|
المواجهة وشرط الميراث
خضر محجز
الحوار المتمدن-العدد: 3043 - 2010 / 6 / 24 - 08:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
استهلال: "ينهال علينا الآن وابل من تصورات للعالم معلبة، متشيئة، تغتصب الوعي، وتكبح النقد الديموقراطي؛ ما يوجب على المثقف الإنساني أن يكرس نشاطه لتخريب وتفكيك عوامل الاستلاب تلك". إدوارد سعيد بعد هذا الاستهلال، دعونا نسأل السؤال التخريبي التالي: لماذا يقف الثوريون دوماً عند نقطة لا يتجاوزونها؟. لماذا يقودون ثوراتهم ويواجهون بها كل قوى الماضي، سعياً نحو التغيير، ثم نراهم فجأة ينكصون على أعقابهم، وقد تحولوا إلى ماضويين أكثر من أبطال التاريخ القديم؟. بمعنىً آخر: لماذا يتحول قادة التغيير، في كثير من اللحظات الحاسمة، إلى ملكيين أكثر من الملك، فيفقدون الفرصة المتاحة، خوفاً من أشباح الملوك الأموات؟. دعونا نعد صياغة السؤال بلغة سياسية مباشرة: لماذا استطاع صلاح الدين أن يتحرر من إسار الماضي، ويوقع صلح الرملة ـ الذي تنازل بموجبه عن ساحل فلسطين للصليبيين ـ دون أن يلتفت إلى ما قد يقوله متدينون يأتون في الزمن المتأخر عما يسمى بـ(وقفية أرض فلسطين)، و(عدم أحقية أي حاكم ـ أو أي جيل ـ في التنازل عن جزء منها)، في أي اتفاق سياسي؟. سنعود إلى قلب السؤال على عقبيه، هذه المرة، فنقول: هل كان صلاح الدين جاهلاً بما علمه منظرو الحركات الإسلامية اليوم؟. وهل تنبه الشيخ القرضاوي ـ مثلاً ـ إلى ما لم يستطع أن يتنبه إليه علماء العصر الأيوبي، الذي يفتخر به القرضاوي وإسلاميو الزمن الجديد؟!. وإن هذا السؤال ليستدعي سؤالاً أكثر خطورة، يقول: هل يعتقد إسلاميو الزمن الجديد أنهم أكثر تديناً من صلاح الدين، حين يخَوِّنون كل محاولة مشابهة في الزمن الجديد؟. إن شعارهم المعلن (قم يا صلاح الدين) ليستدعي تكملته، التي تقول بأن عودته تعني مواجهة شروط أكثر صعوبة، تتيح لـ(صلاح الدين اليوم) أن يتنازل ـ ربما ـ عن أكثر مما تنازل عنه (صلاح الدين الأمس) في صلح الرملة!. إن كل الأسئلة السابقة تنتج أسئلة كثيرة ومتنوعة، وربما يصعب حصرها، من مثل: هل كان صلاح الدين مسلماً جيداً، في نظر إسلاميي اليوم؛ أم كان مجرد حاكم سياسي، يشتغل بالدين حين يشاء، ويستبعده في أوقات أخرى؟. والحق أن مثل هذا السؤال قد قدح خاطري، حين سمعت بعضهم يقول متذمراً: سامحك الله يا صلاح الدين!. لقد سبق لمعاوية بن أبي سفيان أن أوقف توزيع غنائم الذهب والفضة على المقاتلين، وخالف في ذلك تقليداً كان المسلمون قد ورثوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم(1). فهل على إسلاميي اليوم أن يوزعوا غنائم القتال على المقاتلين في الجبهة؟. فإذا فعلوا ذلك، ألا يكونون قد هدموا أساساً ركيناً من أسس بنيان الدولة الحديثة؟. دعونا نتصور متدينين (جيدين) يحرصون على تطبيق (السنة)، ويوزعون الغنائم كلها على المقاتلين، في كل الدول التي تحب أن تكون (إسلامية). أعتقد أن لا سخرية أعمق من مثل هذا التصرف!. • ربما لم يكن معاوية متديناً جيداً ـ في نظر المتدينين الجدد ـ لكنه بالتأكيد سياسي جيد في نظرهم. • ربما لم يكن صلاح الدين سياسياً جيداً ـ في نظر المتدينين الجدد ـ لكنه بالتأكيد بطل يستحق أن يحتذى. فمن أين جاءت لهما هذه العظمة؟. لقد جاءت عظمة الرجلين من قدرتهما الفذة ـ وغير المسبوقة ـ على فهم الواقعة التاريخية، وفهم أن على أيًّ منهما أن يصطنع شروط فهمه وفق دنياه الراهنة. لقد صنع كل منهما تاريخه بيديه، وبحركته الخاصة. دعونا نتأمل المقطع التالي من كلام ماركس، وهو مقطع لافت لا أظن أن المتدينين الجدد يعترضون عليه. يقول: "إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم، والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل؛ عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية كهذه، على وجه التحديد، نراهم يلجأون، في وجل وسحر، إلى استحضار أرواح الماضي"(2). إنني أعتقد أن عظمة الرجلين تأتت من قدرة كل واحد منهما على النأي بنفسه عن أرواح الأموات، معتقداً ـ بحق ـ أن أولئك الأموات العظام قد صنعوا تاريخهم بشروط دنياهم، وعليه هو أن يفعل مثلهم، لا أن يستحضر أرواحهم فيسألها إن كان ما سيفعله يوافقهم أم لا، لأنه إن فعل فهو سيخون زمانه، لصالح زمان ليس هو زمانه، بل زمان غيره؛ فيقلدهم فيما لم يكونوا مستعدين لتقليد أحد فيه، ويقلدهم فيما كانوا سيرفضون أن يقلدهم أحد فيه. لو قرأ صلاح الدين اليوم ميثاقاً ما، يقول بوقفية أرض فلسطين، ثم قرر أن يلتزم به، فلربما ضاعت منه القدس، التي كان قد حررها بشق الأنفس، في زمن تفرق فيه المسلمون فرقة أشد من فرقة اليوم. فلنقرأ كم بلغت تلك الفرقة، كما يروي ذلك ابن كثير: "وكتب [القاضي] الفاضل كتاباً، على لسان السلطان [صلاح الدين]، إلى ملك الغرب، أمير المسلمين وسلطان جيش الموحدين: يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، يستنجده في إرسال مراكب في البحر، تكون عونا للمسلمين على المراكب الفرنجية... وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف... ولم يفد هذا الإرسال شيئاً، لأنه تغضّب إذ لم يلقب بأمير المؤمنين"(3). أي أن سلطان الموحدين، في المغرب، كان يراقب سقوط القدس الوشيك وعكا والساحل، في أيدي الصليبيين، ثم ينشغل عن ذلك بلقب لا قيمة له. وقل مثل ذلك في الخليفة العباسي في المشرق!. كل هذا وهمة جيش صلاح الدين، نفسها، قد خارت ونكلت عن مواجهة الحلف الغربي، الذي قاده ريتشارد قلب الأسد. فإن شئت فاقرأ شيئاً من وصف أحد مشاهد المواجهة بين القائدين الخطيرين: صلاح الدين الأيوبي، وريتشارد قلب الأسد، كما يرويها ابن كثير: "ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكليز وفي سبعة عشر مقاتلاً، وحوله قليل من الرجالة [المقصود أن ريتشارد قلب الأسد كان حوله 17 مقاتلا فقط] فأكب [صلاح الدين] بجيشه حوله، وحصره حصرا لم يبق معه نجاة، لو صمم معه الجيش. ولكنهم نكلوا كلهم عن الحملة. فلا قوة إلا بالله. وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض، فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء. وهذا وملك الانكليز قد ركب في أصحابه، وأخذ عدة قتاله وأهبة نزاله، واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة ـ يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم ـ فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان، ولا نهره بطل من الشجعان. فعند ذلك كرّ السلطان راجعاً، وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعاً. فأنا لله وإنا إليه راجعون"(4). تلك كانت هي اللحظة الدنيوية التي تفرض نتيجتها الحتمية، واضعة البطل التاريخي بين خيارين: الانتحار السياسي والقومي وتضييع المكتسبات، أو القبول بشروط الدنيا ريثما تتغير الشروط، فيتم تغيير الحال. ولقد اختار البطل التاريخي أن يصنع قراره بعيداً عن أطياف الماضي، ووقع الصلح الذي يقول فيه ابن كثير ما يلي: "ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاثين سنة وستة أشهر وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة"(5). وقبل أن أنتقل إلى الشق الثاني من هذا السؤال، أود أن أشير إلى أن المصادر الغربية لم تذكر حدوث مثل هذه المواجهة، بين البطلين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد. من هنا نصبح بين نظريتين، لا تخدم أي منهما المقولة الأيديولوجية للمتدينين الجدد: • الأولى: أن يكون ابن كثير قد اخترع مثل هذه المواجهة. • الثانية: أن هذه المواجهة قد حدثت بالفعل، رغم عدم ذكر المصادر الغربية لها. فما هو الذي يتحصل لنا من ذلك؟. تتحصل نتيجة واحدة، على درجة عالية من الدقة والمصداقية: أن ابن كثير مؤمن بصلح الرملة وينقل لنا مواجهة ـ أو يخترعها ـ ليبرر للسلطان المحبوب توقيع صلح الرملة، والتنازل عن ساحل فلسطين!. فليت شعري!.. لماذا لا يقلد المتدينون الجدد ابن كثير، وهم المغرمون بالتقليد!. أو لماذا لا يقلدون البطل صلاح الدين، لكي يوافقهم على الخروج من قبره، مرة أخرى، ليحرر لهم القدس، التي عجز العالم الإسلامي عن تحريرها، فرماها في حجر الفلسطينيين المحاصرين!. الآن ننتقل إلى الشق الثاني من السؤال، الذي يقول: هل كان السادات أقل بطولة من صلاح الدين حين وقع كامب ديفيد؟. وماذا لو رفض الرئيس المصري المنتصر ـ لاحظ التشابه بين شرطي السادات وصلاح الدين ـ التوقيع على كامب ديفيد في وقته؟. أما كنا سنستمع اليوم إلى بكاء الكثيرين من سياسيي مصر وثوارها، على تلك الفرصة الضائعة، وهم يرون العالم ثنائي القطب يتحول إلى عالم وحيد القوة، كلي الدعم للعدو، وكلي التآمر على العرب؟. ولكي أوضح هذا أتساءل: هل كانت الدول العربية ـ بما فيها مصر ـ اليوم بقادرة على خوض مواجهة عسكرية لتحرير سيناء، في ظل موازين القوى العالمية الجديدة؟. ولو خاضت مصر هذه الحرب الآن، فمن يضمن تأمين مجرد توريد الذخيرة المستنفدة في حرب، سيتعمد العدو أن يطيلها، متوكلاً على أمريكا والغرب، فيما لا تتوكل مصر إلا على دعوات المتدينين الجدد؟. أم أن المسألة مجرد شعارات هدفها رمي (أم الدنيا) في وهدة الهلاك، خدمة لمخططات إقليمية لا تضع العروبة إلا في خانة الأعداء؟. من السهل أن تدعو إلى الحرب، إلى آخر جندي مصري، وإلى آخر قطرة ماء من النيل، وإلى آخر رغيف خبز في مخابز القاهرة. لكن الأصعب من ذلك أن تخوض حرباً مشابهة، فتلجأ إلى وقف المقاومة باسم المقاومة. بعد مذبحة السفينة التركية، مثلاً، كان أيسر وأشرف لأمير قطر أن يطرد المبعوثين الإسرائيليين من بلاده، قبل أن يخرج علينا بذلك البيان اللغوي الناري، الذي كان بإمكانه أن يخزي قارة بأكملها، لا مجرد شعب من الشعوب. ــــــــــــــــــــــــــــ الإحالات: 1ـ انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. ج8. دار الفكر. بيروت. 1978. ص27. 2ـ كارل ماركس. الثامن عشر من برومير "لويس بونابرت". ص6. نسخة مسحوبة من موقع: مركز الدراسات الاشتراكية في مصر. 22/6/2010. رابط: http://www.e-socialists.net/node/3610 3ـ ابن كثير. المصدر السابق. ج12. ص339. 4ـ ابن كثير. المصدر السابق. ج12. ص350. 5ـ ابن كثير. المصدر السابق. ج12. ص350.
#خضر_محجز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الدراما التلفزيونية: عفاريت السيالة (المحتوى، التقنيات، ا
...
-
فاروق القدومي واحتكار التسميات
-
شجرة الكستناء الفصول الثلاثة الأولى
-
المثقفون العرب: ثقافة مطمئنة
-
في العلاقة بين الأيديولوجيا والديموقراطية
-
حول الدين والسياسة والغاز و-لا ينفعك ذلك-
-
حين تتفكك العوالم: قراءة نقدية في مجموعة زكي العيلة -بحر رما
...
-
يحدث في غزة: في العلاقة بين الركاب والسائقين
-
محمود درويش في -أَبدُ الصُبَّار*: لن يموت البيت
-
المحتوى الأيديولوجي في قصة أحمد حسين -الوجه والعجيزة-*
-
المتعة الفلسطينية
-
العلاقة بين الحداثة والنصية: وعي الحاضر، وحضور النص
-
هل باتت القدس مسرى نبي الفلسطينيين وحدهم؟.
-
نسغ الحرية: لذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية
-
البول أيها الأخوة البول:هذا بعض ما نسمع يوم الجمعة
-
تغييب الوعي وتسريد التاريخ
-
في الوعي والميتافيزيقا
-
على أُوْنَهْ.. على دُوِّيْهْ
-
الأطفال لا يموتون
-
الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|