جمعة الحلفي
الحوار المتمدن-العدد: 923 - 2004 / 8 / 12 - 09:56
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
ي ربيع العام 1971 حصلت على وظيفة في وزارة رة العمل و الشؤون الجماعية، وبعد شهرين من ذلك فصُلت من تلك الوظيفة لأسباب لا أزال، حتى الآن، أجهلها. المهم في أيام البطالة تلك كنت أتسكع مع صديق في منطقة الباب الشرقي، وكانت هناك محلات عدة لقراءة الحظ والمستقبل. دخلنا واحداً منها، بين الجد والهزل، فاستقبلنا صاحب المحل بالأبخرة والدعوات. كان محله مليئاً بالمرايا والانتيكات والخزعبلات. وبعد أن سألني عن مشكلتي قلت له أنني مفصول من العمل وأريد أن أعرف هل سأعود إذا قدمت طلباً جديداً أم لا؟. فأخذ كفي وراح يتفرس بها ويقلبها بمهارة طبيب جلدية، ثم قال لي بقناعة تامة: هناك إشارتان في كفك، الأولى تقول أنك ستعود الى الوظيفة والثانية تقول أنك لن تعود... والباقي على الله! سحبت كفي من بين مخالبه وهممت بالخروج دون أن أدفع له الأجرة، فقال لي بانزعاج: يبدو أنك لا تؤمن بإرادة الله؟ قلت له نعم أؤمن ولكن الوظيفة في وزارة العمل؟
منذ ذلك اليوم تأكدت أن قراءة المستقبل خرافة وإن هؤلاء مجرد نصابين لا أكثر، لكنني، مع ذلك، لا أزال أعطي كفي، كلما صادفت واحداً منهم، مدفوعاً برغبة دفينة لمعرفة هذا المستقبل العجيب، الذي لا أساس له ولا رأس. وكما أذكر، في هذا السياق، كان في دمشق، حيث أعيش منذ ربع قرن، قارىء كف متجول لكنه كان مدهشاً في شكله وطبيعة تصرفاته، على خلاف أولئك الذين كنت أراهم في بغداد. كان هذا الساحر طويلاً ونحيفاً ووسيماً، يرتدي، على الدوام، بذلة سوداء أنيقة، لكنها قديمة، الى درجة أنني لم أره يرتدي سواها طوال خمسة عشر عاماً. كنا نصادف قارىء الحظ هذا بين حين وآخر، في مقاهي وبارات دمشق، وفي كل مرة يرانا فيها يجلس دقائق قليلة الى طاولتنا، وقبل أن ينهض ليغادر، يقترب مني ويهمس في أذني العبارة التالية: أنت محظوظ... ستحصل على ما تريد! وكلما مرت السنوات كانت أوضاعي تتدهور وتتراجع.
وفي مرة من المرات أمسكت بذلك الساحر من ياقة سترته وهمست بأذنه: قل لي متى سأحصل على ما أريد؟ فضحك وقال: عندما تقرر ذلك!
مضت سنوات أخرى ولم أعد أصادف الساحر الدمشقي، فقد توفي على الأرجح، لأنه كان طاعناً في السن وفقير الحال، عندما رأيته آخر مرة، لكنني لم أنس أبدا عبارته السديدة تلك، التي علمتني، من يومها، أن المستقبل لا يُقرأ إنما يكتب. لقد كان ساحراً حقيقياً وليس نصاباً مثل أقرانه.
#جمعة_الحلفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟