فرضته عصور الانحطاط وكرسه فقه البداوة . طبعا لكل مجتمع تقاليده وأعرافه التي تشكل هويته الثقافية والاجتماعية ، لكن في الوقت نفسه ، هذه الهوية ليست ثابتة وجامدة ، بل تتفاعل مع حركية المجتمع الدائبة . وكل عرف لا يساير هذه الدينامكية المجتمعية يصبح محط تهميش أو مثار نقد إذا بات يشكل عائقا أمام حركية المجتمع وتطوره وانفتاحه على قيم عصره والمكتسبات التي حققتها البشرية خاصة في مجال حقوق الإنسان . ولنأخذ مثلين : ــ الأول يتعلق بزواج القاصرات الذي هو عرف اجتماعي أكثر منه حكم شرعي . وقد أفرزته بيئة اجتماعية كما أفرزت ثقافةً تغذيه وفقها يشرعنه . ولم يعد الفقيه ، في هذه الحالة ، ينطق باسم الشرع ويبين للناس أحكام دينهم كما جاء بها الوحي الإلهي ، بل تحول إلى حارس للعرف وأسير له في فكره وسلوكه وذوقه لدرجة غدا هذا العرف دينا وفريضة إلهية يَحْرُم تركها . هنا تكمن خطورة الفقه لما يخدم العرف الاجتماعي ويُغَلّبه على الشرع الإلهي . والفقيه التقليدي هذا ، حين يتغاضى عن جوهر الدين ونبل مقاصده ، يتحول إلى أداة تستغلها القوى المحافظة في مناهضة القوى الفاعلة من أجل التغيير ومواكبة العصر . وقد عاش المغرب تجربة بينت درجة انخراط فقهاء التقليد والبداوة في معارك شرسة ضد مبادرات إصلاح مدونة الأحوال الشخصية ومطالب سن تشريعات قانونية تتوخى منع زواج القاصرات والرفع من سن الزواج إلى حدود 18 سنة . إن هؤلاء الفقهاء جعلوا من الوحي الإلهي شريعة تستعبد النساء وتستغل أجسادهن للمتع الجنسية دونما اكتراث بالمخاطر الصحية والنفسية والاجتماعية التي تترتب عن زواج القاصرات . فلم يعد الفقيه التقليدي ضمير المجتمع يشعر بآلامه ويشاطره مشاغله ويحمل طموحاته ، بل غدا سادن الأعراف القديمة وحارس أغلالها حتى وإن كانت شقاء مبرما . فهل من الدين ومن مقاصده الاعتداء على الطفلات وتعريضهن للمخاطر الصحية والمشاكل النفسية والاجتماعية ؟ بالتأكيد أن فقهاء البداوة فقدوا صلاحيتهم وغدوا شرا مستطيرا حتى داخل المجتمعات الأكثر انغلاقا وتشددا ومحافظة . وما يعرفه المجتمع السعودي من حراك فقهي وقانوني للقطع مع فقه البداوة أو على الأقل محاصرته في الزوايا الضيقة والمظلمة ، لدليل على أن تراكماته الفقهية التي ظل يتغذى عليها ويعيد إنتاجها غدت مجرد "خردة" عديمة النفع ولا تصلح حتى لتكون ضمن التحف التراثية . ــ الثاني يتعلق بختان الفتيات : وهي جريمة قانونية وإنسانية في حق الإناث يشرعنها فقهاء البداوة ويحثون على ممارستها باسم الدين رغم التقارير الطبية عن مخاطرها . وهكذا حوّل فقهاء البداوة أعراف الاستغلال والتبخيس والنخاسة والتشييء إلى عقائد وشعائر وفرائض دينية لا يصح إيمان العبد إلا بها ولا يصدق إيمانه دون إتيانها . ولن يجد المواطن البسيط الذي تتقاذفه فتاوى البداوة والكراهية وتحاصره مفرا من تصديقها أو العمل على الالتزام بها في ظل الغياب المريب للمؤسسات الدينية الرسمية في المغرب التي التزمت الصمت إزاء تجارة الخردة الفقهية التي بات لها رواج كبير وواسع على امتداد التراب الوطني . لحسن الحظ أن المجتمع المغربي يملك مناعة عقائدية وثقافية تحصنه ضد كثير من الأوبئة الفكرية والاجتماعية التي تتسبب عبر هذه الخردة الفقهية المهربة من مكتبات الشرق ومطارحه . وكان من المفروض في عموم فقهاء الشرق العربي أن يتصدوا بحزم لاغتصاب براءة الأطفال باسم "شعيرة" الختان ، ويحاصروا الظاهرة الرهيبة عند منبعها الفقهي إن كانوا فعلا يحبون الله والرسول ولا يسعون فسادا في الأرض . وستظل مسئولية الحكومات العربية جسيمة من أجل تتبع ومعاقبة مرتكبي الأذى النفسي والجسدي والاجتماعي والدالين عليه ؛ لأن الدال على الشر كفاعله . وما يصدق على هذه الأوبئة الفقهية التي لا ترحم طفلا ولا كهلا ، يصدق كذلك على مهربي خردة النقاب الوهابي الطالباني التي تضعه في حكم الفريضة الدينية . ومن غباء هؤلاء لجوؤهم إلى تزوير ماركة المنتوج المهرَّب (=النقاب) حتى لا يُعرف مَصدَره الوهابي الطالباني ، كما يفعل عادة تجار التهريب ، ليضعوا عليه ماركة النقاب المغربي الأصيل . وشتان بين النقاب الوهابي الدخيل والنقاب المغربي الأصيل . ومما كتبه بعضهم في موضوع تغيير الماركة ( إذا استنطقنا التاريخ وسألناه عن اللباس الذي كانت ترتديه المرأة المغربية طيلة أربعة عشر قرنا ؛ أخبرنا أن النقاب والحايك هو اللباس الوحيد الذي كانت تعرفه المرأة في المغرب ؛ وقبل سنة 1342 هـ / 1924 م كان الحجاب التام والسابغ لكل بدن المرأة هو الأصل في جميع أنحاء العالم الإسلامي )( جريدة السبيل يونيو 2010). وهذا القول مكشوف ومردود عليه من جوانب عديدة : أولها أن المجتمعات البشرية غير راكدة ، بل متحركة ومتغيرة في كل مناحي حياتها . واللباس كالسكن والتنقل والتواصل يعرف التغير ويعكس مستواه ودرجته داخل كل مجتمع . ثانيها أن النقاب الدخيل لا يشبه في شيء النقاب الأصيل ولا علاقة له بالخصوصية المحلية والهوية الثقافية في لونه وشكله ووظيفته ورمزيته . ثالثها : أن النقاب المغربي الأصيل هو عرف وعادة لا يفصل المرأة عن كيانها الاجتماعي والنفسي والثقافي ولا يشعرها بالغربة في بيئتها الاجتماعية . أما النقاب الوهابي الطالباني الدخيل فأراد له تجاره أن يكون عقيدة تغير فكر المرأة وعلاقتها بالمجتمع ونظرتها لنفسها وللآخرين من حولها . إنه يخلق شرخا نفسيا واجتماعيا داخل الأسر نفسها . فالمنقبة لا تكلم ولا تجالس ولا تستقبل أفراد العائلة والأسرة من الذكور وإن كانوا إخوة الزوج وأبنائهم . هذا مستوى أدنى من الشرخ الاجتماعي الذي يفرز الطائفية داخل المجتمع ، بحيث تعتقد حاملة النقاب أنها لا تنتمي لهذا المجتمع ولا تعتنق نفس عقائده ولا تحمل نفس آماله وطموحاته . ويتعمق الشرخ الاجتماعي ليشمل مجالات أخرى أخطرها المجال الإداري والقانوني . فحملة النقاب لا يستجيبون للضوابط الإدارية ولا ينسجمون مع التشريعات القانونية مما يطرح مشاكل على الإدارات والمؤسسات في كيفية التعامل مع المنقبات . فهل الأمر يستدعي تغيير التشريعات ووضع مساطر إدارية جديدة بما يكرس الردة الحضارية ويلقي بالمجتمع والدولة في هاوية الانغلاق ؟ أم يقتضي اللجوء إلى فرض القانون على الجميع ؟ الأكيد أن النقاب المغربي الأصيل لم يحُل أبدا بين المرأة ومحيطها الاجتماعي ولم يمنعها من احترام التشريعات والمساطر الإدارية ، كما لم يشعرها بالانتماء إلى طائفة نقيض لبقية المجتمع . لكن النقاب الدخيل ليس مجرد قماش ، بقدر ما هو حزمة من العقائد المتشددة التي تفتك بالانسجام المجتمعي وتمنع المنقبات من الاندماج في المجتمع والتعايش مع نظمه ومؤسساته . وهذا ما أدركته الحكومات الغربية فسارعت إلى وضع تشريعات تمنع النقاب حماية للتماسك الاجتماعي وحفاظا على أمن المواطنين . وها هي مصر اليوم تقدم لنا الدليل عن طبيعة المشاكل التي يتسبب فيها النقاب داخل قاعات الامتحان مما اضطرها لمنعه وهي التي تغاضت عن انتشاره وهونت من مشاكله . إنها عبرة لمن يعتبر .
#سعيد_الكحل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل سينفذ تنظيم القاعدة تهديده ضد المونديال ؟
-
هل تحترم الجمعية حقوق الإنسان حتى تدافع عنها ؟
-
التطرف عقائد واحدة غايتها فرض الوصاية على المجتمع (6) .
-
الحوار الذي لم ينشره موقع إسلام أون لاين حول جماعة العدل وال
...
-
الغلو والتطرف دوائر تتكامل في الأهداف والوسائل (5) .
-
حوار لفائدة جريدة المنعطف
-
بعد سبع سنوات عن الأحداث الإرهابية ، أين المغرب من خطر الإره
...
-
التطرف ثقافة ومواجهته فرض عين وليس فرض كفاية(4) .
-
التجديد ولعبة وضع السم في العسل؟(3)
-
متى يدرك المثقفون مثل الأستاذ الساسي غلو التجديد وتطرف أصحاب
...
-
وأخيرا أدرك الساسي غلو التجديد وتطرف أصحابها !!(1)
-
الفساد واللاعقاب يقودان حتما إلى الكارثة أو الفتنة .
-
مبادرة -أنصفونا- تخلو من عناصر الاتزان والإنصاف والمصداقية.
-
مبادرة -أنصفونا- بحاجة إلى الوضوح والإقرار وليس الغموض والإن
...
-
مبادرة -أنصفونا- صرخة إنكار وليست مراجعة واعتذار .
-
جماعة العدل والإحسان بين تكتيك الدولة وارتباك القضاء .
-
المرأة بين حركية الواقع وتحجر الفقه .
-
ماذا لو تحولت فاجعة مكناس إلى بداية حقيقية لعهد الحساب والعق
...
-
خلافة الشيخ ياسين قضية عقدية وليست تنظيمية .
-
هل نضجت شروط محاورة معتقلي السلفية الجهادية ؟
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|