|
تلبيس سياسي وتدليس حضاري
وليد المحب
الحوار المتمدن-العدد: 916 - 2004 / 8 / 5 - 11:21
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
هل يعرف إنساننا نفسه؟ قد يكون الجواب > مع استثناءات، وقد يكون > مع استثناءات ايضا. الا ان الاضرار الناجمة عن جهل الانسان بنفسه تكاد لا تذكر بالمقارنة مع الاضرار الناجمة عن جهل الدولة بنفسها، لان المسألة إذ ذاك تصبح مسألة انتحار جماعي. نتناول هنا مؤشرين يضعان معرفة دولنا بنفسها على المحك، الاول على الصعيد اللبناني ويتمثل بالدعوة لانشاء <<وسيط الجمهورية>> Ombudsman، والثاني على الصعيد العربي ويتمثل بالمزاعم <<الديموقراطية>>. لقد وُضع قبل اكثر من عام مشروع قانون لانشاء <<وسيط الجمهورية>> في لبنان، ويتم في الوقت الراهن تداول هذا الامر بين الراغبين في الدردشة السياسية بعيدا عن موضوع التجديد والتمديد، وليس من المستبعد ان يوضع ذلك المشروع في مجراه ويتم اقراره بعد الفراغ من الاستحقاق الرئاسي، اسوة بالكثير من القرارات الارتجالية. قد يقول قائل ان <<وسيط الجمهورية>> بات ضرورة للمواطن الذي يشعر بالعجز تجاه الجهاز الاداري المعقد، وان ذلك الوسيط يشكل طريقة اضافية لحماية الحريات وصون الحقوق. ويتم النظر الى ما يزيد عن مئة وعشرين دولة اعتمدت فكرة <<وسيط الجمهورية>> وطبقتها تحت مسميات مختلفة، على انها المثل الاعلى الذي ينبغي على كافة دول العالم الاقتداء به، حتى بات <<وسيط الجمهورية>> رمزا للحضارة. جميل ان نحلم ولكن الأجمل ان نكون واقعيين ونصدق مع أنفسنا بعد ان نعرفها. ما من عاقل يرفض الحرية والمزيد من ضماناتها، ولكن علينا ان نعلم ان <<وسيط الجمهورية>> يشكل اداة ضبط فائقة الدقة (Fine Tune)، ولا يزال مجتمعنا يفتقر الى ادوات الضبط البسيطة المتعارف عليها .(Standard) والحال كذلك يصبح انشاء <<وسيط الجمهورية>> غير ذي فائدة، ناهيك بحتمية دخوله كغيره من المؤسسات اللبنانية في دائرة التجاذبات السياسية وسقوطه في مستنقع المحاصصة الطائفية مع ما يترتب على ذلك من هدر للأموال العمومية. لقد طبقت الدول التي لم تشهد ازمات عميقة وعاشت حالة وئام مع شعوبها لفترات طويلة فكرة <<وسيط الجمهورية>> بأشكال مختلفة، وحددت له صلاحيات تتفاوت من دولة لاخرى، وذلك انطلاقا من خصائص مجتمعية متباينة حتى بين الدول المتجاورة، فلكل دولة منها ظروفها واحصاءاتها ونظام خاص بجهازها الاداري وعقلية سائدة ومزاج معين لدى مواطنيها... إن أيا من الاشكال المطبقة لهذه الفكرة، لا يصلح للاستنساخ والاستيراد الى لبنان، ولو أدخلت عليه تعديلات، فالمسألة عندنا ليست في مراقبة مواقع الخلل والعمل على اكتشاف الانتهاكات وتحري شكاوى الناس، بل في كيفية التعاطي مع هذا الخلل وذاك الانتهاك اللذين يطفوان على السطح ولا يتطلبان اعمال تنقيب. فالمسائل جلية لمن يريد ان يراها، وما نحتاج اليه في لبنان حاليا هو الحياة السياسية السليمة وما ينتج عنها من رأي عام فاعل واحترام القوانين النافذة والقيام الصحيح بالواجبات على مستوى الافراد والمؤسسات... وما المطالبة بانشاء <<وسيط الجمهورية>> الا عملية تلبيس قد تكون حسنة النية الا انها تبقى في نهاية المطاف قفزا فوق المشكلات، يستهدف تسجيل سبق في الوسط العربي ليس إلا. أما على الصعيد العربي، فقد بلغ الاستلاب الفكري حدا جعل معظم الدول العربية تجهل نفسها، الا انه لا يجوز وضع الدول العربية كلها في سلة واحدة واطلاق ذات الاحكام عليها بالتساوي. فمن بين هذه الدول فئة يصح فيها القول انها انسلخت عن تاريخها وتراثها وتنكرت لتوجهات شعبها وسلكت درب الديموقراطية المضللة وباتت غير قادرة على تطبيق تلك الديموقراطية من جهة، ولا تملك الجرأة على رفض دعوات تسويقها من جهة ثانية. وهكذا وضع حكام تلك الدول اوطانهم بين اكثر من مطرقة وسندان. ومثل تلك الدول تتغنى بالحياة البرلمانية وتدعي انها تأخذ بالمبادئ الديموقراطية، ولكنها على ارض الواقع تمارس نفاقا. فالحياة البرلمانية فيها لا تعدو كونها ستارة يتم من ورائها اعادة انتاج السلطة من خلال عدة ادوات يأتي في طليعتها قانون الانتخاب الذي تقوم السلطة بتفصيله على النحو الذي يخدم مصالحها وغالبا ما يعتمد الدوائر الصغيرة والكثيرة في بلاد محدودة المساحة وقليلة السكان بما يتيح السيطرة عليها جميعا ويؤمن وصول اعضاء السلطة وبطانتهم. ومثل هذه الدول ينشط اعلامها في الداخل والخارج معتمدا المبدأ الاعلامي الغربي القائل <<اكذب واكذب واكذب يستحل الكذب حقيقة في أذهان الناس>>، وهكذا يقتنع عامة الناس بأن الدولة العربية الديموقراطية الفلانية قد قطعت شوطا في التحضر، وواقع الحال يشير الى عكس ذلك اذ تغيب الحريات العامة بكافة الوانها، بل حتى تغيب العدالة. وبالمقابل، هناك من بين الدول العربية من لم ترفع شعار الديموقراطية، بل حافظت على كرامتها وآثر الحاكم فيها ارضاء رعيته بالدرجة الاولى ولم يثنه عن ذلك سعيه لبناء علاقات طيبة مع دول العالم الشرعية قاطبة، فجاءت النتيجة عدل الحاكم تجاه رعيته، وتعلق الرعية بالحاكم، واكتساب احترام أمم الارض. إن مصدر شرعية الحاكم يكمن في رضى المحكومين، والرخاء الاجتماعي هو احد اهم الاهداف التي ينشدها الحاكم الصالح. وهذا ما يندر وجوده، ولكنه موجود في وطننا العربي ولا ينقص إلا وقفة تأمل صادقة مع النفس، بعد التخلص من داء الهيمنة الثقافية Cultural Hegemony الذي أعمى بصيرة الكثيرين من ابناء أمتنا سيما في الاوساط المثقفة التي غالبا ما سارت في درب تحصيلها الثقافي بخط متوازن مع غربة في المشاعر نجم عنها خجل من الانتماء. وبلغت الهيمنة الثقافية مرحلة صار معها قول القناعة بمثابة كفر وسباحة بعكس التيار، وأجبر من وصل لتلك القناعة على ممارسة التقية السياسية، حفاظا على لقمة عيشه حينا وعلى حياته احيانا. الا ان الحقيقة تحرق من يحاول اخفاء نورها، والديموقراطية المزعومة لم تتحقق حتى في اكثر الدول تبجحا بادعاء الحضارة. ولا خير في ديموقراطية دولة لا تؤمن الرخاء لمواطنيها، فالكثيرون من ابناء الوطن العربي يذهبون لزيارة دول اجنبية، فيجدون في شوارع اكبر المدن الاميركية أناسا يبحثون عن قوتهم بين القمامة وفي مستوعبات النفايات. وكذلك الحال في الدول الاوروبية حيث يرفع أناس لافتات وسط زحمة محطات انتظار القطارات كتبت عليها عبارة <<أنا وكلبي جائعان أطعمونا>>. فهل تلك عدالة وحضارة تستحق الانجذاب اليها؟ وماذا استفاد الانسان من الحضارة المادية البحتة ومن تحليل تربة المريخ؟ ام ان العدالة والحضارة تقرر وجودهما وسائل الاعلام الخاضعة للوبيات المتحكمة بعقول شعوب العالم وبالتالي مصائرها؟ باسم الديموقراطية التي ينكشف زيفها حتى في عقر دارها، تنتشر وسائل اعلام في الوطن العربي لا هم لها إلا اثارة الشعوب على الحكام، بغض النظر عن طبيعة العلاقة بين الطرفين في هذا البلد العربي او ذاك، ولا تكترث هذه الوسائل الاعلامية لذهاب الصالح بمعية الطالح، من خلال فتح الباب على مصراعيه لانتقاد الحاكم أيا كان تحت شعار الرأي والرأي الآخر. وتستضيف في برامجها الحوارية اصحاب آراء متباينة، يجهد كل منهم لاثبات وجهة نظره و<<إفحام>> الآخر، وتنتهي تلك البرامج دون خلاصات مسببة الصداع لمن حاول متابعة الحوار، وشيئا من الاحباط لمن يحمل بصدق هموم امته. وليتها تخصص حيزا من فترات بثها لإلقاء الضوء على مراحل تاريخية مشرفة، لا بسبب الانشداد الى الماضي ولكن بسبب الحاجة الى تأكيد قدرة الحضارة العربية والاسلامية على انجاز ما عجزت الحضارات الاخرى عنه، وإثبات ذلك بمنهج تحبه المجتمعات العربية والغربية على حد سواء الا وهو المنهج البراغماتيكي القائم على قياس الامور بنتائجها. اذ تمتنع وسائل الاعلام الغربية عن الاشارة الى المراحل المشرفة من التاريخ العربي والاسلامي رغم اهتمامها مطولا بالاستشراق وهذا من حقها، ولكن اخراج تلك الفترات التاريخية من دائرة الضوء في وسائل الاعلام العربية امر مستغرب، واخراج الرخاء الاجتماعي ورضا المحكومين عن الحاكم في دولة عربية معينة من تلك الدائرة يندرج في السياق ذاته للنيل من اعتزاز ابناء امتنا بماضيها كله وحاضرها كله.
#وليد_المحب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|