هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 23 - 20:31
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
لا يمكن للباحث الموضوعي, في مسألة الاجانب والمهاجرين المقيمين في فرنسا ــ اقامة دائمة او مؤقتة, شرعية او غير شرعية ــ في ظل مفهوم الحريات وحقوق الانسان المتعلقة بهؤلاء, ان يخرج بنتيجة كافية لإشباع بحثه ان عمل وحيدا, وصب جهوده على ناحية واحدة, او تعرض بعجالة لعنصر أو أكثر من العناصر المتشابكة والمترابطة والمعقدة, بطريقة العزل و"التجميد" باسم الموضوعية.
مثل هذه المسألة تتطلب دراسات تاريخية منصفة في الهجرة واسبابها ونتائجها. دراسات اجتماعية ونفسية في تكوين المهاجرين والاجانب الذين هم من بلدان مختلفة الاديان والثقافات. دراسات في كيفية التعايش بين حملة هذه الثقافات و الاديان , والعادات والتقاليد, وأثر ما هو جديد عليهم وعلى مفاهيمهم وقيمهم. دراسات في اوضاعهم الاقتصادية. وفي انماط التعليم وسياساته. والتربية المغروسة في نفوسهم وعواطفهم وعقولهم, وما انتقل معهم من الموروث واستقر حيث استقروا. وفي طبيعة الانظمة السياسية التي قادت لمغادرتهم لبلدانهم. وسياسات البلدان المستقبلة لهم, ومدى قابلية مجتمعاتها للقبول بهم ودرجات هذا القبول. دراسات في القوانين التي تحاول تنظيم علاقات هؤلاء بالمجتمع الجديد وتنظيم علاقات الاجانب فيما بينهم , وبمحل اقامتهم الجديد وبأفراده وتنظيماته. وفي قانون دخول واقامة الاجانب ومدى مراعاته للحريات الفردية والعامة وحقوق الانسان. وتحديد الواجبات دون شطط. دراسات في المستوى المادي والثقافي في بلدان المهجر ونوعيته , واثره على سياسات الادماج او التماثل او "الاندماج" التي تطرح بين فترة واخرى من جانب واحد وبالمناسبات. وفي اسباب المواقف العنصرية وكراهية الاجانب. وكراهية فئات من الاجانب لهؤلاء. اي الكراهية المتبادلة. ودراسات في اسباب التدخل والتوجيه من الخارج لهذه الفئات ومدى قبوله وفاعليته.
يتطلب هذا كله حلقات دراسات ومتابعة دائمة يساهم فيها المتخصصون في مجالاتهم المتعددة, وتضم اصحاب العلاقة انفسهم... فالموضع متعلق بالعنصر البشري بكل ابعاده. وليس بمجرد تنظيم مؤقت لعلاقات متحولة بتحول السياسة والتغيرات الاقتصادية والامنية.
هذا الجانب الانساني رغم انه هو الرقم الصعب في مسألة الهجرة والمهاجرين والاجانب والمتجنسين, هو الاقل اهتماما به حين وضع سياسات الهجرة من قبل الدول المستقبلة, واخذ بعض العلم بها من الدول الطاردة لمواطنيها المتكسّبة على حساب اوضاعهم وظروفهم وانسانيتهم.
ومع ذلك فان هذا لا يمنعنا, كما لا يعفينا, من مساهمة سريعة مقتصرة فقط على الاشارة لتنظيم اقامة الاجانب في فرنسا في ظل الحريات العامة وتطورها وحقوق الانسان, حقوق الانسان التي تبقى مجرد شعارات ــ كالشعارات العربية المتهالكة لفراغ محتواها, والمتشبثة بالبقاء رغم سقوطها الفعلي بالتقادم ــ ان لم تشمل الانسان المغترب والمهاجر. هذه الحقوق المتحركة بتأثير البناء الاوروبي, والمتراجعة في مواد حقوق الاجانب والمغتربين, تحت نفس التأثير.
جرت العادة ان تثور ثائرة بعض الاجانب, من العرب والمسلمين بشكل خاص, عندما يصار الى تنظيم او اعادة تنظيم وضع قانوني معين, قد يكون من ورائه اصلاحا فيه فائدة للأجنبي وللمهاجر وللفرنسي. او قد يكون عكس ذلك, فيه مساس بحريات وحقوق هؤلاء جميعا, ناتج عن مواقف سياسية ومزاودات ومصالح انتخابية , خاصة من اتباع اليمين المتطرف وامتداداته. وفي كلا الحالين تكون الثائرة عشوائية وذات نتائج عكسية لما ثارت من اجله.
في غياب التنظيم السياسي والاجتماعي للأجانب والمهاجرين والمتجنسين, رغم الكم العددي الكبير, وعدم دخولهم المجالات السياسية بتنظيم احزاب وجمعيات مجتمع مدنيي مفتوحة, أو المشاركة في القائم منها, سيبقي هؤلاء في حالة انعدام وزن دائم.
غالبية جمعيات المجتمع المدني المكونة من الاجانب والمهاجرين والفرنسيين من اصول أجنبية لا تأخذ بالاعتبار الا المصلحة الضيقة للفئات المكونة لها . وكثيرا ما تتنافس وتتصارع فيما بينها لتعصب منتسبيها لأصولهم في بلدانهم الاصلية ولمفاهيم دينية وسياسية ضيقة... مثل تلك الجمعيات لا تأخذ أبعادا وطنية تهم الوطن الذي يقيمون فيه. وانما يحدث العكس احيانا, حيث يجري التنكر للمصالح الوطنية واحيانا معادتها.
التركيز على الخصوصية المتعلقة بشخصية الانسان ومعتقداته, غير المنفصلة عن حقوقه الاساسية , لا تنازع فيه غالبية الفرنسيين, وتعتبره حقا للأقليات وغنى للمجتمع بأكمله وتشجع على التعريف بهذه الخصوصية بكل الوسائل القانونية وعلى احترامها. (قليل من الفرنسيين لا يتحدث عن المأكولات العربية والصينية والهندية والفيتنامية , والكثير الكثير يشارك في المهرجانات والاحتفالات, على ندرتها, التي يقيمها من هم من اصول اجنبية . والكثير على اطلاع كبير على الحضارة العربية والاسلامية, وعلى معرفة بأصول وتكوين شعوب منطقتنا قديما وحديثا. و منهم من يتحدث لغتنا, والاكثر الاكثر يتأسف لوقعنا الحالي وافرازاته .).
لكن المنازع فيه هو التعصب الاعمى للبالي من الافكار والعادات والتقاليد المقدمة على انها خصوصية, والمتعارضة والمضرة بأصحابها بمثل ضررها للمجتمع كاملا, والمعبر عنها بأساليب غير حضارية , تصل احيانا الى مخالفات خطيرة للقوانين والانظمة المرعية. التصرفات باسم "الخصوصية" هذه هو ما يعاديه الواعون من الاجانب والمهاجرين وحملة الجنسيات الفرنسية من اصول اجنبية مثل معاداة واستهجان المواطنين الفرنسيين بكافة توجهاتهم. في هذه "الخصوصية " اعتداء على حريات الاخرين من اصحاب البلاد الاصليين, وعلى قيمهم, ومفاهيمهم, وثقافاتهم, واصول حضارتهم.
لم يحاول الاجانب والمهاجرون وغالبية حملة الجنسية الفرنسية من اصول اجنبية, عربية ومسلمة بشكل خاص, وضع لبنة واحدة تحسب لهم في البناء الديمقراطي الذي يحميهم ويحمي حقوقهم, وتقديم اضافة ايجابية بناءة من خصوصياتهم الى خصوصيات الاخرين. وانما على عكس ذلك يكفر بعضهم بالديمقراطية نفسها كمفهوم غير ملائم لما يحملونه من افكار يعتبرونها مغايرة لمفاهيمهم واصول دينهم. ولا أحد يحاسبهم على هذه الكراهية ما لم تتجسد في افعال مُجرّمة ومعاقب عليها بالقانون.
كثيرا ما يستفتي هؤلاء "علماء" او اخرين "ضالعين في العلوم الدينية والدنيوية بأنواعها" في بلدانهم الاصل , لينظموا لهم شؤون حياته الخاصة والعامة في بلدان المهجر وليتصرفوا بموجبها وعلى هديها.
وكثيرا ما تأتي الفتاوى والنصائح والارشادات مخالفة لقيم وقوانين بلد الاقامة , مما يتسبب في زيادة عزل هؤلاء لأنفسهم عن غيرهم ممن جاورهم في السكن, وفي العمل, وفي المدرسة والجامعة ..عزلة تنمي الكراهية وعدم الثقة وعدم الوفاء لبلد يعيشون فيه ويتمسكون بكل الوسائل للبقاء على ارضه. كما تذكي روح عدم احترام قوانين وانظمه هذا البلد, باعتبارها قوانين وضعية غير صالحة لهم, وبالتالي ان لزم الخضوع لها فليكن من باب التقية, وليس من واجب احترام القوانين والرضاء بأحكامها عن حسن نية وطوية, وطيبة خاطر, ولا عن شعور بالمسؤولية والمواطنية, أو حتى بالتضامن الصادق مع من يشاركونهم الحياة على اقليم يحتاج للجميع ومفتوح للجميع.
هؤلاء الناصحون والموجهون هم ممن يجهلون كليا النظم الاجتماعية والسياسة والاقتصادية, والحركة والجدلية في المجتمعات الليبرالية الصناعية, والعلوم الحديثة والمتطورة في كل المجالات والمفتوحة على العولمة والاتصال والتواصل, والقيم السائدة والعادات والتقاليد التي تفرزها كنتائج طبيعية لهذه الحركة و الانفتاح والتطور. و يجهلون الاساليب الديمقراطية في العلاقات واصول المعاملات والتعامل, والحوار الحضاري, وحرية الفرد وامكانياته, ومسؤولياته في اتخاذ القرار.
لا يقدّر هؤلاء النتائج الخطيرة لنصائحهم على حياة ومصير بعض الاجانب والمهاجرين والمجنسين ممن ارتبطت حياتهم كليا وحياة ابنائهم واحفادهم بالمجتمعات التي يقيمون فيها باختيارهم رغم كل شيء. ولا معنى التحريض على معادة المحيط او الوقوف بسلبية منه. ولا خطورة فتح هوة قد لا يستطاع ردمها دون اضرار كبيرة بمن يقف على طرفيها.
وكثيرا ما ترتب على ذلك بعض الهوس في إشهار التمايز واعلان الاختلاف عن غالبية مكونات المجتمعات المتواجدين فيها. اشهار وتمايز ليس بابتكار علوم او آداب او فلسفات او فنون, وانما يتمثل في البسة, وفي اقوال واعمال ومواقف تعبر علنا عن رفض ما حولهم. ورفض اعم واوسع للانسجام في مجتمع اختاروا واصروا على العيش والبقاء فيه والحصول على اقامات دائمة, او جنسيات مكونيه.
صرح بعض من يريد اشهار التمايز باللباس وحده, بانهم حققوا نصرا للإسلام في هذه الدولة الاوربية او تلك ضد الحملات الصليبية الموجهة ضده. نصر بان جعلوا العالم باسره يتحدث عنه. ولكن لم يتساءل احد منهم عن طبيعة هذا الحديث. ولا عن اذا كان "النصر المبين المحقق" هو نصر شخصي لهم بفضل نضالهم, ام نصر للإسلام, بفضل هذا النوع من النضال. وكانّ الاسلام, طيلة القرون السابقة والى اليوم, كان مجهولا لم يكن يتحدث أحد عنه , الى ان قيض الله, حديثا, لبسة الالبسة "الاسلامية". فتح جديد في الاسلام سلاحه اللباس, المنازع في "اسلاميته" حتى في الدول الاسلامية, فما بالكم بالدول الكافرة.
هذه الظواهر هي ضمن ما يجب دراسته كما اشرنا اعلاه. دراسات شاملة, وليست مجرد معالجات أمنية. ووضع حلول لها, كثيرا ان لم نقل دائما, ما تتعارض مع الحريات وحقوق الانسان وتمس بها بشكل مباشر. كما تتسع لتشمل كل فئات الاجانب والمهاجرين, وحتي حملة الجنسية الفرنسية من أصول عربية ومسلمة.
عمر الهجرة الى فرنسا طويل جدا, وعمر المشاكل والتناقضات المتولدة عنها, قديم بقدمها. فقد تعودت فرنسا على مهاجريها وعلى الاجانب فيها, وتعود هؤلاء على فرنسا. ولكن عمر مسألة الحجاب والنقاب, والسروال واللحية, عند بعض مسلمي فرنسا حديث جدا. ومبالغ فيها جدا من متبنيها, ومن ردود أفعال مستنكريها.
فلا الحجاب أو النقاب او اللحية أو السروال يستطيع تغيير شيء في الواقع الاوروبي عموما والفرنسي خصوصا, أو حتى في الغالبية العظمى من المغتربين والمهاجرين او الفرنسيين من أصول أجنبية. ولا يهز مفاهيم ومبادئ سائدة منذ قرون وراسخة في عقول الغربيين. اذن لا ضرر ولا ضرار, حتى في الغلو في الافتعال, حين تكون النظرة موضعية وغير مغرضة.
لم تستطع المسيحية في مسيرتها وتبشيرها الغاء اليهودية وتحويل اتباعها عنها. ولا استطاع الاسلام الغاء المسيحية ــ وليس هذا من أهدافه ــ والتأثير في معتنقيها. كما ان لا المسيحية ولا الاسلام استطاع اي منهما ,والى اليوم, توحيد الطوائف السائدة والمتنازعة ضمن الدين الواحد, ولا الغاء التناحر, والتكفير, والاقتتال احيانا بين طوائف كل ديانة.
اذن التهويل من هذه المظاهر, حديثة البروز هنا وهناك, والضجيج والغوغائية في استعمالها, وكذلك في التصدي لها, لا تجد اسبابها في الحجاب او النقاب, وليس في اللحية أو داخل السروال. فهذه الوسائل ليست اعلان هوية, وليست تبشير بقيم دينية او انسانية. وانما يجب البحث عنها في أماكن اخرى, وفي غايات اخرى, عن اسباب الظهور وطرق الاستعمال وتوقيته, والاثار المباشرة والجانبية, اذا ما اريد ايجاد الناجع من الحلول.
ليست المجتمعات الاوروبية الحالية, عموما, بما فيها المجتمع الفرنسي, معادية للإسلام, وان كانت لا تريده, ولا للقضايا العربية, وان كانت تتردد في مناصرة أهمها (القضية الفلسطينية). وليست القوانين السائدة فيها عنصرية.
كثيرا ما يقف احرارها مع الحق ويستنكرون الظلم والعدوان وانتهاك حقوق الانسان كلما تعرض مغترب او مهاجر فيها للمس بحرياته وكرامته وحقوقه كانسان ( مثال: جمعيات حقوق الانسان المساندة لقضايا الاجانب والمدافعة عنها امام المحاكم والادارات .. في غياب اي مساندة او سؤال من السفارات العربية عندما يتعلق الامر بمغترب عربي). وهذا ينسحب ايضا على مواقف هؤلاء الاحرار في مساندة القضايا العادلة في كل مكان, وادانة منتهكيها حتى ولو كانت حكوماتهم, بالفعل المباشر أو التواطؤ مع الانظمة الدكتاتورية والشمولية التي درجت على فعل ذلك كسياسة ثابتة في سياساتها الداخلية والخارجية.
تكفي الاشارة للمواقف الاخيرة للشعوب الاوروبية من الاعتداءات الإسرائيلية على غزة, حين كانت تخرج مئات الالاف من الفرنسيين في المدن الكبرى , ولأيام , للاحتجاج وادانة العدوان . علما بان الانسان الغربي لا يخرج للتظاهر لمساندة امور وقضايا غير مقتنع بها. وغير قابل لحشده في مسيرات على الطريقة العربية ــ تنظمها السلطات للهتاف للزعماء وتمجيدهم, ثم تخصيص ما تبقي من جهد أو بحة صوت لذكر القضية الرئيسة التي خرج او اُخرج السائرون المسيرون لمساندتها ــ و تكفي الاشارة الى حملات المتطوعين الغربيين ,من شعوب متعددة, لكسر الحصار عن غزة التحدي في عين المكان ولمساندة ضحيا العدوان الاسرائيلي واستنكار الجرائم المصنفة على انها ضد الانسانية.
في الوقت نفسه, كانت مشاركات المهاجرين والاجانب في تلك المظاهرات, والتظاهرات, من اجل قضية هزت ضمير البشرية, لا تصل, من حيث الاهمية والبعد والحماس وصدق المشاعر, الى جزء بسيط من المشاركات الغربية. كما لا تصل من حيث الحجم والاتساع الى المشاركات حين يتعلق الامر بقضية شخصية, ناتجة عن تجاوزات مدانة من قوى الامن الفرنسي, او تشجيع مباراة رياضية لفرقهم العائدة لبلدانهم الاصلية, حيث تستعمل فيها ادوات التكسير والتخريب والسطو للتعبير عن الاستنكار او عن الفرح بالانتصار.
نادرا ما نرى تجمعات أو جمعيات تُعرّف بطرق حضارية بقضايا ومشاكل البلدان التي تعود لها اصول هؤلاء الاجانب والمهاجرين المتجنسين بالجنسية الفرنسية. نادرا ما نرى مبادرات من هؤلاء تقدم الاسلام على حقيقته كما هو من خلال التعامل مع الاخرين, و العمل اليومي والتصرف السليم ومحاصرة الجريمة, والحفاظ على الامن. اي العمل بأخلاق وسلوكيات المسلم وليس بمجرد لباسه, ان كان له اصلا لباس مميز.
نادرا ما نرى مؤازرة الاجانب المقيمين او الفرنسيين من اصول مهاجرة لمطالب الفرنسيين المهنية او المادية المتعلقة بحياتهم المعيشية . او للاحتجاج على المساس بالحريات وحقوق الانسان. وكل ما ينال من التنظيم الديمقراطي والمؤسسات, وتنعكس اثاره على المواطنين والمقيمين بكل انواعهم.
نادرا ما يعبر هؤلاء عن مواقفهم من قانون دخول واقامة الاجانب في فرنسا, ونقد سلبياته, بالطرق الديمقراطية, وما يمكن ان ينال من حرياتهم الفردية والعامة وحقوق الانسان. ودعم ما فيه من ايجابيات للبناء عليها و تطويرها.
لاشك ان الحكومات الغربية بما فيها فرنسا بصدد تنظيمها للهجرة والاقامة تجنح الى التشدد, مع فارق بسيط بين اليمين واليسار, في قوانين دخول واقامة الاجانب وحق اللجوء السياسي. وتحاول مع ذلك, خوفا من الرقابة الدائمة لجمعيات المجتمع المدني المهتمة بموضوع الحريات الاساسية وحقوق الانسان, ورقابة المحاكم وخاصة مجلس الدولة, والمحكمة الاوروبية لحماية حقوق الانسان, ان تقارب بين التشدد وبين احكام دستورها وقوانينها الداخلية والاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان, والمعاهدات الدولية بهذا الشأن. ولا تأخذ بطبيعة الحال كميات الاجانب والمغتربين الدين هم موضوع قوانين التنظيم, ولا اراء دول الاصل لهؤلاء, ان كان لهم اصلا رأي او وزن يدخل في الحسابات التي تبنى عليها المواقف والقرارات.
ولنأخذ مثلا منح وتجديد بطاقة المقيم المعروفة بـ carte de résident والحقوق المتربة عليها. وحسابات التوازن بين الحريات الخاصة وحقوق الانسان وبين مقتضيات التنظيم وضروراته.
عرفت المادة 111ـ1 من "قانون دخول واقامة الاجانب وحق اللجوء في فرنسا " الاجنبي" étranger على انه الشخص الذي لا يحمل الجنسية الفرنسية, اكان من جنسية اجنبية او لا يملك أية جنسية. وعكس ذلك ليس اجنبي الشخص الذي يملك الجنسية الفرنسية حتى وان كان لديه جنسية اخرى.
المادة 8 من معاهدة الا تحاد الاوربي تعتبر " كل شخص يملك جنسية بلد عضو في الاتحاد هو مواطن اوروبي. الجنسية الاوربية تضاف الى الجنسية الوطنية ولكن لا تحل محلها. اي ان الجنسية الاوروبية ممنوحة لمواطني الاتحاد لتضاف الى جنسية بلدهم.
وقد اقام "قانون دخول واقامة الاجانب في فرنسا" droit d’entrée et du séjour des étrangers en France نظاما خاصا لدخول واقامة مواطني الاتحاد الاوروبي وجعلهم اكثر قربا من المواطنين الفرنسيين من وضع الاجانب الاخرين. ( تمييز يقدمون له مبررات غير مقنعة دائما).
ليس للأجانب نفس حقوق مواطني الدولة المقيمين فيها. وعليه فانهم يشكلون فئة قانونية مختلفة عن مواطني الدولة من حملة جنسيتها. وينتج عن هذا الاختلاف عدم مساواة في الحقوق. لان الاجانب ليسوا اعضاء في المجتمع الوطني الذي ينفرد اعضاؤه بحمل جنسيته.
وتبدو هنا صعوبة التوفيق بين ما يرسمه قانون الاجانب وبين مبدا المساواة المعبر عنه في اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي اعلنته الثورة الفرنسية عام 1789 " يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق. لا يتميز بعضهم عن بعض الا فيما تفتضيه المصلحة العامة" . وتهبط من مساواة مطلقة الى مساواة نسبية ومعيبة.
رأى المجلس الدستوري فيما يتعلق بقانون دخول واقامة الاجانب بفرنسا, ان هؤلاء في وضع قانوني مختلف عن وضع حملة الجنسية الفرنسية. ويستطيع المشرع ان يتخذ بصددهم احكاما خاصة spécifiques. و لا يمنع القانون الاختلاف في المعاملة حين يكون في ذلك المصلحة العامة. فهناك حقوق مرتبطة بحاملي الجنسية الفرنسية ولا تطال الاجانب.
علاقة المواطن والاجنبي بالدولة ليست متطابقة. وعليه يمكن معاملة هؤلاء معاملة مختلفة عن معاملة المواطنين حاملي جنسية الدولة.
كما ان اختلاف المعاملة ينسحب ايضا على فئات الاجانب. فليس للجميع نفس الوضع القانوني حيث يختلف هذا الوضع بين المقيمين اقامة دائمة, او مؤقتة, او عابرة. والاجانب غير الشرعيين.
الاجانب المقيمين اقامة دائمة:
معيار استمرارية الاقامة للأجنبي في الاقليم الفرنسي هو ملكيته بطاقة مقيم " carte de résident " بصلاحية 10 سنوات قابلة للتجديد تلقائيا بقوة القانون. في حين ان بطاقات الاقامة الاخرى مؤقتة " carte de séjour temporaire " بصلاحية عام واحد قابلة للتجديد فقط في حالة توافر الشروط التي كانت مطلوبة في حالة المنح الاولى. هذا النوع من البطاقات تمنح للأجانب الذين ليست لديهم رغبة الاقامة الدائمة في فرنسا, أو ممن لا تتوفر فيهم شروطها.
وبلغة الارقام فقد بلغ عدد البطاقات الممنوحة للمرة الاولى تحت عنوان بطاقة مقيم بكل انواعها
206642عام 2004
185145 عام 2007 اي بانخفاض قدره 10,40% في 3 سنوات
20654 بطاقة اقامة carte de résident لعشر سنوات عام 2007 و 26541 شهادة اقامة certificat de résidence مدة كل منها 10 سنوات (تمنح للجزائريين) بانخفاض قدره 32,25% بالنسبة لعام 2004 لبطاقات الاقامة. وبنسبة 21,75% لشهادات الاقامة الممنوحة في نفس العام .
يصنف المقيمون الاجانب في فرنسا في فئتين :
فئة يمنح لها بطاقات الاقامة بقوة القانون وتتكون من: القاصرين او المكفولين او البالغين من اصول الفرنسيين المقيمين بفرنسا اقامة مستمرة منذ 5 سنوات على الاقل. ابناء وازواج الاجانب الذين يملكون بطاقات اقامة 10 سنوات. اولاد وازواج المقيمين الحاصلين على اقامة 10 سنوات. اباء وامهات الابناء الفرنسيين القاصرين المقيمين في فرنسا. الاجانب المتزوجين منذ ما لا يقل عن 3 سنوات بمن يحمل الجنسية الفرنسية. من جهة اخرى تمنح بطاقة الاقامة لعشر سنوات بقوة القانون: للأطفال القاصرين او البالغين المكفولين. اباء وامهات الفرنسيين القاصرين. الحاصلين على rente بسبب حادث عمل او مرض مهني يترتب عليه عجز يقدر 20% . الاجانب في الوحدات العسكرية الفرنسية. اللاجئين وعديمي الجنسية المقيمين في فرنسا منذ 3 سنوات على الاقل. الاجانب الذين تتوفر فيهم شروط الحصول على الجنسية الفرنسية.
بطاقة المقيم الصالحة لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد بقوة القانون. اي يكفي لتجديدها مجرد طلب بسيط من قبل المعني, دون ان يطلب منه اثبات مرة اخرى الشروط التي كان يجب توافرها عند طلبه هذه البطاقة في المرة الاولى.
في حكم مرفوع بطريق النقض أمام المجلس الدستوري في 24 افرين 1997 ينص على ان بطاقة المقيم لا تُجدد اذا كان حاملها يشكل تهديدا للنظام العام. اعتبر المجلس المذكور ان هذا الحكم يجلب ضررا لحقوق المعني في احترام حياته العائلية والخاصة" (قرار 22 افريل 1997 رقم 97ـ389 Rec. P. 45. DC).
وقد استجاب المشرع لهذا, فأنشأ بقانون 20 نوفمبر 2007 " بطاقة المقيم الدائمة". تمنح للمستفيد حين انتهاء صلاحية بطاقته الممنوحة لمدة عشر سنوات. بمجرد تقديم طلب بذلك. الا اذا كان وجوده يشكل خطرا حقيقيا على النظام العام.
ومع ذلك, حتى ولو ان بطاقة المقيم تُمنح بقوة القانون وهي "دائمة" فان الحق في الاقامة ليس مطلقا ويرد عليه قيدين:
يمكن سحب هذه البطاقة بمواصفاتها المذكورة واجبار حاملها على مغادرة البلاد , وذلك في حالة كون المعني متعددة الزوجات polygamie في فرنسا . او ادين باستعمال العنف ضد قاصر اقل من 15 عاما وسبب له عاهة مستديمة او بترا. وكذلك في حالة انهاء الحياة الزوجية التي بموجبها حصل على بطاقة الاقامة الدائمة, لسبب غير الوفاة, خلال الاعوام الاربعة التي اعقبت الزواج من فرنسي, الا في حالة ولادة طفل او اكثر من هذا الزواج. او في حالة تشغيل اجنبي غير مزود بترخيص عمل في فرنسا.
يمكن طرد حامل البطاقة الدائمة من فرنسا عندما يشكل وجوده تهديدا خطيرا للنظام العام.
الحق في العمل:
يحق للأجنبي المقيم بصفة نظامية ممارسة عمل او مهنة يختارها في اطار ما تنص عليه القوانين المرعية. وهذا الحق محدود بدوره. فبعض المهن محمية وغير مسموح له ممارستها, وهي وقف على الفرنسيين او مواطني الاتحاد الاوروبي, او دول السوق الاوروبية المشركة, وسويسرا .
المادة 6 من اعلان حقوق الانسان والمواطن لعام 1789 تعتبر ان جميع المواطنين متساوون امام القانون. ولكل منهم الحق في الوظائف والمناصب بحسب كفاءته ومقدرته ولا يجوز تفضيل احد على غيره بهذا الصدد الا بفضائله ومعارفه.
وقد بقي عامل السيادة يتأرجح بين التشدد وبين التساهل. فعلى سبيل المثال كانت الجامعات الفرنسة ابتداء من عام 1968 تقبل مدرسين اجانب بين كادرها. قانون الجماعة الاوروبية اقام علاقة بين الجنسية والتوظيف العمومي. وحسب المادة 45 من المعاهدة الاوروبية فيما يتعلق بعمل الاتحاد الاوروبي تعلن ان" حرية تنقل العمال .. يتضمن الغاء كل تمييز قائم على الجنسية بين عمال الدول الاعضاء فيما يتعلق بالعمل ..". مضيفا ان هذا المبدأ لا ينطبق على الاعمال في الادارة العامة".
اجاز قانون في 26 جولييه 1991 لرعايا دول الاتحاد الاوروبي العمل في الوظائف غير المرتبطة بممارسة السيادة. او تلك التي لا تحمل ممارسة امتيازات السلطة العامة.
كما بقيت بعض الاعمال الخاصة, حتى ولو لا علاقة لها بالسيادة, مقتصرة على المواطنين الفرنسيين و رعايا الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي: كمهنة الموثق, والمحامين في مجلس الدولة و محكمة النقض, والمحامين في امام المحاكم الاخرى. والاطباء. واطباء الاسنان. والتمريض. والصيادلة. ومدراء المؤسسات الخاصة للتعليم التقني. وامتلاك الخمارات. واكشاك بيع الدخان...في حماية مثل هذه المهنة والاعمال وقصرها على الفرنسيين تناقض مع مبدأ المساواة الدستوري يصعب تبريره .
ومع ذلك فان تحديد قائمة الاعمال المرتبطة بممارسة السيادة والممنوع على الاجانب ممارستها, أوتلك المسموح بها, غير ثابت ويتغير مع تطور القانون الداخلي تحت تأثير قانون الجماعة الاوروبية , ومع اتساع مفهوم المساواة بين الاجانب والفرنسيين.
اضافة الى ذلك فان فرنسا تمنع الاجانب من ممارسة الحقوق السياسية. اي حق التصويت والترشيح. تحدد المادة الثالثة من دستور 1958 بان الناخبين هم " كل المواطنين الفرنسيين البالغين من الجنسين المتمتعين بحقوقهم المدنية والسياسية". ومنه, فان الناخبين والمرشحين هم من الجنسية الفرنسية حصرا. وقد منح حق التصويت والترشيح لأعضاء دول الاتحاد الاوروبي المقيمين في فرنسا ولكن فقط في الانتخابات البلدية شريطة ان لا يمارسوا مهام رؤساء البلديات او نوابهم. علما بان الجمعية الوطنية الفرنسية قد اقرت في 3 ماي 2000 مشروع قانون ولكن لم يجيزه مجلس الشيوخ الى اليوم. يهدف الى منح الاجانب من غير اعضاء دول الاتحاد الاوروبي, المقيمين اقادة دائمة, حق التصويت في الانتخابات البلدية. مع نفس التحفظات التي وضعها بالنسبة لرعايا الاتحاد الاوروبي المقيمين في فرنسا.
تعتبر فرنسا في هذا المجال متخلفة عن العديد من دول الاتحاد الاوروبي التي منحت الاجانب, غير أعضاء الدول الاوروبية ,حق الانتحاب والترشيح , وقد اشترط بعضها مدة الاقامة. كبريطانيا , الدنمارك, وفنلندا, وايرلندا, وهولندا, والسويد, والبرتغال. وعن دول غير اوروبية تمنح للأجانب حق التصويت, دون حق الترشيح, في الانتخابات البلدية والوطنية: كالأرجنتين, والبيرو, وفينزويلا وشيلي.
أما حق المشاركة في الانتخاب والترشيح في الانتخابات المهنية, وهو حق لا يعتبر من الحقوق السياسية, وانما ملحق بالنشاط المهني, فيستفيد منه الاجانب بنفس درجة استفادة الفرنسيين, لانتخاب ممثلي المهن, وللنقابات.
غير ان للمهاجرين والأجانب, المقيمين اقامة شرعية, الحق في الحماية الاجتماعية ضمن نفس الشروط التي يستفيد منها الفرنسيين. فالمساواة في هذه المواد مكفولة. وهذا ما أكد على ضرورته مجلس الدولة الفرنسي منذ عام 1989. والمجلس الدستوري في قراره بتاريخ 11 اوت 1993. كما جاء في المادة L.512-1 من قانون الضمان الاجتماعي ان: " كل شخص فرنسي او أجنبي, مقيم في فرنسا اقامة شرعية, يعول ابنا او أكثر, مقيم او مقيمين في فرنسا, يستفيد من المساعدات العائلية من اجل ابنائه ".
تبقى مسألة الهجرة والمهاجرين والاجانب مفتوحة, وبطبيعتها وظروفها, ولادة مشاكل وتناقضات. وطالما بقي الانسان في مجال تنظيم علاقاته مع الغير ومع المكان, لا يتخلى عن حقوقه وعن حرياته الاساسية, ولا يرضى بالمداورة أو الغموض. والانسان بطبيعته, مواطن اكان ام مهاجر ام اجنبي, لا يمكنه ان يكون غير ذلك.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟