|
أزمة -المواطَنة-.. عربياً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3032 - 2010 / 6 / 12 - 15:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"المواطَنة" لا تتحوَّل إلى قضية سياسية، في برامج وشعارات الحكومات والأحزاب والقادة السياسيين، إلاَّ حيث نقيضها، "اللا مواطَنة" بصورها وأشكالها المختلفة، يؤكِّد وجوده وحضوره القويين في حياة المجتمع، بأوجهها كافة، فلا تُفْهَم "المواطَنة"، بالتالي، إلاَّ على أنَّها صراع دائم ضد هذا النقيض، المتعدد الوجه والشكل، ينبغي لها فيه أن تُحْرِز الغلبة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا؛ ولكن من غير أن يعلِّل دعاتها وأنصارها أنفسهم بوهم القضاء المبرم على كل ما ينتمي إلى "اللا مواطَنة"؛ ذلك لأنَّ جُلَّ ما يمكن أن يتوصَّل إليه هؤلاء هو أن تسود "المواطَنة"، وتُهَيْمِن، كابحةً جماح "اللا مواطَنة".
وهذا الذي قُلْنا، ونقول به، هو ما يفسِّر ظاهرة سياسية وثقافية وفكرية جديدة في عالمنا العربي، ودولنا ومجتمعاتنا العربية، هي اشتداد الحاجة لدى الحكومات والأحزاب والقوى السياسية (وغير السياسية) إلى الحديث عن أهمية وضرورة "المواطَنة"، لجهة جعلها حقيقة واقعة، فهي ما زالت أقرب إلى عالم المُثُل الأفلاطوني منها إلى الواقع، الذي فيه من القوى (الموضوعية والذاتية) المضادة لـ "المواطَنة" ما يَحُول بين مجتمعاتنا العربية وبين التطوُّر بما يُوافِق "المواطَنة".
قديماً، أي في العصر الذهبي للثقافة والوعي السياسيين العربيين، كُنَّا نتحدَّث عن أهمية وضرورة وحتمية ومزايا الوحدة القومية العربية، وعن صلتها بخيار آخر هو "الاشتراكية"، فخيار "الديمقراطية" لم يكن بالأهمية "الجدلية" التي هو عليها الآن؛ وكان الخلاف بين النُخَب السياسية والفكرية اليسارية العربية (أكانت قومية أم شيوعية وماركسية) يتركَّز في إجابة سؤال "عَبْر الوحدة نحو الاشتراكية أم عَبْر الاشتراكية نحو الوحدة؟".
لقد هُزِمَت "القومية العربية"، فكراً واتِّجاهاً وهدفاً وشعاراً، شرَّ هزيمة، إذ هُزِم بطلها وزعيمها جمال عبد الناصر في الخامس من حزيران 1967؛ وسرعان ما خرجت من رحم هذه الهزيمة قوى سياسية عربية جديدة، تُغَلِّب، في فكرها وبرنامجها وشعارها، "الوطن الصغير" على "الوطن الكبير"، و"الانتماء دون القومي" على "الانتماء القومي"؛ ثمَّ مني اليسار العربي، مع خياره الاشتراكي، بهزيمته التاريخية إذ انهار وتفكَّك على حين غرة الاتحاد السوفياتي؛ ثمَّ غزت الولايات المتحدة واحتلت العراق، فدشَّن سقوط بغداد عصر تجزئة المجزَّأ، فبعد تجزئة "الوطن الكبير" بدأت تجزئة "الأوطان الصغيرة"؛ وكانت "قوى اللا مواطَنة"، على اختلافها، والمتسربلة بـ "الديمقراطية" ومشتقَّاتها، هي "المقص" في أيدي أحفاد سايكس وبيكو.
"القومية الواحدة"، وبما يتَّفِق مع مصالح القوى النفطية الغربية، والمصالح الإستراتيجية للدولة اليهودية، قُصْقِصَت، وسُدَّت الطريق إلى "الدولة القومية"، عربياً، والتي كانت طريق الأوروبيين إلى القِمَم في كل شيء، وابْتُني من أشلائها أكثر من عشرين دولة؛ ثمَّ شرعوا يضربون كل جزء من أجزاء "القومية العربية"، فكل جماعة قومية غير عربية، في كل دولة عربية، أصبح لها الحق في أن تنفصل وتستقل، أو في أن تحكم نفسها بنفسها؛ ولكن بما يجعلها، واقعياً، دولة ضِمْن دولة؛ أمَّا ذلك الجزء من الجماعة القومية العربية، كعرب العراق، فأمعنوا في تجزئته بقوى التعصُّب دون القومي، متِّخِذين من "صندوق الاقتراع الديمقراطي" مقَصَّاً جديداً يقصقصون به كل جزء من "القومية العربية"، فالانتماء دون القومي هو الذي ينبغي له أن يغلب الانتماء القومي لدى العربي في كل دولة عربية.
وفي مناخ عالمي وإقليمي يتعذَّر فيه أن تنمو وتزدهر الروح القومية العربية، أصبح لـ "غير العربي"، في كل دولة عربية، من "الحقوق القومية" ما يَعْدِل، أو ما يكاد يَعْدِل، "الأطماع القومية"، التي فيها تكمن مصالح لقوى دولية وإقليمية تناصب "القومية العربية" عداءً تاريخياً؛ أمَّا العربي (في كل دولة عربية) فتضاءل شعوره بالانتماء القومي؛ بل تلاشى، وأصبحت "الهوية دون القومية" هي هويته التي دفاعاً عنها يضحِّي بالغالي والنفيس.
إنَّ "الأوطان العربية الصغيرة"، والتي بعضها من الصِّغَر، بمعانية كافَّة، ما يجعله مَسْخَاً لمفاهيم "الوطن" و"المجتمع" و"الدولة"، هي التي تكتشف الآن أهمية وضرورة أن تتسلَّح بسلاح "المواطَنة"، فإذا كانت "القومية العربية" مع "الوطن العربي الكبير"، هي عدوها القديم، فإنَّ تجزئة المجزَّأ بقوى التعصب من "النمط العراقي" هي عدوها الجديد.
إنَّني مع "المواطَنة" في كل دولة عربية، أي في كل "الأوطان العربية الصغيرة"، و"المتناهية في الصِغَر"، على أن تتحقَّق وتنمو وتزدهر بما يشحن "الانتماء القومي العربي" بمزيد من الطاقة والقوَّة، فـ "الأوطان الصغيرة"، ومهما بدت لنا جميلة، تظل كالنقد المزوَّر الذي لولا وجود النقد الحقيقي (وهو كناية عن الوطن العربي الكبير) لَمَا وُجِد، وعلى أن تكون الدول والحكومات نفسها مثلاً أعلى لشعوبها ومجتمعاتها ورعاياها في "المواطَنة"، فإنَّها ما زالت بخواص سياسية تجعلها متخلِّفة عن مواطنيها في "المواطَنة الحقَّة". إنَّها، والحقُّ يقال، دول وحكومات لا تعيش إلاَّ بـ "اللا مواطَنة"، وفيها، فكيف لفاقِد الشيء أن يعطيه؟!
ولقد عاب عليها أردوغان ذلك إذ خاطب إسرائيل قائلاً: "إنَّ تركيا ليست دولة قبيلة"!
وإنَّها دول وحكومات لا تستطيع العيش إلاَّ في إسار تناقُض، أحد طرفيه هو تغذية كل ما يُضْعِف وينفي "المواطَنة"، أي تعزيز وتقوية قوى وبُنى "اللا مواطَنة"، دفاعاً عن مصالحها الفئوية الضيِّقة، فإذا تمخَّض هذا النهج عن نتائج تَذْهب، أو توشِك أن تذهب، بما أرادته، ورغبت فيه، انتقلت إلى الطرف الآخر من التناقض وهو الانحياز إلى "المواطَنة" ضدَّ "اللا مواطَنة"، والتسلُّح بسلاح "المواطَنة"، توصُّلاً إلى الغاية نفسها!
إذا كان حضور "الحرية" و"الديمقراطية" ممكناً في غياب "الأحرار" و"الديمقراطييين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم، فإنَّ حضور "المواطَنة" ممكناً في غياب "المواطنين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم.
و"المواطِن" إنَّما هو شيء يُصْنَع صُنْعاً، فالمرء لا يُوْلَد "مواطِناً"، إنَّما "يصبح" مواطناً.
ولن يصبح "مواطِناً" إلاَّ إذا نال من "المواطَنة" حقوقه كافَّة، ومن "الديمقراطية" حقوقه كافَّة، ومن "الإنسانية" حقوقه كافَّة، فـ "الوطن" يعطي أبناءه قبل، ومن أجل، أن يأخذ منهم.
يعطيهم ما هو في الأصل حقٌّ لهم عليه؛ فحيث ينتشر الفقر والجوع والبطالة، ويزدهر الاستبداد، وتُغْتَصَب حقوق المواطَنة، والحقوق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتتلاشى في الحكومات صفة التمثيل للحقوق والمصالح والقضايا القومية لشعوبها، تختفي حتماً ثلاثة أشياء: الوطن، والمواطِن، والمواطَنة.
كل الأغاني والأناشيد والقصائد والخُطَب.. لا تؤسِّس، وحدها، لوجود هذا المثلَّث، فالانتماء، يُزْرَع ويُغْرَس، ويضرب جذوره عميقاً في تربة الحياة الواقعية للبشر، قبل أن يغدو شعوراً ووعياً وثقافةً.. واستعداداً للتضحية بالغالي والنفيس.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-أسطول نجاد- بعد -أسطول أردوغان-!
-
-النفاق-.. سياسة عربية!
-
ظاهرة أردوغان
-
هل نجرؤ على الانتصار؟!
-
معبر رفح.. تُغْلِقه مصر فتَعْبُر تركيا!
-
امتزاج -الأحمر- ب -الأزرق-!
-
جماهير -إعلامية فضائية-!
-
الشرق الأوسط الخالي من السلاح النووي!
-
-الانتخاب- و-التزوير- صنوان!
-
قانون لانتخابات نيابية -أخلاقية-!
-
القانون الانتخابي الجديد في الأردن.. هل يأتي ب -برلمان قديم-
...
-
هذا الاستئساد الأثيوبي!
-
نتنياهو -رجل الحقيقة-!
-
نحن يوسف يا أبي..!
-
-الطوارئ- هي طريقة في الحكم!
-
تفويض مباشر.. ومفاوضات غير مباشرة!
-
العابسون أبداً!
-
متى يأخذ عمال العالم مصيرهم بأيديهم؟!
-
هل التاريخ يعيد نفسه؟
-
في عبارة -ذات الحدود المؤقَّتة-!
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|