ـ 1 ـ
كان لا بد لمفهوم المجتمع المدني من اكتساب مضمون سياسي مباشر في حقل تداوله السوري. فككل المفاهيم الاجتماعية ليس لهذا المفهوم نصاب ثابت سواء من حيث بنيته أو توظيفه أو قيمته التفسيرية، ومثلها أيضا يكتسب أبعاده من الشروط الموضوعية المحيطة بالقوى التي توظفه كما من وعيها الذاتي. ولما كان الطابع الأساسي للاجتماع السياسي السوري خلال العقود الأربعة الأخيرة يتمثل في تركيز السياسة في جهاز السلطة واحتكارها وحرمان المجتمع من المشاركة فيها، فقد اكتسب هذا المفهوم مضموناً ديمقراطياً مباشراً: إعادة السياسة إلى الشعب والشعب إلى السياسة بما هذه تدبير المصالح العمومية.
ماذا يعني احتكار السياسة أو مصادرتها؟ يعني منع الناس من الانتظام المستقل والاهتمام بالشأن العام والدفاع الجماعي عن مصالحهم، ودفعهم بالتالي إلى الانحصار في الدائرة الخاصة لحياتهم وتغذية روح الأنانية والانسحاب من المشترك الوطني . ويترافق هذا الانسحاب بالضرورة مع إحياء أو تنشيط المتحدات الأهلية كسقف وحيد للمشترك بين الأفراد. وهذا يعني أن المجتمع الأهلي الذي كثيراً ما يوضع مقابل المجتمع المدني كعائق هو في الواقع نتاج سياسي لمصادرة السياسة، وليس جوهرا لمجتمعاتنا، ولا هو نواة تقليدية صلبة يصعب زوالها بغير "تحطيم أو تصفية الأطر التقليدية ما قبل القومية". هذا لا يعني أنه لا وجود للمتحدات الأهلية من عشائر وطوائف ومحلات... لكنها لا تطرح بذاتها أية مشكلة ما لم تدخل في إعادة إنتاج علاقات العزل والتمييز السياسي.
النتيجة المعاينة لحرمان المجتمع من المشاركة السياسية هي تراجع الروح الاجتماعية والوطنية التي لا تجد إلا تعويضا بلاغيا بالحديث عن الوحدة الوطنية من قبل نخبة الحكم. لكن المصادرة والاحتكار يرتدان على السلطة ذاتها التي تفقد عموميتها لأن العمومية علاقة تفاعل مفتوح ومتبادل بين المجتمع والدولة. فبقدر ما إن الشعب المطرود من الميدان العام يرتد إلى "أهل"، فإن السلطة العمومية ترتد إلى قطاع (أو إقطاع) خاص.
وعبر الميدان العام الذي هو ملعب التفاعل بين السلطة والمجتمع، أو الفسحة التي يلتقي فيها تنوع المصالح الاجتماعية بوحدة السلطة السياسية، يمكن الحديث عن مجتمع مدني وسلطة عمومية ودولة مواطنين. ولأن السلطة باتت مخصخصة عمليا رغم كل فيض البلاغة المعاكس فإنها تصبح قابلة لأشكال مختلفة من التسويق والمقايضة. هذا هو أصل الفساد. فاستخدام الوظيفة العامة لتحقيق مصالح خاصة ـ وهذا أبسط تعريف للفساد ـ هو في الحقيقة خصخصة للوظيفة العامة. ولذلك فإن الفساد في سورية بنيوي وعضوي ووظيفي لنمط ممارسة السلطة القائم على الملكية الخاصة للسلطة العمومية. لذلك أيضا ليس ثمة علاج غير سياسي للفساد الذي هو على كل حال فساد سياسي وفساد السياسة.
هذا هو الإطار العام الذي يحكم التفكير بمسألة المجتمع المدني؛ إنه إطار فتح الميدان العام للعموم، الأمر الذي يقتضي تغييرا عميقا في نمط ممارسة السلطة.
ـ 2 ـ
كيف نلخص المشكلة الأساسية في سورية اليوم؟ أي ما الذي يجعل سورية بلدا عاجزا عن الإقلاع والتطور ونيل ثقة شعبها واحترام العالم؟ قد لا تكون المشكلة في تراجع دخول أكثرية الشعب وتدهور معايير الحياة المادية إلى درجة أن قرابة 60o من السوريين يعيش تحت خط الفقر؛ وقد لا تكون في تدني مستوى الحريات العامة في البلد إلى واحد من أدنى المستويات العالمية بإشراف حالة طوارئ هي الأقدم عالميا بلا منازع؛ وقد لا تكون المشكلة أيضاً في ضحالة ونخر الإيديولوجية الوطنية التي لا يصدق حرفا منها صناعها ومروّجوها ويعرفون أن أحدا ممن فرض عليهم استهلاكها لا يصدق حرفا منها؛ وقد لا تكون أخيرا في الأزمة الأخلاقية والمعنوية والثقافية التي نعيش في ظلها منذ ربع قرن على الأقل، ولا في انهيار المعنويات الشعبية... قد لا تكون الأزمة في كل ذلك إلا بقدر ما تعكس هذه الحرمانات تراجعا خطيرا في سيطرة الناس على مصيرهم وتحكّمهم بشروط حياتهم. فاتساع الفقر وانعدام الحريات وغياب رواية وطنية مشتركة ومقبولة لا تشكل أبعادا للأزمة العامة التي نعيشها إلا لأنها تعبر عن العسر والشدة اللذين يعانيهما الناس في استيعاب أوضاعهم وضبطها والتمرس بمصاعبها والتدرب على إدارة شؤونهم فيها. ونعني بالاستيعاب التملك العقلي والروحي للواقع والسيطرة العملية عليه في آن معا.
لعل هذا هو الفارق الكبير والخطير بين أوضاع الشعب السوري اليوم وفي ربع القرن الفائت وبين أوضاعه قبلها. قد تكون نسبة الأميين اليوم أقل مما كانت، والجامعات أكثر، واستخدام التقنية في الحياة اليومية أوسع وأكبر، وعبودية المرأة للعمل المنزلي أقل، ووفيات الأطفال والأوبئة الخطرة أقل بكثير... الجهل والمرض وربما حتى الجوع أقل؛ لكن أيضا وأساسا سلطة الناس على حياتهم أدنى بكثير بقدر ما تراكمت السلطة في جهاز الدولة وأثمرت عن إفقار سياسي متطرف للمجتمع وقادت إلى اختلال التوازن إن لم نقل الشلل الاجتماعي. لذلك افتقرت التطورات المادية والجهازية الهامة التي شهدتها سورية خلال ربع القرن المذكور إلى ما كان يمكن أن يجعل منها قاعدة راسخة للبناء والتكامل الوطني، أعني الحقوق السياسية والحريات الثقافية. الفارق إذن هو في احتياطي ممكنات التقدم والأمل الذي يكاد يعود اليوم إلى الصفر (بعد انتعاش دام قرابة العام : ربيع دمشق). لذلك أيضا تسيطر المرارة على النفوس ويشعر الناس بالعجز وفقدان الاعتبار الذاتي. فالإفقار السياسي وحرمان الناس من السلطة يعني تجريدهم من حق التدخل في الشأن العام بما في ذلك حق التفكير والتعبير والاعتراض، أي الكفاح. والواقع أنه لا مشكلة في البلد حين يكون أهله قادرين على إصلاح ذات شأنهم، أو أن المشكلة تكون عندئذ عملية فحسب، أعني مشكلة جهد ووقت. لكنها تكون مركبة ومضاعفة حين يمنع الناس من مواجهة أعباء وجودهم ولا يعترف بأهليتهم على إبداع حلول ناجعة. إن واقعا سيئا نستطيع العمل من أجل تغييره أفضل من واقع جيد يحظر علينا التدخل فيه. فكيف إذا كان الواقع يجمع بين السوء والتثبيت أو حتى التخليد!
هذا هوالوضع في سورية اليوم. فقضيتنا لا تتمثل في مادية الصعاب وجسامتها مهما تكن، بل في تغييب شروط العمل على تحديها ومواجهتها. القضية بكل بساطة قضية حرية: هل نحن مواطنون معترف بأهليتهم الوطنية وجدارتهم الإنسانية، وبالتالي بحقنا في القول والفعل والتفاعل بحرية كاملة فيما يخص شؤوننا المشتركة، بصرف النظر عن أدياننا وعشائرنا وطوائفنا وأحزابنا وإيديولوجياتنا، وبصرف النظر عن موقفنا من طاقم الحكم في بلدنا ومن سياساته؟ هذا هو السؤال.
ما هي الحرية؟ ليست الحرية انعدام المصاعب ولا غياب المشاكل ولا زوال القيود بقدر ما هي التمرس بمقاومة وتحدي القيود واكتساب الخبرة والكفاءة على التفاعل الإيجابي مع المصاعب والقيود، أي أيضا القدرة على الصراع والمواجهة التي يكتسب فيها الإنسان أهليته وجدارته بالحرية. الحرية بكلمة واحدة هي الكفاح: الحق فيه والقدرة عليه. إن مفهوم الصراع الاجتماعي والسياسي يشير إلى كفاح الناس المشترك للتحكم بشروط حياتهم والسيطرة على مقاديرهم، سواء كانت شروطا طبيعية أم نظاما اجتماعيا أم عقائد مطلقة؛ ولا يشير إلا في المقام الثاني إلى صراع قسم من المجتمع ضد قسمه الآخر. وإذا كانت كلمات صراع ونضال وكفاح قد اكتسبت معان إيجابية في الوعي الحديث فلأنها ارتبطت بملحمة إمساك الإنسان زمام مصيره وبناء العالم حول عقله وإرادته، ملحمة الحرية. وإذا كانت هذه الكلمات قد خسرت معانيها الإيجابية خلال العقود الثلاثة الأخيرة فلأنها أعطيت دلالات حربوية وقدمت تبريرا لشتى أنظمة الطغيان، أي أنها تحولت من تعابير قوية عن الاقتدار الإنساني وعن تحدي الإنسان لمصيره إلى إيديولوجية تسوغ سلطة البعض وقهر الآخرين.
القصد باختصار هو أن الخراب الأفظع في بلدنا يتمثل في تغريب الناس عن مصير بلدهم وعن شأنهم المشترك ويجعل من شروط حياتهم أقداراً لا تطالها جهود عقولهم وأيديهم. هذا ما يسمى بالاستلاب، ويواجهه الناس عادة بواحد من أسلوبين متطرفين: إما التمرد العنيف وهو يؤدي إلى الدمار العام (شهدنا نموذجا عنه في سورية بين 1979و 1982)، أو الاستسلام المطلق لشروط الحياة وترك الأمور تجري على أعنتها، وهو ما نعيشه اليوم. واضح أننا حيال مسلكين انتحاريين متماثلين في أصلهما ومآلاتهما رغم اختلافهما الظاهري. الفائدة الجانبية لهذا التحليل هي إدراك أن من يزرع الاستلاب واليأس يحصد الدمار، سواء بانفجار قدري لا يبقي ولا يذر أم باستسلام قدري ليس أقل إنتاجا للخراب. وهو درس جدير بنا ألا ننساه وإلا حكم علينا أن نعيده!
المسألة إذن في البناء الإنساني، في شعور الإنسان بقيمته واحترامه لذاته وبجدوى عمله وتفكيره وإبداعه. ولا يزال هذا البعد المهمل للتنمية والبناء الوطني، ما قد نسميه التنمية الأخلاقية أو المدنية، مهملا في تكويننا الثقافي والسياسي العام أو أنه متروك للمواعظ والأحكام الانطباعية الشائعة. لعل الاهتمام بمسألة المجتمع المدني سيكتسب شرعية أكبر إذا استطاع أن يتحول إلى محور لجذب هذه الأبعاد المهملة المقموعة. بل إنه لن يكتسب أي تبرير ومعنى إلا باستقطاب وتنشيط هذه القضايا الاجتماعية بكل معنى الكلمة. أنا على كل حال أضع قضية الحق في الكفاح وتنمية الروح المدنية في صلب إشكالية المجتمع المدني في بلدنا.
ـ 3 ـ
يشير التحليل السابق إلى مفتاحية المسألة السياسية في سورية وبالتالي أولوية الإصلاح السياسي، لكنه يكشف أن هذا الإصلاح مجرد مدخل: لا نستطيع بلوغ الهدف دون المرور منه، لكن الهدف يبقى شيئا مختلفا عن المدخل. فإذا كانت السياسة، سياسة الإقصاء، قد طردت الناس من البيت فإن إعادتهم إليه لا تضمن وحدها إعماره. لذلك فإن حل المسألة السياسية هو بمثابة الجهاد الأصغر الذي لا قيمة له إلا لأن حسمه يضمن التفرغ لما هو أهم وأصعب: الجهاد الأكبر، أي الكفاح ضد الذات أو تغيير الذات. على هذا الأساس نرى أن الإشكالية المدنية أو إشكالية المجتمع المدني في سورية تكتسب في بلادنا معنى تأسيسيا يتجاوز قضايا السلطة والأحزاب والمواقف والبرامج السياسية نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع والشخصية الوطنية وتوطين قيم الحرية والكرامة الإنسانية والحق في وعينا ومؤسساتنا وقوانيننا.
يتعلق الأمر بتركيب مطلبي النهضة (الحرية العقلية والروحية) والديمقراطية (الحرية السياسية). هذا الاتجاه لا تزال مقصرة عن تلمسه أطر النشاط المدني التي تبرعمت خلال العامين الأخيرين كالمنتديات وهيئات حقوق الإنسان ولجان إحياء المجتمع المدني، إضافة بالطبع إلى الأحزاب السياسية. فرغم أن المفاهيم الأساسية التي يعي النشاط المستجد نفسه عبرها هي الحوار والحق والإنسان والعقد الاجتماعي والمواطنة والعام والإصلاح والنقد.. فإنها لا تزال مفاهيم خارجية لا تشكل المنطق الذاتي للعمل السياسي والثقافي.
ـ 4 ـ
هناك نوعان من الصعوبات التي تواجه النشاط المدني حاليا. الأول هو القيود والتضييقات والخطوط الحمر الرسمية التي تجعل النشاط العام أشبه بالسير في حقل ألغام، خصوصا في ظل ما نعرفه من انعدام سلطة القانون واستقلاله من ناحية، وذاكرة الخوف التي تنشطت باعتقال عشرة من النشطاء الديمقراطيين أواخر الصيف الماضي من ناحية ثانية. لكن إذا كان القمع كفيلاً بقتل النشاط المدني فإن زواله لا يعني حياة تلقائية مزدهرة لذلك النشاط كما حاولنا أن نبين فوق. من هنا النوع الثاني من مصاعب العمل المدني الديمقراطي: التكوين اللامدني سياسياً وإيديولوجياً وتنظيمياً وسلوكياً للجسم الأكبر من الناشطين في الحركة المدنية. أقصد التنافر بين الهدف المدني العام والنزعات الحزبوية والمذهبية والذاتية التي تهدد بإفراغ العمل من جدواه. بالطبع ليس الوعي المدني فطريا ولا يستطيع أحد منا أن يزعم البراءة من العناصر العصبوية في وعيه وتكوينه، لكن إهمال هذا الجانب وغياب النقد من شأنه أن يبقينا أسرى الدائرة اللامدنية وأمراضها. هنا أيضاً تستعيد قضية النهضة بمثابتها اكتشاف الذات الحرة المبدعة وحيازة الوعي النقدي قيمتها المهدرة.
يبقى المقال الفصل حالياً هو الحرية السياسية. فمهما تكن عيوبنا فإنها ليست مما لا يقبل الإصلاح. لكن المرء لا ينجح في محاسبة النفس ونقد الذات وتفجير منابع الحرية الروحية فيها دون شعور بالأمن، ولا أمن بلا حرية سياسية.
لم نسترخ في سورية منذ عقود، ولم نعرف السلام والصفاء والهدوء والسكينة والسداد إلا كمقولات خارجية أو كبلاغة، بل إن إيديولوجياتنا جميعا كانت تحتقر هذه المعاني وترى فيها شيئا روحانيا معاديا للثورة والعلم. لذلك كانت الثورة طبلاً وسجناً، وكان العلم إفقاراً ويباساً روحياً مميتاً. لذلك أيضا هناك الكثير من التوتر والغضب والعدوانية والصخب والثوران وسرعة الوهن والعجز عن التخطيط والإنجاز في بنائنا النفسي والفكري والسياسي. لذلك ـ أخيراً ـ لا نتقدم!
دمشق 1"3"2002
نشرة مواطن