جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3028 - 2010 / 6 / 8 - 21:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان العنوان الذي اخترته لمقالتي السابقة ( الشيوعيون والبعثيون هل هم أبناء رحم واحد) والذي سأضعه للجزء الثاني القادم منها أيضا, قد أثار العديدين, ولعل ذلك ما أردته بالضبط, إذ ما عاد البحث في الوضع المأساوي الذي مازال يخيم على العراقيين منذ أكثر من نصف قرن يحتاج إلى المجاملة, أو إلى أنصاف الحلول, أو إلى تلك التي تقف عند الظاهرة دون أن تسمي السبب, أو تلك التي تتعامل مع النصف الأخير من القرن العراقي على طريقة التقسيمات المرحلية القاطعة التي تتجاوز على حقيقة إن كل مرحلة كانت تولد من سابقتها وإن المعالجة تقتضي البحث عن الأسباب المشتركة التي تديم فصول المأساة على رغم تنوع المراحل, وهل ننكر إن استمرار عجلة (الثورة والمؤامرة) على الدوران, وحالة تبديل المواقع بين اللاعبين منذ سقوط الحكم الملكي ولحد الآن لم يترك فرصة مطلقا لتراكم منظومة من القيم التي من شانها أن تخلق حالة اجتماعية وسياسية عراقية واحدة تصلح لأن تكون تعبيرا عن هوية جامعة وتؤدي إلى أحكام متفق عليها من الجميع, إذ مازال الذي يجلس على الكرسي بعد نجاح (ثورته) هو من يصدر الأحكام على من انهزم, فإذا ما تبدلت الحال فسيتحول من كان جالسا عليه إلى خائن ومن كان خائنا إلى وطني بخمسة نجوم.
ومهما كان الاختلاف على طبيعة المرحلة العراقية الراهنة فأنا اعتقد إن هذه المرحلة بالذات توجب على الكثير من القوى السياسية وفي المقدمة منهم الشيوعيين والبعثيين, ومن ضمنهم أيضا العديد من أطراف العهد الحالي من أحزاب الدين السياسي لأن يتدارسوا بتجرد الأسباب الحقيقية للعنف العراقي وللتدهور السياسي المتواصل, فالعراق الآن معرض لأن يكون من أفقر الدول بعد أن كان من أغناها, وأفشل الدول بعد أن كاد يصل إلى مصاف دول العالم الثاني وخاصة في المرحلة التي سبقت استيلاء صدام كاملا على السلطة بعد الانقلاب على رفاقه أولا وعلى حلفائه من كل الأطراف ومن بينهم آنذاك الشيوعيين ذاتهم, وهو معرض أيضا إلى التمزق والتبعثر بحيث لن يستحق ما سيتبقى منه لحمل إسم العراق.
ولقد كانت المداخلة التي تفضل بها الأستاذ (محسن الحاج مطر) في معرض رده على مقالتي السابقة رائعة على أكثر من صعيد, لا لأنها أكدت على صدق ما ذهبت إليه في مقالتي وإنما لأنها جاءت منسجمة مع روح (الحوار المتمدن) فلم تنهج طريق ما يذهب إليه بعض الردادين ولا أقول المحاورين من تكرار دفاعي مغرق في الذاتية, وإنما ذهب مباشرة إلى التأكيد على حالة المراجعة التي يقوم بها الحزب الشيوعي, ومتأسفا لأن البعثيين لم يقوموا بذلك لحد الآن.
والحقيقة إن ذلك صحيحا إلى أبعد الحدود, إذ ما زال البعثيون يعلقون تأجيل عملية المراجعة على شماعة اسمها حساسية المرحلة, ولأن كل المراحل السياسية هي ذات حساسية عالية في نظر البعثيين, فإن عملية النقد سوف تبقى مؤجلة, ليس إلى ما بعد مرحلة تحرير العراق وإنما إلى أن تتحرر فلسطين من البحر إلى النهر وإلى عودة الجزر الثلاث وإلى أن تتوحد الأمة العربية كاملا ومن ثم إلى أن تتحقق الرسالة الخالدة ويتوقف كليا التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي عن مؤامراته ضد الأمة والثورة وكذلك ضد السيد الرئيس القائد.
ورغم إنني ما زلت أحتفظ بعلاقات صداقة مع العديد من أنصار الحزبين فإنني لم أتردد في الخوض بهذا الاتجاه مؤمنا أن معرفتهم بي ستكون كافية لكي تجعلهم يتحملوا جرأة العنوان فيواصلوا قراءة ما تحته لكي يكتشفوا بالتالي معنى السؤال على حقيقته ثم يدركوا المغزى من طرح موضوعة من هذا النوع وفي هذه المرحلة بالذات. بالنسبة إلى العديدين ربما تكون الموضوعة قديمة جدا في حين إن الساحة العراقية حبلى بأحداث يتوجب متابعتها. لو كان ذلك هو الأمر لما حظيت هذه المقالة السابقة بالاستقبال التي حظيت به. لا شك إن الفضول وحده لم يكن هو السبب وإنما هي الحاجة إلى دراسة الصراع الشيوعي البعثي من خلال رؤيا راهنة وكفيلة بوضع اليد على البطون الرخوة للأفكار والعقائد التي تصدرت المراحل السابقة والتي أدت رخاوتها إلى الكثير من المآسي. وبالتالي فإن الغرض من العودة إلى تاريخ الصراع بين الحزبين لم يكن غرضا ثقافيا مجردا أو إنه كان لكتابة المذكرات السياسية, وإنما لتأشير مبادئ سيكون من شأن تجاوزها وعدم الوقوف أمامها باهتمام كاف أن يؤدي إلى تكرار المعارك من جديد. ولربما ستختلف هوية هذه القوى السياسية المتقاتلة لكن هوية الضحايا لن تختلف أبدا. وربما سيختلف اسم القاتل لكن المقتول سيكون هو عينه. إن العراقيين من كل الطوائف والقوميات والأديان والملل والنحل سوف يظلوا هم وقود تلك المعارك.
بالنسبة لي, أنا أؤمن بأن التاريخ يعيد نفسه, ليس لأن الأرض كروية وإنما لأن النتائج مرهونة بمقدماتها أو بأسبابها,وأنا أتحدث الآن عن المفاصل وليس التفاصيل, فالحروب مثلا, رغم تنوعها, تفسرها أسباب مشتركة, كذلك فإن للقتل السياسي أسبابه المشتركة والمتشابهة. هناك حروب دارت لغاية الاستيلاء على الثروات وستدور حروب أخرى لعين السبب, وهناك أخرى دارت لغرض الاستيلاء على مواقع جغرافية إستراتيجية وستدور حروب أخرى لنفس السبب, فإن لم تكن هناك حلول لمقدمات هذه الحروب ومعالجات لأسبابها فإن التاريخ سوف يعيد نفسه رغم اختلاف صيغ التعبير عن ذلك, وإن أسباب القتولات السياسية العامة والفردية تتشابه إلى حد كبير, فإن هي اختلفت فسيكون الاختلاف بأداة القتل لا بهدفه وبعدد القتلى لا بقيمة القتل ذاته.
إن مآس عراقية كثيرة كانت قد تكررت لأن المعالجات كانت ذاتية ولم تكن مبدئية, وكانت جنائية ولم تكن فكرية, وكانت إستخدامية ولم تكن وطنية حيادية. فإن نحن كررنا نفس صيغ المعالجة ونفس سياقات البحث فإن التاريخ سيعيد نفسه لا محالة. إن أحد أبرز الأسباب كما نوهت هي قلة المعالجات المبدئية الأخلاقية الصادقة,لكن أخطارا جدية دون شك ستؤدي إليها معالجات متجمدة وكهفية, وأقصد بها تلك التي تأتي من قبل مثقفين وقياديين سابقين وشخصيات سياسية محورية كانت أسماؤها قد لمعت في مراحل سياسية متعددة وعادت من جديد لتحتل مكانا بارزا في عالم الكتابات الإنترنتية, فما دللت عودتها سوى على إنها كانت قد نامت قبل ثلاثين سنة وإستيقضت الآن وهي معطلة الذاكرة أو مجمدة على ما نامت عليه فما هي وعت ولا هي إتعضت ولا هي أرادت أن تؤمن إن مهمة القلم الواعي والشريف هو أن يجعل الناس تستفيد من تجارب السنين السابقة لكي لا تتكرر المأساة من جديد, فإذا بها لا تمتلك سوى ثقافة مبللة بدم المراحل وبمفردات بدأ عالم السياسة يبحث جديا عن غيرها لكي يستطيع التعبير بها عن مآس اليوم المهلكة.
إن كتابا من هذا النوع كانوا نجحوا في تحويل الإنترنيت إلى (عنترنيت) فصاروا يزرعون الفتنة من جديد, وأظنهم اخطر بالتالي على الناس من القتلة المحترفين لأنهم من يخلق هؤلاء القتلة. ولنبدأ من أنفسنا: وأنا عن نفسي لم أنكر إنني كنت بعثيا, لكن كل كتاباتي تشير إلى إنني لا أقف عند تلك التجربة إلا بروح النقد الحريصة جدا على وضع دروسها في خدمة الأفكار المطلوبة من أجل أن لا تتكرر المآسي من جديد, وقد راعيت أن لا أكون واحدا من مخلوقين مشوهين: أحدهما يزايد في الهجوم على البعثيين لغرض تبرئة نفسه من تجربة سياسية مدانة أو لغرض إرضاء حاكم جديد لكي ينجو من ذنب أو يبرأ من عيب أو يحصل على غنيمة, وما أكثر من استبدل الزيتوني بالمحبس ومن استبدل الشاربين الكثتين بلحية إسلامية فتحول من شاعر (أتى بالشمس من العوجة) إلى شاعر من شعراء ال (ماننطيهه), أما الثاني فهو الذي يهاجم البعثيين إنطلاقا من ذاتية مفرطة وليس من حرص وطني مبدئي عام فيحول النزاع معهم إلى حالة أقرب إلى القبلية منها إلى الحالة السياسية, وينتصر فيها لحزبه لا لوطنه, ظنا منه إن الوطن والحزب واحد, فيقع بالتالي في نفس الخطأ الذي وقع به البعثييون حينما اختزلوا وطنهم وحزبهم في فرد واحد .
وانتهي إلى القول إن المعالجات الجنائية رغم أهميتها ومشروعيتها تبقى معالجات سطحية إن لم تدعمها معالجات سياسية وفكرية من شانها أن تذهب إلى وضع اليد على حواضن العنف ذاتها والتي قد يكون بعضها مشتركا بين جميع الأحزاب التي ساهمت وما زالت تساهم في دورة العنف العراقية, وقلت إن الأفكار الأيديولوجية المقدسة ونظريات تنظيمية على شاكلة المركزية الديمقراطية كانت قد شكلت حواضن رئيسة للعنف العراقي, وإن معالجة العنف بشكل جذري يتطلب التخلي عن هاتين الحاضنتين, وهل يمكن لشيوعي أو بعثي أن ينكر إن حزبيه يتشاركان هاتين الطريقتين في التفكير والعمل, وإنهما يتحملان بالتالي وعلى صعيد فكري مسؤولية العنف الناتج عنهما.
ولست هنا بصدد تبرئة البعث من جرائم الثلاثين سنة السابقة أو مساواة الشيوعيين بحجم ما ارتكبوه من جرائم ولكني مؤمن ومتيقن إن جميع القوى ذات حواضن العنف المتشابهة ستنتج حالات مقاربة لما أنتجته الحالة البعثية لو إنها تصدرت الحكم وخاضت تجربة مشابهة لتلك التي خاضها البعثيون, وإذا كان من الحق ان لا نؤسس نظرية خطيرة كهذه على إفتراض, لكن التاريخ العراقي السابق والحالي ينبئنا بأن ما قلته لم يكن افتراضا ولا يقلل من قيمته إن عدد الذين قتلهم هذا الطرف كان أكثر بكثير مما قتله الطرف الآخر, فالمبدأ هو واحد, وحينما تقتضي الملاحقة الجنائية أن يكون هناك تركيز على الجانب الذي أجرم أكثر فإن الملاحقة الفكرية تقتضي عدالة في توجيه التهم وفي صيغ المعالجة وفي تأشير أين تكمن حواضن العنف ومفرخات الجريمة السياسية.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟