|
اجترار الزمن وتبذير التاريخ – التجربة العراقية الحديثة
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3041 - 2010 / 6 / 22 - 11:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمثل العراق بصورة نموذجية سيادة الزمن الراديكالي وتحلل تاريخ الدولة، أي النموذج الصارخ لتبذير الرأسمال الاجتماعي والتاريخي للأفراد والجماعات والمجتمع والدولة. حيث أدت ظاهرة انتشار وسيادة الراديكالية السياسية في العراق الحديث إلى جعلها إحدى اخطر الظواهر الاجتماعية والثقافية بالنسبة لوجود وآفاق تطور البدائل فيه. ولعل أهم نتائجها الخطرة الحالية تقوم في صعود واستفحال الحركات الراديكالية الإسلامية المتطرفة (الأصولية). ويقف العراق الآن أمام حالة استفحال نماذج من الراديكالية لا تقل همجية من تلك التي أنتجتها. وهي حالة "طبيعية" لا يمكن توقع صيغة أخرى لها في ظروفه الحالية. بل يمكن القول، بأنها ظاهرة سوف تستقوي تدريجيا إلى أن تبلغ ذروة انحطاطها بعد خروجها العارم من سجن التوتاليتارية البعثية "العلمانية" والدكتاتورية الصدامية الطائفية. فقد اندثر حزب البعث وتحولت بقاياه المتربية بتقاليد التسلط إلى قوى همجية تحترف القتل العشوائي عوضا عن القتل المنظم!! ولم يبق من الحزب الشيوعي الأقدم والأعرق والأوسع جماهيرية والأكثر تأثيرا وتنظيما وقوة دعائية سوى أطلال خربة. وبالتالي لم يكن مصير الشيوعيين والبعثيين بوصفهم القوى السياسية التي وحّدت بواعث التمزيق الهمجي للفكرة الوطنية والاجتماعية، سوى النتيجة المترتبة على الخضوع المتعصب لأيديولوجيات مقلوبة من حيث أولوياتها، ومحكومة منذ البدء بفشل محتوم بسبب ابتعادها الفعلي عن إدراك طبيعة المشاكل التي تعاني منها الدولة والأمة. كما أنهما مثلا وتمثلا بطريقة لا تخلو من السذاجة التاريخية فورة الراديكالية العالمية المتراكمة في التقاليد الأوربية. لكن إذا كانت التقاليد الراديكالية الأوربية هي النتاج الوجداني المتناثر على طريق العقلانية العريقة والرأسمالية الأشد تنظيما، فإنها في ظروف العراق المتخلفة لم يكن بإمكانها أن تكون أكثر من نزوع إرادي عادي، عادة ما يلازم الذهنية المتطفلة على مظاهر المعرفة. من هنا تحولها إلى مرتع للجهلة وأنصاف المتعلمين، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى "طبقة عاملة" و"جماهير كادحة". ولم تعني هذه الكلمات في الدعاوي الأيديولوجية للشيوعيين والبعثيين في أفضل الأحوال أكثر من مصطلحات منتقاة من قواميس التعليم الابتدائي للطلبة بدون وعي فلسفي يناسبها. بينما كان تاريخ العراق ضعيفا بمعايير التراكم النظري والعملي للأفكار السياسية. بل يمكننا القول، بأنه كان يخلو من تقاليد الفكر النظري السياسي العلمي. من هنا لم تعن كلمات الجماهير والعمال والكادحين وأمثالها في الأيديولوجيات العملية للشيوعية والقومية (البعثية) سوى الوقود التي لا تحتاج لغير شرارة "الفكرة الثورية" لكي تحترق في أتون معارك "وطن حر وشعب سعيد" أو معارك "الوحدة والحرية والاشتراكية". لهذا لم ينتج تاريخ "الحرية السعيدة" و"الوحدة الاشتراكية" غير دخان الراديكالية الخانق. وتحته كانت الجماهير والعمال والكادحين، أي الفئات الاجتماعية العريضة ترزح تحت عبودية غاية في التعاسة وإفقار مريع وتجزئة جعلت من رجوعها إلى "مصادرها الأولى" أمرا مقبولا ومعقولا بمعايير العقل والوجدان. من هنا رجوع الأقليات القومية إلى أعراقها، والطوائف إلى طائفيتها، والقلقين والفقراء إلى "الإيمان". وهو نكوص جعلت منه الدكتاتورية الصدامية أداتها السياسية الجديدة في حملاتها الإيمانية وهمجيتها القومية وشراستها الطائفية. وفيها نعثر على حالة الانحطاط وذروتها التامة القائمة في مفارقة تعايش راديكالية وعبودية في "أحزاب جماهيرية"!! واستكمالها "المتجدد" في صعود ما يمكن دعوته بالراديكالية الدينية السياسية للغلاة الجدد! إذ ليست هذه الراديكالية سوى الاستظهار المقلوب لزمن الراديكالية القومية الدنيوية الفارغ، أي لزمن السيادة شبه المطلقة للراديكالية الدنيوية (العلمانية) البعثية. بمعنى إن الراديكالية التي استطاعت إفراغ التاريخ المعاصر للعراق من خلال تهشيم المشاريع الواقعية لبناء الدولة والمجتمع المدني والثقافة العقلانية أدت إلى إنتاج "بديلها" في الراديكالية الإسلامية. إذ تكشف التجارب التاريخية للعراق عن حقيقة تقول، بأنه كلما كانت الراديكالية المتسلطة همجية كلما أصبحت الراديكالية المناوئة لها اشد همجية منها. إن الحصيلة العامة التي يمكن التوصل إليها من خلال دراسة وتحليل مختلف جوانب الظاهرة الراديكالية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، هو أن تاريخها يبرهن على أنها بلا تاريخ فعلي بمقاييس الدولة الحديثة والفكر النظري العلمي. وبالتالي يمكننا الحديث عن انتهاء "المرحلة الدينية" المتشددة في الوعي السياسي، بما في ذلك في الحركات الإسلامية السياسية. لكنه انتهاء يحتوي على احتمالين متكافئين من حيث النتيجة، بمعنى إنهما يصبان في نفس المجرى العام المشار إليه أعلاه، أي في مجرى انتهاء المرحلة الدينية المتشددة في الوعي السياسي. وهي حالة تتسم بقدر كبير من التوتر الداخلي. وذلك لأنها تشكل مضمون عملية تاريخية أكثر مما هي عملية فكرية. فالحديث هنا لا يجري عن انقلاب أو تحول تاريخي أو فكري في التشدد الديني، وذلك لأنه كان على الدوام جزء جوهريا من تقاليد الوعي الديني بشكل عام والمذهبي بشكل خاص، بل عن انتهاء مرحلة التشدد الديني في الوعي السياسي. فتجربة العراق الحالية، والعالم العربي ككل تبرهن على أن اجتياز "المرحلة الدينية" في الوعي الوطني والقومي، أي تذليل تقاليد الذهنية الأسطورية واللاهوتية هي مهمة "القوى الدينية". وهي مهمة تتراكم في مجرى بناء الدولة والمجتمع والثقافة الحديثة، أي أنها عملية لا ينجزها غير التيارات الدينية نفسها بعد أن تقف أمام مهمة الارتقاء إلى مصاف الفكرة الليبرالية أو الاندثار مع غبار الهيجان العنيف للأصوليات المتطرفة. أما سرعة تطورها فتتوقف على كيفية ونوعية إرساء أسس النظام الديمقراطي العقلاني الدنيوي الحديث. وليس مصادفة أن تكون التجربة العراقية الحالية الأكثر والأشد تعقيدا وعنفا. فهي التجربة الأولى التي تتكسر فيها مرحلة قرن من الزمن لكي تبدأ مرحلة التاريخ الفعلي. وهو مخاض معقد وانتقال ذاتي، أي تلقائي للحركة التاريخية الملازمة لصعود القوى السياسية الجديدة.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الراديكالية والخروج على منطق التاريخ القومي (العربي)
-
الزمن الراديكالي وتهشيم بنية الوعي التاريخي للدولة والأمة
-
إشكالية الزمن والتاريخ في ثروة الأمم
-
المثلث العربي الفارسي التركي وفلسفة الرجوع إلى النفس
-
المثلث العربي الفارسي التركي ومشروع المستقبل
-
ابن طفيل- حكمة التجانس والاعتدال!
-
ثلاثية اليقظة الفلسفية - السهروردي وحكمة المتمرد!
-
يقظة ابن سينا- حكمة الشفاء والنجاة!
-
الحكمة الكونية وقصة اليقظة الفلسفية
-
شخصية ومصير - حنين بن اسحق العبادي
-
شخصية ومصير - فرقد السبخي
-
شخصية ومصير - ثابت البناني
-
شخصية ومصير - عبد الرحمن بن عوف
-
حركة الوصفاء – نموذج التمرد الروحي والسياسي
-
شخصية ومصير - الزهري.
-
مفترق التطور أو التدهور العراقي
-
أوهام الزمن -المقدس- وأحلام التاريخ الفعلي في العراق
-
العراق وإشكالية الزمن والتاريخ
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(2-2)!
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(1-2)!
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|