|
يقظة ابن سينا- حكمة الشفاء والنجاة!
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3018 - 2010 / 5 / 29 - 10:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ابن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي (980-1036). كان أبوه من أهل بلخ وأمه من قرى بخارى. ونشأ في عائلة محبة للمعرفة والعلم والرياسة، وتعتنق الفكرة الإسماعيلية. ورغم اعتراف ابن سينا نفسه بعدم استساغته لما كان يقوله أباه وإخوته عن أفضلية الفكرة الإسماعيلية، إلا انه تأثر بنزوعها العقلي الصارم وروحانيتها الباطنية ونزوعها العملي السياسي. ومن ثم لم يكن المقصود بعدم قبوله ما يقولونه معارضة للفكرة الإسماعيلية بحد ذاتها، بقدر ما هو مؤشر على استقلاله الفكري المبكر وفطرته الحرة في البحث عن الحقيقة، كما نعثر عليه في مجرى حياته ككل. إذ استطاع أن يتجرد للبحث الفلسفي في وقت مبكر بعد اطلاعه على أوليات المعارف (اللغة العربية والقرآن والفقه والأدب). ومنهما تراكمت معالم شخصيته، بوصفها احد النماذج الرفيعة للفردية المتسامية في البحث عن الحقيقة وتأسيس الأفكار. وقد أشار هو في معرض حديثه عن نفسه بولعه المبكر في الفلسفة وإتقانه مختلف علومها. وكتب بهذا الصدد عن إحدى سنواته المبكرة عندما اختلى لدراسة الفلسفة قبل الثامنة عشر يقول:"ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره. فكل حجة كنت انظر فيها اثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور. ثم نظرت فيما عساها أن تنتج، وراعيت شروط مقدماتها حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسالة. وكنت كلما أتحير في مسألة ولم أكن اظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكلّ، حتى فتح لي المنغلق وتيسر المتعسر". وتشير هذه الحالة إلى هموم البحث والحيرة والاكتشاف التي لازمته مدى الحياة. فنراه يكتب عن مرحلة متأخرة من حياته يقول فيها "كنت ارجع بالليل إلى داري واضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي. ثم ارجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نوم احلم بتلك المسائل بعينها، حتى أن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام". بعبارة أخرى، لقد كانت حياة ابن سينا إبداع في اليقظة والمنام. إذ تلازم هذه الدورة هموم البحث عن الحق والحقيقة ما لم تبلغ حالة اليقين. وقد تكون علاقته المتقلبة الأولى بالفلسفة، وبالأخص في عذاب وعذوبة اللقاء بأرسطو إحدى الصور الرمزية لذلك. إذ يروي لنا ابن سينا كيف انه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يستطيع فك رموزه. بحيث قرأه حولي أربعين مرة ولكن دون جدوى. مما جعله ييأس من إمكانية إتقان العلم الفلسفي، قبل أن يحصل عن طريق الصدفة على شرح الفارابي له. وهي قصة طريفة يرويها ابن سينا بالشكل التالي "في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه عليه فرددته رد متبرم، معتقد أن لا فائدة من هذا العلم. فقال لي:اشتر مني هذا فانه رخيص ابيعكه بثلاث دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه! واشتريته منه فهو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته. فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب انه كان لي محفوظا على ظهر قلب". أما حياته اللاحقة فقد كانت سريان بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. حيث اشتغل في مختلف ميادين العلوم الفلسفية والطبيعية وكذلك في خدمة الأمراء والملوك والسلاطين. بل وشغل مرة وظيفة وزير في بلاط الأمير شمس الدولة، تعرض بأثر تمرد الجند عليه إلى السجن ومصادرة كل ما يمتلكه ومطالبة الجند بقتله. غير أن استبدال القتل بالنفي قد مدد ما أسميته بسريان حياته بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. فقد عاد بقدر واحد إلى مزاولة مختلف العلوم والأعمال، وبالقدر ذاته التمتع بحياته الشخصية على قدر ما فيه من قوى الروح والجسد. فقد صوره تلميذه الشهرزوري بالعبارة التالية:"كان الشيخ قوي القوى كلها. وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى واغلب. وكان كثيرا ما يشتغل بها فأثر في مزاجه. وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه" في الحياة والعمل. وهي صورة دقيقة عن شخصيته وحياته، بمعنى العمل المتفاني في مختلف ميادين الحياة والعلوم، والتنقل بين الأمراء والعامة، والمزاوجة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة بوصفه طبيب الروح والجسد. ووجدت هذه المزاوجة تعبيرها الخاص في أشهر مؤلفاته - (الشفاء) و(النجاة)، دون أن تحرره من أمراض الجسد ولحظات الهلاك القاتلة للروح. وواجه هذه الحالة أواخر حياته وانتهت بمماته. فقد أصيب آخر حياته بالقولنج. وكان يعالج نفسه بنفسه دون كلل. غير انه وقف في نهاية المطاف أمام خاتمته بقوته المعهودة. إذ تروي لنا ككتب التاريخ والسير عن أن مدينة (همدان كانت آخر محطة من حياته، بعد أن أحس بانهيار قوته وأنها لا تفي بدفع المرض عنه. عندها أهمل مداواة نفسه واخذ يقول:"المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير. والآن فلا تنفع المعالجة". ويقال أن سبب موته هو وضع كمية من الأفيون كبيرة في مأكله من جانب الخدم بسبب خيانتهم إياه في سرقة أمواله من اجل التخلص منه! ومهما يكن من آمر هذه الخاتمة، فإنها ظلت تأرجح في ذاكرة الثقافة وذكرى الأعداء بقدر واحد. بمعنى رؤية كل منهما على قدر ما فيه. فقد قال عنه البعض: رأيت ابن سينا يعادي الرجـال وبالحبس مـات أخس الممـات فلم يشـف مـا ناله بالشفــا ولـم ينج من مـوته بالمنجيات ويقصد بذلك كتاب (الشفاء) و(النجاة). وهي صيغة التشفي المعهودة لصغار العقول وموت القلوب. أما حقيقة ابن سينا فإنها تتضافر في وحدة شخصيته وإبداعه العلمي والعملي من اجل تأسيس مهمات شفاء الجسد ونجاة الروح، بوصفها مهمات بلوغ الحكمة الإنسانية. وليس رسالة (حي بن يقظان) سوى إحدى الصيغ الرمزية لأحد نماذج الحوار الأبدي بين العقل والغريزة، في سعيه لتأسيس مهمة الشفاء والنجاة بسيادة العقل، بوصفه المدبر الأول لكل شيء. فقد كتب ابن سينا رسالته الرمزية الصغيرة هذه وهو في السجن، يتأمل من كوة المعتقل في القلعة خيوط الأمل المغرية التي تلازم العقول الجريئة في منعطفات الحياة ودهاليزها. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سينا إلى إحدى الأفكار العميقة التي وضعها في صلب مواقفه الحياتية والعلمية عندما قال، بان كل ما يصعب البرهان عليه يمكن رميه في حيز الإمكان! عندها يصبح العمل والأمل شيئا واحدا، أي يقظة أبدية وجدت تعبيرها في رسالة (حي بن يقظان). ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحكمة الكونية وقصة اليقظة الفلسفية
-
شخصية ومصير - حنين بن اسحق العبادي
-
شخصية ومصير - فرقد السبخي
-
شخصية ومصير - ثابت البناني
-
شخصية ومصير - عبد الرحمن بن عوف
-
حركة الوصفاء – نموذج التمرد الروحي والسياسي
-
شخصية ومصير - الزهري.
-
مفترق التطور أو التدهور العراقي
-
أوهام الزمن -المقدس- وأحلام التاريخ الفعلي في العراق
-
العراق وإشكالية الزمن والتاريخ
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(2-2)!
-
أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(1-2)!
-
شخصية ومصير- محمد بن سيرين البصري.
-
التشيع وظاهرة السمو الروحي للشخصية العلوية (2-2)
-
التشيع وظاهرة السمو الروحي للشخصية العلوية (1-2)
-
الحلاج: فلسفة الفردانية المتسامية
-
النفرّي وفلسفة الموقف
-
المثال والحقيقة في الشخصية المحمدية – التاريخ والمقدس
-
المثال والحقيقة في الشخصية المحمدية – من الغزالي حتى المعاصر
...
-
الشخصية المحمدية في الفكر اللاهوتي والفلسفي الإسلامي
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|