|
الحركة النقابية التونسية بين فكي كمّاشة : العشائرية والبيروقراطية
منير العوادي
الحوار المتمدن-العدد: 3009 - 2010 / 5 / 19 - 23:36
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
الملاحظ الدقيق للواقع لا يمكن له إلا أن يقرّ الفشل الذريع الذي آل إليه الاتحاد العام التونسي للشغل في كافة المجالات: ـ فشل في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة المادية والفكرية والسياسية. ـ فشل في إرساء تحالف مع الطبقات الشعبية في نضالها من أجل التحرر من كلّ أشكال الاضطهاد والاستغلال. ـ فشل في تحديد موقف واضح من السلطة ومختلف أجهزتها وما تمثله من مصالح واختيارات وعلاقات مع الدوائر الرأسمالية العالمية. ـ وأخيرا فشل في أن تَكُون وأن تُكوّنَ مدرسة لتخريج الكوادر المناضلة والمخلصة، مدرسة تنتصر للفكر الثوري النيّر المرتبط بقضايا الكادحين في تونس والوطن العـربي والعالم. وتساهم بذلك في القطيعة المعرفية المطلوبة والضرورية مع الثقافة الإقطاعية البالية والفكر البورجوازي في طوره الاستعماري. هذا الفشل يدفع بنا إلى إعادة النظر بشكل جذري وشامل لواقع الحركة النقابية، من خلال تحليل، لا يكتفي بنقد المواقف والممارسات، بل يحاول أن ينفذ إلى ما وراءها من جذور وأصول. إنّ من يتخطى البحث عن الأعراض للبحث عن الجوهر، لا يمكن إلا أن يستغرب بشدّة لعمق حضور العشائرية ودورها التخريبي في تاريخ الحركة النقابية العمالية. إذ هي في المستوى النظري نوازع وانفعالات ونزوات، ضدّا عـن المعرفة والإبداع والعلم، وهي في المستوى العملي محاولة لطمس الصراع الطبقي وتشويهه. إنّها ضحالة وبؤس على صعيد الفكر، وارتجال وتذبذب وانحناء وقفز على المسامير ووسط الحفر على صعيد العمل. والإتحاد في هذا الأمر هو جزء من كلّ، أي أنّ هيمنة النزعة العشائرية في صلبه تغـذّت من النزعة العشائرية السائدة في مستوى القطر. فلقد كان التوجه العشائري حاضرا بقوّة في الاختيارات الأساسية للسلطة البورقيبية منذ سنة 1956، إذ أنّ هذه السلطة مكّنت أقلية ضئيلة منحدرة بالخصوص من جهة الساحل من تحقيق ثراء فاحش، من خلال ما تحصّلت عليه من تشجيعات مختلفة : قروض بفوائد زهيدة، منح وهبات، إعفاء ضريبي ...، في حين أبقت المناطق الداخلية في حالة حرمان وتهميش وفقر مدقع. كما أنّ ما قامت به السلطة من إعادة توزيع للخارطة الإدارية، من خلال إعادة تسمية الولايات دون الإشارة إلى تركيبتها العشائرية، اتخذ طابعا شكليا، أي أنّه استهدف الإسم دون المسمى، واللفظ دون المعنى. لقد وصل الأمر بالحبيب بورقيببة أثناء صراعه مع صالح بن يوسف إلى حدّ قطع الماء عـن جزيرة "جربة"، مسقط رأس صالح بن يوسف، عقابا لأبناء هذه الجزيرة عـلى مساندتهم لبن يوسف. وفي الإتحاد سادت لمدة طويلة، العقلية العشائرية بتقاليدها وأعرافها، التي تحدد مجال الانتماء وضوابط الخضوع والانقياد، وكذلك كيفية صيانة هذه القيم وتوريثها من جيل إلى آخر. لقد تقاسم منذ بداية الأربعينات من القرن الماضي طرفان أساسيان مجال النفوذ والسيطرة داخل الحركة النقابية: ـ الطرف الأول : يتمثل في المجموعة المنحدرة من جزر قرقنة، ويضمّ بين صفوفه عناصر كان لها تأثير فاعل في الساحة النقابية، وخاصة فرحات حشاد والحبيب عاشور. ـ أمّا الطرف الثاني : فيتمثل في المجموعة المرتبطة بالعشائر أصيلة جهة قفصة بالجنوب التونسي، ومن أهمّ رموزها : أحمد التليلي وحسين بن قدّور. ومن خلال رصد بعض المعطيات المتعلقة ببعض القادة النقابيين، يمكن الوصول إلى نتائج تستلفت النظر حول تأثير العامل العشائري ودوره في الحركة النقابية. فلقد رحل فرحات حشاد في الخامسة عـشر من عـمره، أي سنة 1929، للإقامة عند أخواله، المستقرين في حومة القراقنة في سوسة، في حي "وادي الخروب"، وهو حي توجد فيه عديد العائلات المهاجرة من جزر قرقنة. وبعد أن استقرّ حشاد مدة في سوسة، عاد سنة 1940 إلى صفاقس، حيث انتُدب للعمل بالأشغال العامة، وواصل نشاطه النقابي في إطار الاتحاد الإقليمي لـ (س.ج.ت)، صحبة الحبيب عاشور وعبد العزيز بوراوي والطاهر العكروت.... وهم أفراد يجمع بينهم الانتماء إلى نفس الجيل ونفس المنطقة ونفس الاهتمام، مع ما يتبع ذلك من تأثير وتأثر، يشمل الجميع. ومن بين هؤلاء كان مسعود علي سعـد يؤدّي دورا بارزا ستظهر أهميته لاحقا. فلقد أسّس في 16 جانفي 1944 أوّل نقابة مستقلة عن النقابات الفرنسية (بما في ذلك تلك التي ينشط في إطارها حشاد وبقيّة الجماعة المتعاونة معه)، وهي" نقابة عمال وموظفي شركة فسفاط وحديد صفاقس ـ قفصة". كانت هذه النقابة ذات طابع حرفي بحت، أي أنّها ترفض اتخاذ أيّ موقف سياسي، وتنادي بالتالي بـ"حياد النقابات"، وهو ما لم يمنعـها من التزلف أحيانا للسلطات الاستعمارية من أجل الاعتراف بها والحصول على امتيازات ومكاسب لمنظوريها. وقد قام مسعود علي سعـد بتأسيس نقابته تلك قبل عقد مؤتمر الإتحاد الإقليمي للكنفدرالية العامة للشغل، يومي 18 و19 مارس 1944، وهو المؤتمر الذي ترشح فيه حشاد كنائب لعضوية الهيئة الإدارية، ولكنه فشل في ذلك. وقد ترتبت عن هذا الفشل خيبة أمل كبرى لدى حشاد، الذي عاد إلى صفاقس واتصل بمسعود علي سعـد، حيث اتفقا على مواصلة العمل الذي قام به الأخير. ولعلّ ما سهّل اتفاقهما هو أنّهما ينحدران من نفس المنطقة ( قرقنة)، كما يجمع بينهما العداء للفكر الشيوعي. وقد أدّى العمل المشترك بينهما إلى تكوين المكتب المؤقت لــ "اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب" في 6 نوفمبر 1944، حيث أصبح فرحات حشاد كاتبا عاما ومسعود علي سعد عضوا مساعدا. إضافة إلى النشاط النقابي، كانت توجد في تلك الفترة جمعية خيرية، هي جمعية " التضامن القرقني"، وكان يرأس مكتب هـذه الجمعية مسعود علي سعد، وكان كلّ من فرحات حشاد والحبيب عاشور عضوين بمكتبها. ومن أهمّ أنشطة هذه الجمعية ربط الصلة مع أبناء الجزيرة المهاجرين في مدن صفاقس وسوسة وتونس وتقديم مختلف أنواع المساعدة لهم. هذا التآزر الاجتماعي ـ النقابي، على قاعدة الانتماء العشائري، تحوّل شيئا فشيئا إلى أسلوب عمل، وسيتجسد في كلّ المناسبات، في السرّاء والضرّاء، سواء كان الفرد في "دار الحقّ" أو في "دار الباطل"، في العمل والزواج وحتى في التجاور. يقول نور الدين حشاد : " من رادس انتقلنا إلى مونفلوري سنة 1955، لأنّ الوالدة أصبحت لا تريد البقاء في رادس حيث كنّا نكتري منزلا .... ومنذ 1954 تكوّنت هيئة لجمع المال لبناء منزل لنا بمنفلوري. وقد جُمعت الأموال بواسطة مقتطعات لاشتراء الأرض وبناء المنزل. لماذا في منفلوري؟ لأنّ المجموعة القرقنية التي كانت مع فرحات حشاد، كان فيها سي منصور جراد وسالم الشفي وأحمد فنيش ومحمد كنو وعلي العكروت ومحمد النّمصي رحمهم الله. كانت هذه المجموعة تسكن مونفلوري، وكانـ(وا) يعتز(ون) بجزيرتهـ(م) وبكل ما يهمّها. ولا يمكن فهم إنسان إذا لم يقع فهم الوسط الذي نشأ فيه".(1) إنّ توفير مستلزمات القوّة بواسطة إيجاد أنماط متعددة من التداخل بين الاجتماعي والنقابي، بين ما هو مادي وما هو رمزي، هو سرّ الأسرار في هيمنة العشائرية، وتحوّلها إلى القطب الأساسي المحرك في الحركة النقابية التونسية، بل وتحوّلها إلى واقع معقول، لا يمكن إلا تفهمه وتبريره والنسج على منواله ما أمكن ذلك. وبذلك أيضا تحوّلت العشائرية إلى قوّة داخل القوّة، تتميّز الأولى عن الثانية بكونها منظمة ومتماسكة وسريّة، لها قوانينها الذاتية ومشاريعها المحددة وتنظيمها الخاص. نفس هذا التوجه تكرّس في جهة قفصة، بالجنوب التونسي، وإن كان بشكل آخر. فلقد تشكّلت نقابات عمال المناجم الأربعة، تحت إشراف أحمد التليلي، على أسس عشائرية واضحة، خاصة وأنّ الصراع مع الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي ( الذي حلّ نفسه في أواخر سنة 1956) ساهم في تأجيج هذا التوجه. فلقد تأسّست يوم 23 جوان 1946 نقابة عمال منجم "الرديف"، بالاستناد إلى عشيرتي "أولاد عبيد" و"أولاد يحي"، وتولى كتابة النقابة حسونة بن الطاهر. وفي نفس اليوم أيضا تأسّست نقابة أخرى في منجم "المتلوي"، حيث تتواجد عشيرة "أولاد بويحي"، وتولى مسؤولية الكتابة العامة العربي درويش. وفي يوم 6 جويلية 1946 تأسّست نقابة عمال منجم "أم العرائس"، حيث الوجود القوي لعرش "أولاد سلامة"، وقد تولى الكتابة العامة أحمد بلحاج مسعود. وفي نفس اليوم تأسّست كذلك بـ"المظيلة" نقابة تولى كتابتها العامة الأزهاري بن الحاج أحمد بن عمار، وذلك بالاعتماد خاصة على عرش "القطارية". ولئن بدأ التوجه العشائري في البروز مع بداية تأسيس الاتحاد في الأربعينات، فإنّه نمى وتعزز بشكل واضح وجلي في النصف الثاني من الخمسينات، حينما بدأ التنافس على "الكعكة" أو الغنيمة، مع بداية "فجر جديد"، اعتقد البعض أنّه سيكون أحسن. يتأكّد هذا الأمر من خلال التثبت فيما حدث في المؤتمر السادس للإتحاد العام التونسي للشغـل (سبتمبر 1956). فلم يكن تفجّر الصراع بين الثالوث: أحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور، سوى تعبير عن خلافات شخصية وعشائرية، ساهمت مناورات السلطة في إذكائها. وما وقع سنة 1956 هو الحلقة الأولى من حلقات التآمر على الإتحاد العام التونسي للشغل وعلى الطبقة العاملة. في تلك السنة انشقّ عاشور عن الإتحاد، بعد أن رجع إلى صفاقس، ليؤسس إتحاد المنشقين "إتحاد الشغل التونسي" (U.T.T)، الذي قاده الحبيب عاشور وعبد العزيز بوراوي ومحمود الغول. ثم تحالف عاشور مع بورقيبة والتليلي، بعـد عودته للاتحاد، لإزاحة أحمد بن صالح في المؤتمر السابع الذي التأم في 22 سبتمبر 1957. ثم تحالف ثانية مع بورقيبة وبن صالح للإطاحة بأحمد التليلي في المؤتمر التاسع للإتحاد المنعـقد في 28 مارس 1963. وأخيرا تآمر بورقيبة مع أحمد بن صالح ضدّ الحبيب عاشور، وزجّا به في السجن سنة 1965، واستعانا بالنوري البودالي وبشير بلاغة، وهما من تحالف الشمال (تشكل عـشائري آخر)، لتحويل الإتحاد إلى أداة طيّعة بيد السلطة. بعـد مرور ثلاث وثلاثين (33) سنة، بالتمام والكمال، أي في أواخر سنة 1989، يعود الحبيب عاشور، في حوار صحفي، للحديث عـن المؤتمر السادس للاتحاد المنعـقد أيام 20 ـ 21 ـ 22 و23 سبتمبر 1956، ليقول: [كان المؤتمر نوعا من المؤامرة أثارها بن صالح ومساعديه ضدّ "الصفاقسية"].(2) إنّ استعمال عاشور للفظ "الصفاقسية" عوضا عـن "قراقنة" يهدف إلى المغالطة والتحشيد لا غـير، فهو "صفاقسي" في تونس، و"قرقني" في صفاقس، .... وأهمّ ما يعبّر عـنه مثل هذا التصريح، هو أنّ أهمّ آليات إثبات الذات بالنسبة للعشائري تتمثل في ترسيخ عقدة الاضطهاد، حيث تكون نظرية المؤامرة أبرز مستتبعاتها. ذلك أنّ العشائري يتصوّر أنّ هناك عدوّا خارجيا يتربص بأهل العشيرة، وهو المتسبب في بؤسهم وشقائهم وفي الخطر الدائم المحدّق بهم. كانت العلاقة بين مختلف الرموز العشائرية تتميّز بالتآزر حينا وبالتناحر حينا آخر، بالصداقة والعداء، حسب ما تمليه التجاذبات والمصالح. وحتى في فترات المودة والإخاء والتضامن، فإنّ كل فرد يتباهى برصيده العشائري. ويمكن أن نضرب مثالا حيّا على ذلك من خلال حكاية حدثت بين عاشور والتليلي. فبعـد عودة أحمد التليلي إلى تونس في 25 مارس 1967، ذهب العديد من أصدقائه ومعارفه إلى زيارته : [ وكان الحبيب عاشور ، الذي خرج من السجن بعد تدخلات من السيزل، أكثر المترددين عـليه. وقد جاءه يوما وقدّم له (ضمّة) من المال قائلا : "هذه مساهمة من القراقنة"، فردّ عليه أحمد التليلي: "لا، القفاصة لم يتركوني بحاجة لأيّ شيء". وردّ عليه ماله].(3) وهكذا تحتاج الروح العشائرية دائما، وخاصة في فترات النكسة، إلى الشحذ والاستنهاض والتحفيز، من خلال دعاوي الأفضلية والعفّة والتسامي الأخلاقي، والإشادة بما توفر لها من مخزون، يمكّنها وقت الحاجة، من الاحتماء والتحصّن. هذا التوجه العشائري شهد بعض التقلص المحدود في فترة السبعينات، حينما تحوّل الإتحاد إلى أكبر قوّة شعبية في القطر، وتمكّن من استيعاب أعداد كبيرة من العمال والموظفين في صلبه. فبعد أن كان عدد المنخرطين لا يتجاوز 40 ألف سنة 1970، أصبح يتراوح سنة 1977 بين 550 ألف و600 ألف منخرط. كما شهد "الفكر العشائري" في هذا العقد تراجعا ملحوظا لفائدة نمط جديد من الوعي هو"الوعي الطبقي"، نتيجة لانتشار الفكر الماركسي اللينيني، بعـد انضمام أعداد متزايدة ونوعية من العناصر اليسارية، التي كانت تنشط في الحركة الطلابية، إلى الحركة النقابية، وإسهامها إلى حد ما في التأثير على التوجه السائد في بعض القطاعات والقواعد العمالية. وقد كانت القيادة النقابية منزعجة لنمو الفكر اليساري ولا تتوانى في الغالب عن اتخاذ تدابير زجرية ضدّ ممثليه: حلّ الهياكل ـ تجريد من الصفة النقابية ـ طرد من العمل.... ولكنها سعت في مناسبات ظرفية ( خاصة قبل الانتفاضة الشعبية الأولى في 26 جانفي 1978) إلى محاولة توظيف هذا التوجه، سعيا إلى الاستفادة منه لترجيح كفّة بعض الأجنحة في السلطة على حساب أجنحة أخرى ( في علاقة بمسألة الخلافة التي كانت مطروحة آنذاك). إلاّ أنّ التوجه العشائري اكتسح من جديد الحركة النقابية في الثمانينات، وعادت من جديد عقلية الثأر والانتقام، بحيث لم ينته هذا العقد إلاّ والإتحاد في حالة بائسة، إذ أصبح ممزق الأوصال، ويعاني من الضعف والتشرذم والعجز. إنّ الرؤية العشائرية هي رؤية متكلسة ومتيبسة، لا ترى إلاّ ما تريد رؤيته، ولا تفعل إلاّ ما تقتضيه مصالحها الآنية المباشرة، وهي تبعا لذلك لا تنظر للجماهير الشعبية إلاّ ككتلة هلامية عديمة الرأي والموقف وعديمة القدرة على تكريس الموقف. في هذا السياق يمكن أن نذكر مثلا واحدا يؤكدا مدى تخبط القيادة العاشورية وقصورها واستهانتها بقضايا ملايين المضطهدين. فقبل انتفاضة الخبز في بداية جانفي 1984 ( والتي كانت الانتفاضة الشعبية الثانية في تاريخ تونس المعاصر) أبرمت السلطة ووفد من الإتحاد اتفاقا، تمّ بمقتضاه الموافقة على مضاعفة سعر الخبز، وإقرار منحة تعويضية بقيمة دينار ونصف (1،5 د) لكلّ فرد، بالنسبة لعائلة تتكون من ستة (6) أفراد، بحيث تكون الزيادة الإجمالية الشهرية الأقصى تسعة (9 د) دنانير، إذ اعتبر الطرفان أنّ انخفاض القدرة الشرائية يُقدر بـ 10 بالمائة. وقد تكوّن وفد الإتحاد الذي أبرم هذا الاتفاق من: الحبيب عاشور ـ الطيب البكوش ـ خليفة عبيد ـ إسماعيل السحباني. هذا الاتفاق يؤكد انقطاع القيادة النقابية عن الواقع الحقيقي للطبقات الشعبية وانفصالها عنه، خاصة وقد كانت في تلك الفترة منهمكة في تصفية الحساب مع خصومها، أي مع شقّ آخر من العشيرة يمثله عبد العزيز بوراوي وبعض العناصر الموالية له، الذين تمّ طردهم من الإتحاد، في نوفمبر 1983، بقرار من عاشور، فأسّسوا فيما بعد ما سُمي بـ" الإتحاد الوطني للعمال التونسيين". ماذا كان ردّ الجماهير على هذا الاتفاق؟ ببساطة شديدة رمت به إلى سلة المهملات، حتى لا نقول أكثر، وبيّنت أنّ إرادة الجبابرة يمكن أن تخرّ ساجدة لإرادة الشعب، حينما يقرر هذا الشعب أخذ زمام المبادرة، وحينما يقرر أن يرفض وأن ينتفض وأن يثور. هناك أمر آخر يجب التأكيد عـليه في هذا المجال، وهو أنّ التقيد بالانتماء العـشائري يؤدي حتما إلى البيروقراطية، في مستوى التسيير والممارسة، بل يمكن القول أنّ العـشائرية والبيروقراطية متداخلان ومتشابكان، وهما معا يشكلان السبب الأساسي لتخلف الحركة النقابية وركودها. إنّهما وبال عـلى وبال. فالعـشائرية هي البناء الاجتماعي ـ النفسي، أمّا البيروقراطية فهي الجهاز أو الأداة السلطوية التي تحمي وتؤطر وتوجه، وتمارس بالتالي الدور الموكول لها في الاستخبار والقمع والطغـيان. في الفترات التي سيطرت فيها وجهة النظر الجهازية : أحمد بن صالح بين سنتي 54 و1956، وبشير بلاغة بين 65 و1970، وإسماعيل السحباني بين 1989 و2001، تحوّل الأمين العام إلى ما يشبه الرئيس المدير العام (PDG)، كما تحوّل "المسؤولون النقابيون" إلى موظفين رسميين. رغم ذلك حرص هؤلاء الأمناء العامون على إيجاد نوع من "التعايش السلمي" مع العشائرية، وحافظوا لها على حدّ أدنى من الوجود والتواجد. هذه الخلطة العجيبة ـ الغريبة، حيث يتداخل العشائري مع النقابي مع الحزبي، أنتج نمطا خاصا من النقابيين، يتميّزون بصفات خاصة، أهمّها : الدهاء والمكر والقدرة عـلى حبك المناورات والدسائس، وهو ما أدّى إلى تحوّل الإتحاد إلى مدرسة لتعلم كلّ فنون الاختلاس والتحيّل والخداع. ومسؤول من هذا النوع لا يمكن إلاّ أن يفتقر شيئا فشيئا إلى الجرأة والشجاعة في التعبير عـن رأيه، كما أنّه سيسعى بكل ما أوتي من قوّة للبقاء أطول مدّة في الجهاز لمزيد تكديس مختلف أنواع الامتيازات. من خلال ما تقدم يمكن التأكيد على أمرين : أوّلا : إنّ العـشائرية بما هي معطى طبيعي تشكل حاجزا أو عائقا يحصر الهوية في حدود مناطقية ضيّقة. لذلك فهي تتعارض مع مفهوم الوطن، كمعطى تاريخي ـ طبقي، بل هي تحُول في الواقع العملي دون الإندماج الوطني ودون السيادة الوطنية التي لا معنى لها بدون سيادة شعـبية. إنّ تحديد طبيعة المرحلة والمهام المطروحة من وجهة نظر الطبقة العاملة يقتضي توفر مرجعية فكرية وسياسية واضحة وقدرة على القيام بتحليل موضوعي ومعمّق للواقع. والعشائرية أعجز ما تكون عن القيام بهذا الدور، إذ هي انتصار للجهل على المعرفة وللخرافة على العلم، وهي تتغاضى عن الاضطهاد والاستغلال إذا ما تمكّنت من تحقيق مصالح أفرادها وطموحاتهم، كما أنّها تُزايد في المواجهة والاعـتراض في الحالة العكسية. ثانيا : البيروقراطية تكريس للإقصاء والإلغاء، وهي تفرض، أو بالأحرى تحاول أن تفرض، الولاء المطلق كشكل واحد ووحيد ممكن للعلاقة بين القواعـد والقيادة. إنّها جهاز إداري ومالي (سيف وذهب)، يعاقب ويجازي، يمنع ويمنح. وهي بذلك عدوّ للديمقراطية الجماهيرية، التي تعني خاصة حرية الكلمة والنقاش الحر المفتوح في كلّ القضايا، والذي يسمح وحده بتطوير الفكر وأخذ زمام المبادرة والقرار من قبل المعنيين بالأمر. الخيار العشائري ـ البيروقراطي إذن هو سلبية سالبة، تعطيل وعطالة، لذلك فهو النقيض الجوهري للمشروع الوطني الديمقراطي. وبالنسبة للوضع الراهن للاتحاد، سنكتفي هذه المرّة، بطرح ثلاث أسئلة أساسية : ـ 1/ هل أنّ القيادة الحالية هي مواصلة للتوجه العشائري ـ البيروقراطي أم هي في قطيعة معه؟ ـ 2/ ما هو برنامج هذه القيادة وأهدافها المباشرة في هذه الفترة بالذات؟ ـ 3/ هل هي تتهيأ حقّا للانقلاب والإجهاز على الفصل العاشر من قانون المنظمة، الذي يقرّ بالتداول على المسؤولية في مستوى المكتب التنفيذي؟ مما لا شكّ فيه أنّ الحركة النقابية التونسية مقبلة في غضون الأشهر القادمة على معركة مصيرية حاسمة، سيتحدد عـلى ضوء نتائجها مستقبل الاتحاد العام التونسي للشغل برمته. فإمّا انتصار وحيوية وبداية عمل جديد وجدّي، وإما هزيمة نكراء وسقوط وانهيار، وهو ما سيفضي هذه المرّة إلى تحلل وزوال. المراجع :
(1) فرحات حشاد : الحركة العمالية والنضال الوطني. إشراف وتقديم : عبد الجليل التميمي ـ زغوان : مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، جانفي/ كانون الأوّل 2002. (2) ورد ذلك في حوار لمجلة حقائق عـدد 227 ـ من 22 إلى 28 /12 / 1989 ـ بعنوان: " Les révélations de Habib Achour " (3) الزعيم النقابي أحمد تليلي ـ كفاح ومواقف (ص 461). تأليف: محمد علي المؤدب ـ طبع OMEGA ـ أفريل 1997.
#منير_العوادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحركة الطلابية التونسية في السبعينات
المزيد.....
-
4th World Working Youth Congress
-
وزارة المالية العراقية تُعلن.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر
...
-
بيسكوف: روسيا بحاجة للعمالة الأجنبية وترحب بالمهاجرين
-
النسخة الألكترونية من العدد 1824 من جريدة الشعب ليوم الخميس
...
-
تاريخ صرف رواتب المتقاعدين في العراق لشهر ديسمبر 2024 .. ما
...
-
وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر
...
-
يوم دراسي لفريق الاتحاد المغربي للشغل حول: تجارة القرب الإكر
...
-
وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر
...
-
الهيئة العليا للتعداد العام للسكان تقرر تمديد ساعات العمل لل
...
-
واشنطن توسع عقوباتها ضد البنوك الروسية و العاملين في القطاع
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|