|
-تحسين مستوى العسل-.. مطلب من البرنامج الانتخابى للرئيس
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 3027 - 2010 / 6 / 7 - 14:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل هناك ارتباط شرطى بين "العسل الأسود" وبين "المعتقلات السياسية"؟! الإجابة على الأرجح بالنفى. ومع ذلك فإننى كلما رأيت العسل الأسود أو سمعت اسمه تذكرت على الفور معتقل طره السياسى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى. والسبب هو أن "الطبق الرئيسى" فى "قائمة الطعام" فى هذا "الفندق السياسى" كان شيئا يصعب وصفه يسمى "اليمك" – بفتح الياء والميم وتسكين الكاف – بالتبادل مع الفول الموشَّى بالسوس أو العدس المسلح بالزلط. أما "الحلو" – الذى كان يطلق عليه رسمياً إسم "الترفيه" – فقد كان العسل الأسود مرتان فى الأسبوع. والمشكلة هى أن هذا العسل الأسود كان يتعرض فى أحيان كثيرة للغش أو الفساد، فإما تجده خفيفاً نتيجة لخلطه بالماء، أو "حمضانا" نتيجة لسوء التخزين أو انتهاء تاريخ الصلاحية أو خراب ذمة المتعهد والمستلم على حد سواء. ورغم ذلك كانت الأيام تمضى والأمور تسير بصورة رتيبة لعدد يزيد أو يقل من الأيام أو الأسابيع حتى يحدث تحرش غير مبرر من جانب إدارة المعتقل أو تجّد فى الأمور أمور تزيد صعوبة الحياة منزوعة الحرية أصلاً. فنحاول مقاومة ذلك بالإضراب عن الطعام أو غير ذلك من أساليب المقاومة السلبية التى تكون مصحوبة فى العادة بصياغة بيان نارى ينتهى بسلسلة من المطالب التى يجئ على رأسها المطالبة بالديموقراطية كاملة غير منقوصة، اليوم قبل الغد، وما يستلزمه ذلك من الإفراج الفورى عن المعتقلين السياسيين من كافة الاتجاهات .. ثم تتدرج المطالب إلى أمور "دنيوية" تخص المعاملة اليومية داخل المعتقل، وتنتهى إلى المطلب الأخير بـ "تحسين مستوى العسل". وفى الأغلب الأعم كانت هذه المناوشات المتكررة تنتهى بقبول إدارة المعتقل لمطلب تحسين مستوى العسل والوعد برفع ما عداه من مطالب إلى القيادة السياسية للنظر فيها. وبعد أن نستمتع بـ "ترفيه" العسل الأسود غير المغشوش لمدة أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، تعود ريما إلى عادتها القديمة ويعود العسل الأسود "الحمضان" من جديد! ** أما المناسبة التى ذكرتنى بهذه العلاقة العجيبة بين العسل الأسود وبين المعتقلات السياسية، فهى مشاهدتى مؤخراً لفيلم "عسل أسود". الفيلم يحكى قصة شاب هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع والديه وهو فى العاشرة من عمره. وبعد وفاتهما عاد بعد عشرين عاماً إلى القاهرة. لكنه جاء هذه المرة حاملاً جواز سفر أمريكى إلى جانب جواز سفره المصرى. والمفارقة المدهشة هى أن المجتمع، وقبله الأجهزة الحكومية، تفتح له الأبواب على اتساع مصاريعها عندما يبرز جواز السفر الأمريكى, أما إذا سولت له نفسه التعامل بجواز السفر المصرى فإنه يفتح على نفسه أبواب جهنم. ومن خلال تلاحق الأحداث يقوم الفيلم بتشريح المجتمع ويكشف عوراته وسلبياته بصراحة وشجاعة. ودون خطب رنانة أو مباشرة فجة يكشف الفيلم الوجه القبيح لسوءات كثيرة فى مقدمتها البطالة وفساد نظام التعليم وتفشى الرشوة وإهانة المواطن المصرى وإهدار آدميته فى المرافق الحكومية وحرمانه حتى من الحد الأدنى من حقوق الإنسان. كل هذا من خلال معالجة كوميدية تجعلك "تموت" من الضحك، لكنك سرعان ما تجد ضحكاتك ممتزجة بالدموع. إنها الكوميديا السوداء التى تعبر عن واقع مأزوم وحافل بالاحباطات والانكسارات. لكن هذه المعالجة الكوميدية الراقية لا تتوقف عند رصد "الأسود" والسلبى واللامعقول، وإنما تنظر إلى الواقع المصرى بحلوه ومره. فالصورة ليست حالكة السواد وإنما هناك الابداع المصرى فى "التحايل على المعايش"، وهناك الشهامة التى لم تختفى تماما بل مازالت تعلن عن نفسها فى أوقات الشدائد، وهناك الأم المصرية التى "تظلل" على أولادها وتأخذهم تحت جناحها حتى بعد أن يشبوا عن الطوق ويصبحوا رجالاً طول وعرض، وهناك الدفء الاجتماعى الذى يندر أن تجد له مثيلاً فى أى بلد آخر، وهناك الأصالة التى مازالت عميقة الجذور، حتى بعد التحول ا لذى حدث للشخصية المصرية، فحتى وإن كانت هذه الأصالة مطمورة تحت ركام العشوائية والضوضاء والتلوث وجبال المشاكل لكنها لا تحتاج سوى أن ننفض عنها التراب. *** "عسل إسود" .. باختصار .. يقدم حلاوة "العسل" وكآبة "الأسود" .. بميزان حساس مثل ميزان الذهب، دون أن يجامل الشخصية المصرية المعاصرة أو يخفى عيوبها ومثاليها، وفى نفس الوقت دون أن يتحامل عليها ويظلمها ويفترى عليها. ولست ناقداً فنياً لكنى – كمشاهد – أصفق بحرارة للمؤلف خالد دياب والمخرج خالد مرعى والموسيقار الرائع عمر خيرت الذى قدم لنا موسيقى تصويرية بديعة ومهندس الديكور محمد أمين ومدير التصوير سامح سليم والشاعر أيمن بهجت قمر مؤلف أغانى الفيلم التى شدت بها ريهام عبدالحكيم فأشجتنا وأبكتنا. وتحية خاصة إلى أبطال الفيلم أحمد حلمى (مصرى سيد العربى) وإدوارد "سعيد" وإنعام سالوسة (أم سعيد) ويوسف داود (عم هلال) ولطفى لبيب (راضى) وجيهان أنور (ابتسام) وشيماء عبدالقادر (نوسه) وعبدالله مشرف (موظف السجل المدنى) وطارق الأمير (عبدالمنصف) ودينا (ضيفة الشرف) ومحمد شاهين (رفيق الطائرة) وإيمى سمير غانم (ميرفت) وهشام إسماعيل ياسين (ضابط المباحث) وسعيد طرابيك (صاحب الكشك) وأحمد راتب (لواء الشرطة). كل واحد من هؤلاء أبدع فى تقديم دوره ، وليس هذا بالأمر الجديد بالنسبة لعدد من الفنانين المتمرسين أمثال أنعام سالوسة ولطفي لبيب وعبدالله مشرف وسعيد طرابيك ويوسف داود. لكن العدوى الحميدة للأداء السهل الممتنع انتقلت الى معظم الشباب، وأخص بالذكر إدوارد الذى جسد دور الشاب العاطل ببراعة، وطارق الأمير مفاجأة الفيلم وإيمي سمير غانم التى نجحت نجاحا باهراً فى تجسيد شخصية مدرسة اللغة الإنجليزية التى تنطق هذه اللغة الأروبية بلكنة ريفية مصرية مألوفة وشائعة. هؤلاء رسموا لنا لوحة مدهشة، صحيح أن اللون "الأسود" يطغى على ملامح مصر، لكن حلاوة "العسل" لا تفارق روحها.. ولأنها لوحة "واقعية" – رغم مرارتها – فأنها تستحق المشاهدة والتأمل. **** والملفت للنظر أن هذا الفيلم ليس سوى واحد من عشرات المحاولات لرصد التحول فى الشخصية المصرية نتيجة التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيرا، التى طرأت على البلد وعلى الإقليم، وهى تطورات وصلت فى أحيانا كثيرة إلى ما يقرب من "الانقلاب" على أمور دأب المصريون على النظر إليها طويلا باعتبارها فى عداد "الثوابت" و "البديهيات". ولذلك نجد عنوان "ماذا حدث للمصريين" يتكرر بكثافة فى السنوات الأخيرة ويتناول "تحولات "المصريين من زوايا متعددة... سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. *** و"عسل اسود" هو احد هذه المحاولات لرؤية وجوهنا فى المرآة دون خجل ودون عمليات تجميل أو علميات تشويه. لكن هل ينتهى بنا الحال بعد أن فشلنا – حتى الآن – فى انتزاع إصلاحات جوهرية، مثل تعديل الدستور أو قانون مباشرة الحقوق السياسية ونظام الانتخابات.. إلى مجرد المطالبة بتحسين مستوى العسل.. حتى لو كان هذا العسل أسود من قرون الخروب؟!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الغاز تحتاج إلي حل .. القمة الرابعة عشرة للمجموعة الخمسة عشر
-
قمة مهمة.. لكن الكرة أهم (1)
-
-تهميش- مصر فى أفريقيا وآسيا .. وبلاد كانت تركب الأفيال
-
الفساد فى محاربة الفساد
-
وصف سيناء : (1)
-
وصف سيناء : (2)
-
صرخة احتجاج من قلب الصعيد الجوانى
-
اقتراح عملي للإبقاء علي »حرارة« المعدات التليفونية
-
يحدث فى العالم العربى فقط: الانتخابات تغتال الديموقراطية!
-
صدمة الحقيقة.. في شرم الشيخ
-
داوستاشي.. بدون تعليق
-
... حتى التصوف.. بقرار جمهوري!
-
هل يتجه الاقتصاد العالم إل »التدمير الخلاق«؟!
-
-شهادة- إنسان مصرى بدرجة قاضى دولى:كيان الجماعة المصرية مهدد
...
-
»المستنير »دادا«.. في قلب العتمة
-
كل هذا العبث.. من أجل انتخاب -نصف رئيس-؟!
-
فيروس التفكك .. الزاحف على ضفاف النيل
-
»رسائل البحر«.. في مرسي مطروح
-
سلامتك .. يا وطن
-
العلم يا ناس!!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|