|
تأملات - في رسائل ماركس الى كوغلمان (2)
رضا الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 3021 - 2010 / 6 / 1 - 22:37
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
هذه التأملات مواصلة للعودة الى ينابيع فكرنا وتاريخنا، بعيداً عن "سرير بروكوست"، الذي يعجز البعض، جهلاً أو قصداً، عن التخلي عنه، وقريباً من مسعى الاستفادة من منهجية ودلالة تقييم ماركس لكومونة باريس، وخبرة المواقف الواقعية وتطبيقاتها الممكنة في الظرف الملموس، ومرة أخرى استناداً الى مقدمة لينين الهامة للترجمة الروسية لرسائل ماركس الى كوغلمان. من المعروف أن ماركس حذر، في رسالة شهيرة وجهها باسم الأممية، العمال الفرنسيين صراحة وبوضوح قائلاً "إن الانتفاضة ستكون ضرباً من الجنون". ولكن ماذا كان موقف ماركس عندما بدأ هذا المسعى اليائس يتحقق في آذار 1871 (كما قال في رسالته في أيلول 1870) ؟ هل استغل المناسبة، كما فعل "ماركسيون آخرون" اتخذوا موقف المثقفين النادمين في أحداث كانون الأول 1905 في روسيا، لمجرد إذلال خصومه البرودونيين والبلانكيين الذين قادوا الكومونة ؟ وهل بات أسير الجزع والتذمر والتشوش، ليوجه، كما فعل بعض "ماركسيي" روسيا مع مكافحي كانون الأول، تلك التوصية التي تشبه توصية تافه ضيق الأفق، راضٍ عن نفسه: "لم يكن ينبغي حمل السلاح" ؟ كلا، ففي نيسان 1871 كتب ماركس الى كوغلمان رسالة زاخرة بالحماسة، "رسالة نكون سعداء لو علقناها في بيت كل اشتراكي ديمقراطي روسي، في بيت كل عامل روسي يعرف القراءة"، حسب تعبير لينين. إننا لنرى، هنا، أعمق المفكرين، وقد تنبأ بالفشل قبل ستة أشهر، ينحني أمام مبادرة الجماهير التاريخية، بينما نرى في المقابل تصريح "ثوري" متحذلق يزعم أنه "لم يكن ينبغي حمل السلاح !". وبوصفه مشاركاً في نضال الجماهير، ومتتبعاً لمراحله بكل الحمية والحماسة اللتين اتصف بهما، أخذ ماركس ينتقد من منفاه في لندن، الأعمال المباشرة التي يقوم بها الباريسيون "الجريئون حتى الجنون"، "المستعدون لاقتحام السماء". لقد عرف ماركس كيف يحذر القادة من انتفاضة مبكرة. ولكنه وقف من البروليتاريا التي تقتحم السماء موقف مستشار عملي، موقف امريء يشارك في نضال الجماهير التي ترفع الحركة برمتها الى درجة عليا، على الرغم من نظريات وممارسات بلانكي وبرودون الخاطئة. وكتب ماركس في رسالته الى كوغلمان في 12 نيسان 1871 إنه "مهما يكن من أمر، فان الانتفاضة الباريسية، حتى ولو قضى عليها ذئاب المجتمع القديم وخنازيره وكلابه السافلة، هي أمجد مأثرة قام بها حزبنا منذ انتفاضة حزيران". ولم يخف ماركس عن البروليتاريا خطأ واحداً من أخطاء الكومونة، بل كرس لهذه المأثرة مؤلفه الهام (الحرب الأهلية في فرنسا) الذي مايزال، حتى الآن، مرشداً في النضال "من أجل "اقتحام السماء"، وأرعب بعبع "للخنازير" الليبراليين والراديكاليين". ومن المحتمل أن يكون كوغلمان قد أعرب في جوابه الى ماركس عن بعض الشكوك، مشيراً الى أن القضية يائسة، والى ضرورة التمسك بالواقعية لا بالرومانتيكية، مقللاً من شأن ودلالات وتأثيرات الانتفاضة الباريسية. وسرعان ما وجه ماركس (في 17 نيسان 1871) تأنيباً قاسياً الى كوغلمان قال فيه: "قد يكون من السهل جداً صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتماً الى النجاح". وهكذا ففي أيلول 1870 قال ماركس عن الانتفاضة إنها ستكون ضرباً من الجنون، ولكن حين ثارت الجماهير اختار ماركس أن يسير معها، وأن يتعلم منها في غمرة النضال، لا أن يلقي مواعظ بيروقراطية. وقد أدرك أن كل محاولة يراد منها مسبقاً تقدير نجاحات النضال بدقة تامة ستكون ضرباً من التدجيل أو ضرباً من الادعاء الفارغ الذي لا شفاء منه. ونظر ماركس الى هذا التاريخ من وجهة نظر أولئك الذين يصنعونه، دون أن تتاح امكانية تخمين احتمالات النجاح مسبقاً بلا أي خطأ، لا من وجهة نظر مثقف تافه ضيق الأفق يلقي المواعظ الأخلاقية: "كان من السهل التنبؤ ... لم يكن ينبغي المجازفة ...". * * * عرف ماركس أن يرى أنه لابد من كفاح ضارٍ تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ حتى في سبيل قضية يائسة، وذلك من أجل تثقيف الجماهير نفسها في مابعد، ومن أجل إعدادها لجولات الكفاح اللاحقة. وقيم ماركس هذه التجربة الفريدة على نحو في غاية الدقة والواقعية والأمل بالمستقبل، دون أن ينسى أبداً أنه، هو نفسه، أقر، في أيلول 1870، أن الانتفاضة ستكون "ضرباً من الجنون". فقد كتب في رسالته الى كوغلمان في 17 نيسان 1871 يقول "إن الأوباش البرجوازيين الفرساليين وضعوا الباريسيين أمام أمرين لا ثالث لهما: إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة. ولو تمت الحالة الأخيرة لكان تفسخ معنويات الطبقة العاملة كارثة أعظم بكثير من خسارة أي عدد كان من الزعماء". بوسعنا أن نختتم هذه الاضاءة الوجيزة عما قدمه الينا ماركس في رسائله الى كوغلمان من دروس بليغة، مستعيرين موقف لينين، ومكيّفينه لواقعنا الملموس الراهن، فنقول، عن حق وفخر: إن الشيوعيين العراقيين أثبتوا، مرة أخرى، وسيثبتون غير مرة، أيضاً، أنهم قادرون على "اقتحام السماء" !
#رضا_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات - في رسائل ماركس الى كوغلمان (1)
-
تأملات - ليس بالبرلمان وحده !
-
تأملات - بِمَ نبدأ ؟
-
تأملات - جوهر الصراع لم يتغير
-
تأملات - ننهض وسط الناس بانطلاق جديد
-
تأملات - سخط نستثمره وضفاف نسعى إليها
-
تأملات - في إضاءة الواقع الموضوعي
-
تأملات - في مديح نقد الذات
-
تأملات - تزييف الوعي
-
تأملات - توازن التقييم
-
تأملات - التباس المحاصصة مرة أخرى !
-
تأملات - لا يريدون للأجراس أن تقرع !
-
تأملات - غياب المصداقية .. إخفاق الوعود
-
تأملات - في نفق التنافس الانتخابي
-
تأملات - منعطف سياسي حاسم
-
تأملات - ذاكرة لا تشفى وعدالة مشبوهة !
-
تأملات - تحت خط الفقر . . ما بين النهرين !
-
تأملات - مرتجاهنّ الحرية في حدائق النور !
-
تأملات - ننحت في حجر .. هذا هو مجدنا !
-
تأملات -ثقافات جديدة- بينها الترقيع !
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|