|
تعافي الاقتصاد من باب العودة إلى السياسة
ماجد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 3029 - 2010 / 6 / 9 - 13:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ها هي الأزمة المالية العالمية، تتمظهر في حلقتها الراهنة، كما في كل من اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا، معلنة بدء الدخول إلى رحاب مرحلتها الثانية، لتؤكد وعلى الضد من تنظيرات ومعالجات الليبرالية المحافظة على غياب السياسة/السياسات الوطنية، واستبعادها التدخل للحد من تخصيص الأرباح وتعميم الخسائر. كما تؤكد أن "العودة إلى السياسة" لم يعد شعارا يمكن أن يجري تداوله في المجتمعات المتخلفة، أو الدول المبتلية بالأيديولوجيات التفتيتية، حيث نظم الاستبداد تستولي على الفضاء العام، وتحتكر السياسة، وتمنع مجتمعاتها من ممارسة أي شكل من أشكال "التدخل" في الحياة السياسية، كحق طبيعي وكعقد ملزم، يستوجب الشراكة في صنع المواطنية، فيما هي تقمع وتعوّق إمكانية نشوء مجتمع مدني، يعود للسياسة؛ ولتدخل الدولة الإيجابي،الأصل في ممارسته لدوره.
لهذا أضحت هذه الكلمات الثلاث (العودة إلى السياسة) مثل تميمة، أو نصيحة بدأ يتردد صداها في عالم الدول الحديثة، كما في عالم الاقتصاد كذلك، كارتداد كان لا بد منه، ردا على الأزمة المالية العالمية، واستفحالها ومطاولتها دول ومجتمعات حديثة، كما مجتمعات أنظمة سلطوية متخلفة على حد سواء، وذلك ردا على إخفاقات النظام الرأسمالي وآلياته ونصائحه في إعادة الهيكلة أو تبني خطط تقشفية، أو تبني العديد من نصائح الاستثماريين والمضاربين التي يجري تداولها، وكأن في مجرد طرحها، يمكن الولوج إلى "طريق الخلاص" مما ترتبه الأزمة من مفاعيل، لم تبق تقتصر على الصعيد الاقتصادي، بل هي استفحلت وتستفحل في كامل قطاعات الأمة السيادية للدولة الحديثة.
في مواجهة ذلك كله، رأى عالم الاقتصاد الفرنسي، الباحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية فريدريك لوردون في مقالة له في لوموند ديبلوماتيك (أيار/مايو 2010) أن الخروج عن نظام العولمة الراهن، يعني العودة إلى السياسة، بمعنى مواجهة العولمة ونظامها المهيمن، كونه لم يكن في المحصلة الراهنة سوى عملية تفكيك للسيادات الوطنية، وذلك عبر تسليعه كل شيئ، حيث أن أسواق الرساميل هي التي تحدد قيمة ما أسماها "الأتاوة المقتطعة"، من الثروة الوطنية، لصالح دائنين من مختلف أرجاء العالم.
ولتجاوز ذلك العجز عن سداد الديون، أو بيع سندات الدين، وما يفرضه ذلك من أكلاف باهظة على الموازنات العامة، وهذا ما يعاني منه اليونانيون، والعديد من الدول المشابهة في النطاق الأوروبي، إذ يكفي لذلك النظر في حجم التضحيات، التي فرضها المستثمرون على اليونان في المدى القصير، من أجل تحقيق بعض الهدوء المخادع، ما دعا لوردون للمناداة بضرورة التمثل بالنموذج الياباني، كمسوّغ للتحرر من سلطة الممولين الاستغلالية، وذلك بتغييرهم، وهذا ما فعلته اليابان بحكمتها، حيث أبقت على ديونها كديون محلية، وأبعدت ذاتها عن الاندماج في العولمة، بل هي وفي خط معاكس لأيديولوجية العولمة التي تنافح عن فكرة إلغاء كل الحدود، خصوصا تلك التي يمكن أن تعوّق حركة الرساميل، هذه الحالة تقدم في كل مجالات دين الدولة؛ نموذجا ليس قابلا للحياة فحسب، بل ويتمتع أيضا بعدد لا بأس به من الخصائص الإيجابية.
هل هذه هي تلك "السياسة" التي يقصدها لوردون، كخطوة رئيسة، لا بد منها، من أجل إخضاع القرارات الاقتصادية للتداول السياسي، وللتدخل الإيجابي للدولة؟.
لقد بيّنت أزمة النظام الرأسمالي المالية الراهنة، منذ انفجار فقاعاتها أواخر العام 2008 في الولايات المتحدة، أن سياسات خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر، إنما هي سياسات عقيمة، تماما مثل سياسات الإقراض لتمويل الدين العام، ورمي أكلافها على الموازنات العامة، بما يمكن أن تستجرّه من رفع الدعم وزيادة الضرائب وفرض خطط تقشّفية، عادة ما يكون المتضرر الأول منها مجموع الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، ما قد يفيد في أحسن الأحوال، مجرد إفادة بسيطة في إعطاء نتائج محدودة على المدى القصير. لكن تدوير الأزمة يبقى يمتلك اليد الطولى في التأثير سلبا على سيادة القرار السياسي، بل على سيادة الدولة المعنية ذاتها، طالما استمرت ترهن ذاتها للمؤسسات المالية الخارجية والمضاربين من كل صنف، الذين يُزعم أنهم يستثمرون أموالهم في محاولة إنقاذ هذا البلد أو ذاك؛ من حالة إعسار أزمته المالية، وإعصار انقياده الأعمى خلف قرارات غير سيادية، يتحكّم فيها أسياد العولمة عبر نظام عولمتهم المالي، وهو ما يتم عبر أسواق الرأسمال، وتحت وصاية المستثمرين والمضاربين الدوليين.
يقدّم النموذج الياباني، وهو البلد الغارق في الدين إلى أقصى ما يكون، على عكس ما تقدمه الأزمة اليونانية اليوم من عبر ودروس، أحد طرائق التخلص من سياسة الارتهان للأسواق وتغوّل المستثمرين الدوليين في إطارها، فهؤلاء لم يسبق لهم الاكتتاب في الدين العام الياباني الذي يمسك به المدّخرون المحليون بنسبة 95 في المئة، وبالرغم من ذلك، فإنه على العكس تماما من الولايات المتحدة، تتميّز اليابان بمعدل ادخار وافر، كاف إلى حد كبير لتغطية متطلبات تمويل الدولة، وكذلك تمويل الشركات. وها هنا بالتحديد يقع دور السياسة في استنقاذ ما استنقع من آليات النظام الرأسمالي على اختلاف أنماطه.
هذه هي باختصار، بعض ملامح "العودة إلى السياسة"، أي استعادة الدولة لدورها، واستعادة تدخلها الضروري لاعتماد حلول دولتية، بعيدا من "استثمارات المضاربة" وتدخلات الطغم المالية، وعلى الضد من تلك الحرية المطلقة التي يجري منحها للأسواق ومنطق تدخلاتها، عبر مستثمرين دوليين، لا يهمهم من كل العملية التي يتدخلون فيها استثمارا أو مضاربة على ما يقال، وفي أي مكان، وبغض النظر عن نتائجها؛ سوى أرباحهم، وزيادة رصيد أرقامهم، حتى ولو "ذبحت" هذه الأرقام من "ذبحت" من فئات إجتماعية مطحونة وطبقات متوسطة، لا يكون مآلها في ظل سياسات التقشف، والخضوع، والارتهان لشروط الممولين؛ سوى الإدقاع في الفقر، والبقاء عند حدود الاستبعاد الاجتماعي، والعيش أو الموت تحت ظلال التهميش الممنهج الذي تستبقيه الأسواق المعولمة، كرصيد للشعوب التي غادرتها السياسة أو غدرت بها، وأبعدتها سنوات ضوئية عن التحكم بمصائرها، ومصائر مجتمعاتها؛ العصيّة على إدراك لعبة الرأسمال ومضارباته ومضاربيه، وهو يطوي السياسة تحت جناحيه، ويبعدها عن تقرير مصيرها بيدها لا بيد زيد أو عمرو الاقتصاد المعولم، وها هنا مربط فرس العودة إلى السياسة، كضرورة لا بد منها كي يتعافى الاقتصاد، ويعود للدولة دورها المُصادر أو المُغيّب.
#ماجد_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو مقاربة تعريفية جديدة للقضية الفلسطينية
-
في الطبائع المتلونة للاستبداد الآسيوي
-
ابتذالات الانقسام الفلسطيني وأضراره الانحطاطية
-
اليونان.. نموذجا وضحية أولى للأزمة
-
وطن النكبة.. الأرض التاريخية للشعب الفلسطيني
-
الفلسطينيون ومأزق التفاوض على المفاوضات!
-
مفاوضات لا تعد إلاّ بالفشل
-
مفاوضات التقارب وترياق الوعود العرقوبية
-
رقابات تفتيش فسطاطية تتناغم و-حسبات- تكميم الأفواه
-
تهويد القدس والتصدي لمشاريع أسرلتها
-
المقاومات الحلولية والوطن المغيّب
-
قناع الترانسفير الجديد والمهمات المتجددة
-
ستارت 2 : آمال التوقيع ومنغّصات المصادقة
-
حتى توراتيا لم يكن هناك -قدس يهودية موحدة-
-
حذار لعنة تديين الصراع
-
ماذا بعد فشل مباحثات -انعدام الثقة- الأميركية - الإسرائيلية؟
-
فلسطينية الأرض ومحددات الصراع على هويتها
-
عالم يتغيّر وقمم لا تبدّل ولا تغيّر
-
بلدوزر الاستيطان الاسرائيلي حين يرسم حدود التفاوض وتعقيداته
-
الانتفاضة الثالثة: حاجة ذاتية ودوافع موضوعية
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|