|
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 2
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 921 - 2004 / 8 / 10 - 09:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقاربة لمانيفستو الليبراليين الجدد في المقال الأول تناولنا النقاط الست الأولي من مانيفستو الليبراليين الجدد، والمتعلقة بمراجعة موقفنا من المقدس، وكان لا بد من تلك البداية لإمكان الشروع في التحول من المناخ والنظم الشمولية، وما تفرضه من تواكل وقدرية، وقهر وخنوع، تلعب فيه فئة قليلة دور خلفاء الله في الأرض، فيما تقوم الأكثرية الكاسحة من الشعب بدور المتلقي السلبي، والتابع الصاغر، والمتلهف على استفتاء الكبار العارفين في كل ما يعن لهم من أسئلة، وما يصادفهم من إشكاليات، بدءاً من آداب دخول المرحاض، حتى أخطر القضايا المصيرية. المحطة التالية في مسيرة التحول الليبرالي، والتي تعتبر مع سابقتها مرحلة التمهيد، أو حرث الحقل وتسويته، استعداداً لعملية البناء الليبرالي أو الاستزراع، تضم خمس نقاط تشكل موقفنا من الماضي، والحقيقة أن موقفنا الحالي كشعوب شرقية من الماضي مرتبط ارتباطاً عضوياً بموقفنا من المقدس، أو هو جزء منه، ويعود بجذورة إلى ذات العمق السحيق في تاريخ الإنسانية، فقد بدأ الإنسان الأول بعبادة قوى الطبيعة التي يخشاها، ثم عبادة الحيوانات، ومع تكوينه للمجتمعات بدأ معبوده الحيواني يأخذ مفهوم الطوطم كرمز للجماعة، وتطور ليصبح جدها وأصل سلالتها، ومع التطور صارت الجماعات تنتمي إلى جد خليط من الطوطم والإنسان، لتبدأ مرحلة عبادة الأسلاف، المستمرة بدرجة أو بأخرى، تبعاً للمراحل الحضارية التي تمر بها الشعوب، ورغم أن الظاهر من الأدبيات الدينية هو أن عبادة الأسلاف قد أخلت مواقعها لحساب الإله المتسامي، إلا أننا نجد مثلاً يهوه إله إسرائيل يتسمى باسم الأسلاف، فيقول "أنا إله إبراهيم واسحق ويعقوب"، وإذا كنا نفهم هذه العبارة الآن على أنها تكريم لهؤلاء البطاركة العظام، فإن هذا ما وصلت إليه الأمور، لكن من الواضح أن البداية كانت عكس ذلك، وتركيز التدين الشعبي حالياً على الاهتمام بأولياء الله وبالقديسين، هو الجزء الذي استعصى على الزوال من ميراث عبادة الأسلاف. ينعكس هذا على المناخ الثقافي، الذي يصبغ الممارسات الحياتية، ويصوغ المفاهيم والقيم، ويظهر بصورة بارزة في مجالين: · التمسك بعادات وتقاليد وأخلاق الأباء والأجداد، واعتبارها معيار الخطأ والصواب، وقد كان هذا العامل عبر التاريخ العائق الأكبر أمام دعاة الإصلاح، سواء الأنبياء، أم المصلحين العلمانيين، فقد كان من الصعب على الناس دائماً أن تعتنق ما يخالف ما سار علية آباؤهم وأجدادهم. · اعتبار هوية الفرد والمجتمعات تكمن في الماضي، ومقياس الأصالة للحاضر هو مدى اقترابه أو بعده عن مواصفات الماضي، ليكون تبرير الحاضر هو أنه مشتق من الماضي أو امتداد له، ويكون الإبداع محل اتهام إلى أن يتصدى للدفاع عنه من يستطيع التحايل لإيجاد علاقة ما بينه وبين الماضي، حتى على نطاق من يحسبون على أهل الفكر، نجد مفكراً مثل زكي نجيب محمود يخترع قضية الأصالة والمعاصرة، في محاولة تلفيقية ليجمع بها ما لا يجتمع.
يحتاج منا الماضي أيضاً أن نضعه في مكانه الصحيح: · التقدير العلمي لما أنجزه الأوائل، وفق سياق زمانهم ودرجة تطوره الحضاري، في مسيرة تتجه بصفة عامة نحو الأفضل، رغم ما قد يتخللها من انكسارات وانتكاسات. · المراجعة النقدية للماضي، لاكتشاف ما قد يمت من عناصر الخلل في الحاضر إلى ميراث الماضي، ومحاولة استخلاص الدروس حرصاً على أن لا يعيد التاريخ نفسه، لأن التكرار في مسيرة الإنسانية لا يمكن إلا أن يكون وبالاً وتقهقراً حضارياً، مهما بدا الأمر عكس ذلك. · اعتبار الهوية في مقابل الماضي، أي في المستقبل، باعتبارها الممكن الذي لم يظهر بعد في حياة الإنسان وفي التاريخ، كما في المفهوم الهيجلي، بحيث يكون الاقتراب أو التشابه مع الماضي مؤشراً سلبياً، يدل على انتقاص تحقيق الممكن أي انتقاص من الهوية، أو الأصالة. لكن المسألة في الحقيقة لها بعد آخر غير التقديس التاريخي المتوارث للماضي، ويتعلق بالحاضر، وهو ما جاء في النقطة التاسعة من المانيفستو وتقول: إن ضعفنا، وهزالنا، وقلة معرفتنا، وعجزنا العلمي والعقلاني هو الذي يؤدي بنا إلى الاتجاه إلى الماضي للاستعانة به لبناء الحاضر، أرى أن المقصود بضعفنا وهزالنا هنا الجانب النفسي وليس المادي، عدم الثقة بالنفس، فالفقر المادي والعلمي ليس سبباً، ولكنه نتيجة لعدم الثقة بالنفس، الذي يدفع للجوء دائماً للماضي للسير على هداه، خوفاً من الانحراف لطريق جديد مجهول، وخوفاً من تحمل مسئولية هذا الطريق، أما حين نقتدي بالأجداد فلا مسئولية علينا، وبالتالي فنحن لا نحتاج لأكثر من شيخ عارف يخبرنا ماذا نفعل، من واقع حكمته ودرايته بعلم وتقاليد الأجداد، ومن هنا يتسلل خلسة وعلى استحياء قبس واهن من التطور تفرضه الحياة، حين يوائم الشيخ العارف في فتاواه بين حكمة الأجداد وواقع الحياة المتغير، وغالباً ما يفعل هذا دون أن ينتبه أنه يقوم بعملية تطوير، وأنه لا يضع أقدامه تماماً على آثار أقدام الأجداد المطبوعة على الصخور العتيقة، وبتراكم تلك التغيرات البسيطة على مدى مئات وآلاف السنين نجد أننا قد تحركنا قليلاً للأمام، فالسلحفاة ليست صخرة ملقاة على الرمال، لأنها غير فاقدة للحركة تماماً، وإذا كان ما نستنتجه صحيحاً، من أن عجزنا وضعفنا يرجع لأساس نفسي من عدم الثقة بالنفس، فإن الأمر سيكون معضلة كبرى، إذا ما حاولنا البحث عن حل للإشكالية. أما من الناحية العقلية فإن نظرتنا للماضي لمحاولة استنطاقه بحلول لمشاكلنا يشوبها: · نزع أفكار الماضي مصحوبة بتطبيقاتها العملية من سياقها، لإقحامها على سياق جديد مختلف تماماً، وذلك فيما يتعلق بقيم إنسانية أساسية، كانت صالحة في الماضي وستظل كذلك إلى الأبد، كالمحبة والعدالة وحماية الضعيف، مثال النظر لفائدة المال في البنوك على أنها ربا محرم، وقد كانت مستهجنة وفق اقتصاديات العالم القديم، وحرمتها الأديان بصفتها استنزاف للفقراء، وهو السياق المختلف تماماً عن اقتصاديات الحاضر، والذي يعتمد على الادخار والقروض لإقامة المشروعات الاستثمارية الكبرى، أو الصغرى. · نظرتنا إلى الزمن كأنه مجرد تراكم كمي، سواء في الأيام والسنين، أو في البشر واحتياجاتهم المادية، ويغيب عنها ما يصاحب هذا التراكم الكمي من تغير كيفي، في طبيعة البشر والأشياء، وبالتالي في طبيعة العلاقات، بما يعني عدم صلاحية الماضي لأن يكون خزانة للحكمة الصالحة للاستخدام في الحاضر، كمثال التعامل مع المرأة، فالمرأة حالياً، تكاد لا تمت بصلة من الناحية الكيفية للمرأة قديماً، وقد كانت مجرد جسد للمتعة والإنجاب - هذا إن كانت فعلاً كذلك في يوم ما - وكما يريد خفافيش الظلام أن يعيدوها. هذا عن الماضي بوجه عام، وعن النظرة الصحيحة له، أي النظرة التي لا تجعل الحاضر أسيراً له، بل العكس، وهو أن نكرس جهودنا للإفلات من قيوده، نكسر صدفته، ليخرج منها فرخ الغد، يتنفس هواء جديداً نقياٌ، أما عن التخصيص، فيما يتعلق بماضينا نحن أبناء الشرق، فالكلام يثير الشجون، فالنقطة الثامنة من المانيفستو تقول: ماضينا وتراثنا الثقافي أقام مجزرة معرفية لنفسه بنفسه، وعادى الفلسفة بقيادة ابن تيمية والسيوطي وابن القيم الجوزية وغيرهم، وطرد العقل، واضطهد المعتزلة، وأغلق باب الاجتهاد، وحرّم علم الكلام، ونفى أصحاب المنطق، ووضع النصوص الدينية المزوّرة التي تحارب الفلسفة والحكمة وإعمال العقل (من تمنطق فقد تزندق)، وألغى العلوم الطبيعة والطب واعتبرها "علوماً دخيلة"، واستبدل بها العلوم الدينية والطب النبوي وحرّم الموسيقا والغناء والنحت والرسم والشعر، وكافة أشكال الفنون الإنسانية الرفيعة. فكيف يمكن الاستعانة بهذا الماضي للعبور من الحاضر إلى المستقبل؟ بمراجعة موقفنا من المقدس، وموقفنا من الماضي، نكون قد مهدنا الأرض لإقامة البناء الحضاري الليبرالي، الذي تتصدى له مسودة مانيفستو الليبراليين الجدد، ونناقشه لاحقاً.
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليبرالية الجديدة وفضاء يتشكل 1
-
الفاشيون الجدد والتانجو الأخير
-
الفاشيون الجدد ودموع التماسيح
-
- أثداء الصبار- قصة قصيرة
-
خربشات على جدار مفترض - كتابة عبر النوعية
-
الشيخ وهالة الصبح - قصة قصيرة
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 3/3
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 2/3
-
مركزية الكلمة وأزمة الخطاب الشرقي 1/3
-
نحن وأمريكا الجزء الثالث
-
نحن وأمريكا الجزء الثاني
-
نحن وأمريكا الجزء الأول
-
الفاشيون الجدد والاقتداء بمقتدى
المزيد.....
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|