|
الدولة الغيتو
محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن-العدد: 3042 - 2010 / 6 / 23 - 08:36
المحور:
القضية الفلسطينية
في كراسه عن "الدولة اليهودية"(1896) طرح ثيودور هرتزل التعريف التالي لليهودي:"إنه ماصنع منه الغيتو"،والذي يفسركارل ماركس في مقالته عن "المسألة اليهودية"(1843) وضعيته ،بكل ماولدت من انعزالية يهودية وكراهية الآخرين لليهود،بأنها حصيلة تراكمات قرون من عملية ولادة النظام الرأسمالي عندما كان اليهود في أوروبة يمثلون "الاقتصاد النقدي وأفكاره أمام الآخرين الذين تتحدد طرائقهم بالاقتصاد الطبيعي":عبر هذا التحديد لماركس يتوصل أبراهام ليون في كتابه"المفهوم المادي للمسألة اليهودية"(1944)إلى تفسير بقاء اليهود عبر قرون طويلة من الزمن(بينما انقرضت طوائف وشيع كانت أقوى:المانوية مثلاً)بأن وظيفتهم الاقتصادية قد جعلتهم في وضعية أقرب للنموذج الهندي للطائفة المغلقة (caste) ذات الوضعية الاقتصادية- الاجتماعية المحددة الوظائف،حتى وصل الأمر به إلى اعطائهم وضعية(الشعب-الطبقة). كانت الصهيونية حركة مضادة لإتجاهين توزع يهود أوروبة بينهما: ضد انعزالية الغيتو في المجتمعات الأوروبية بكل ماتعنيه اجتماعياً من انغلاق في الغيتو(المعزل)ودينياً من سيطرة الأرثودكسية اليهودية الحرفية أوصوفية الحركة الحسيدية التي انتعشت منذ القرن الثامن عشر في وسط وشرق أوروبة،وأيضاً ضد حركة اندماج اليهود مع الآخرين(الغوييم) عبر حركات تأثرت بأفكارعصر الأنوارالفرنسي بالقرن الثامن عشر مثل حركة(الهسكالا). كان الحل الصهيوني متمثلاً في هجرة اليهود من مجتمعاتهم وتأسيس"وطن قومي لليهود"،إلاأن انتصار الصهيونية في المجتمعات الأوروبية على هذين الاتجاهين المذكورين بين اليهود لم يكن ليتم لولااضطهادات النازية لليهود،وقبل هذا في بولندا العشرينيات زمن الماريشال بيلسودسكي،تماماً كماكانت صهيونية هرتزل متأسسة على ماأحدثته في نفسه(قضية دريفوس)وماولدته من عداء لليهود في فرنسة. ليس صدفة أن يُزل آخر غيتو في أوروبة بعد أن دمرته القوات الألمانية في شهر أيلول1944أثناء انسحابها من مدينة وارسو ،أي قبيل أربع سنوات من قيام دولة إسرائيل.ولكن إذا كان مرادف قاموس أوكسفورد لكلمة الغيتوهو"منطقة من المدينة حيث يعيش أناس من نفس العرق أوالخلفية بمعزل وانفصال عن الباقين من الناس"فإن دولة إسرائيل قد كان هذا وضعها بالقياس إلى محيطها العربي طوال اثنتين وستين عاماً. هنا،كان مؤسس دولة إسرائيل،أي دافيد بن غوريون،واعياً لماسيقوم بإنشائه،أي دولة معزولة ومعادية ومتصادمة مع محيطها: من هذا المنطلق كان تفكيره بالتحالف مع الدول العظمى ضد هذا المحيط، حيث نجده في كانون الثاني1947يقوم بتقديم عرض لوزير الخارجية البريطانية إرنست بيفن،في فترة من التوتر والصدام بين لندن والمنظمات الصهيونية لحدود التصادم العسكري على خلفية تردد بريطانية منذ عام1939في تنفيذ وعد بلفور،بإنشاء قواعد في النقب بعد قيام اسرائيل تكون بديلاً عن القواعد الانكليزية في السويس. وهو في تلك الأشهر القليلة السابقة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين(29تشرين ثاني1947) مدَ جسوراً مع موسكو ماجعل ستالين يصبح، وفق تعبير إسحق دويتشر،"أباً روحياً لاسرائيل ...(ف)اليهود قاتلوا البريطانيين والعرب في1947و1948بذخيرة تشيكية،قدمت بناء على أوامر ستالين،وأن المبعوث السوفيتي كان أول من صوَت لاعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل"(دويتشر:"دراسات في المسألة اليهودية"،دارالحقيقة،بيروت1971،ص130)،ومن الأرجح أن سيد الكرملين كان يفكر بجعل الدولة العبرية مع بداية اندلاع الحرب الباردة بذلك العام جسراً سوفياتياً إلى الشرق الأوسط وسط ترددات بريطانية وأميركية(يغفلها الآن الكثير من الكتَاب العرب)تجاه قيام تلك الدولة ظلت حتى اعلانها من قبل بن غوريون في عصر يوم الجمعة 14أيار1948.لم يستمر شهر عسل إسرائيل مع موسكولأكثر من الشهر الأول من عام1953قبيل شهرين من وفاة ستالين لماقطعت العلاقات الدبلوماسية على خلفية(قضية الأطباء اليهود لقصر الكرملين)،و التوجه السوفياتي ضد الصهيونية و"النزعة الكوزموبوليتية" حتى وصول موسكو إلى الإصطفاف العلني مع عبدالناصر ضد الغرب منذ صفقة الأسلحة التشيكية(أيلول1955)التي تزامنت مع وضع بن غوريون لبيض إسرائيل كله في سلة لندن وباريس ضد عبد الناصر. كانت حرب1956أول أدوار إسرائيل ضد المحيط العربي بالتواطؤ والتشارك مع الخارج الدولي ممثلاً في بريطانية وفرنسة.بين عام1960وحتى استقالته من منصب رئيس الوزراء الاسرائيلي في16حزيران1963كانت صراعات بن غوريون ضد مناوئيه في حزب الماباي الحاكم(ليفي أشكول- غولدا مائير)متركزة حول رفضه رؤيتهما بأن مصلحة إسرائيل هي في نقل وظيفتها بعام1956"كمخفر متقدم للغرب الأوروبي"لصالح الولايات المتحدة التي كانت تتجه بتسارع كبير للصدام منذ عام1962مع القاهرة. بدون الحلف الذي انعقد بين تل أبيب أشكول وواشنطن جونسون أثناء زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد للعاصمة الأميركية في شباط1964لايمكن تفسير ماحصل في حرب1967والمظلة الأميركية التي كانت لاسرائيل في تلك الحرب.تكررت هذه المظلة أثناء تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي في حزيران1981ثم في اجتياح لبنان صيف1982. في تلك السنة التي تمً فيها تدمير المفاعل النووي العراقي قال وزير "الدفاع"الاسرائيلي الجديد إريئيل شارون بأن"حدود الأمن القومي الاسرائيلي تطال المدى الجغرافي الفاصل بين باكستان والمغرب"،وهو تصريح أتى بعد سنتين من المعاهدة المصرية-الاسرائيلية ،التي لم تقلل من حدة احساس إسرائيل بالعدائية والعزلة كالتي كان يشعرها الفرد اليهودي في الغيتو تجاه محيط المدينة التي يوجد بها ذلك الغيتو،بل بيَنت تجربتا1981و1982استشراء وتنامي ذلك الإحساس الاسرائيلي.أيضاً لم تفعل معاهدة وادي عربة مع الأردن بعام1994 شيئاً من تخفيف ذلك الإحساس ولاأيضاً اتفاقية أوسلو قبل عام من ذلك مع منظمة التحرير الفلسطينية. هنا،كان بناء (الجدار العازل)بعد ربع قرن من تلك المعاهدة مع مصر اعلاناً اسرائيلياً عن بناء أسوار "الدولة الغيتو"،وعن وضع إسرائيل مسار التسوية مع الفلسطينيين وراءها،وفي الوقت نفسه عن اقتناع اسرائيلي عام بأنه لايمكن إقامة علاقات طبيعية مع الجوار وأيضاً المحيط العربيين. يبدو أن هذا الشعور الاسرائيلي أصبح ممتداً نحو ايران مابعد الشاه وتركية أردوغان فيماكان تفكير بن غوريون التحالف مع طهران وأنقرة بالخمسينيات ضد العرب. بعد أيام أربعة من ماقامت به تل أبيب ضد السفينة التركية مرمرة ،كتب الصحفي الاسرائيلي يوئيل ماركوس الكلمات التالية في"هآرتس":"العالم كله ضدنا....هذه لم تعد أنشودة،بل تهديد على وجودنا".
#محمد_سيد_رصاص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أردوغان في المدّ والجزر أو... عدنان مندريس مستعاداً
-
مناخات حروب الصراع العربي الاسرائيلي: نموذجا1956و1967
-
حركات الأقليات الإثنية في السودان:محاولة لمقاربة الذهنية الس
...
-
حسن الترابي كنموذج سياسي
-
روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة
-
اهتزاز القطب الواحد للعالم
-
نظرة عربية جديدة إلى المرحلة العثمانية؟
-
الجوار الافريقي للعرب
-
قراءة سوسيولوجية لنتائج الانتخابات البرلمانية العراقية
-
ما يشبه الحاج أمين الحسيني...
-
أوباما وناتنياهو:تفارق في النظرة إلى المنطقة
-
العلمانية والدين
-
العملية السياسية في ظل الاحتلال:العراق نموذجاً
-
نمط جماعة الإخوان المسلمين في الخلاف والانشقاق
-
هل هو مجرد اتفاق سوداني آخر يوقعه البشير؟ ..
-
هل ستتكرر سابقة المراجعة الجنبلاطية في المعارضة السورية ؟...
-
واحد وثلاثون عاماً على الثورة الايرانية
-
اليمن:العوامل المتغيرة في تكوين الأهمية الاستراتيجية
-
أوباما خلال عام
-
النموذج المعاصر للإحتلال
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|