يندرج السجال الداخلي حول الإصلاح، في النظام السياسي الفلسطيني ، في إطار المعركة المحتدمة، منذ نجاح قمة كامب ديفيد في نزع جميع الأقنعة عن إسرائيل، التي لا تريد الخروج من الخندق , كما لا تريد لأية منازلة، أو مقاربة ، أن تخرج عن ميزان القوة العسكرية المجرد .. كما يندرج السجال حول الإصلاح في المعارك الدائرة في المجتمع الفلسطيني ، بين الداعين إلى أية تسوية مع الإسرائيليين، من جهة, وآخرين يدعون إلى تسوية ممكنة ومقبولة تستجيب ، على الأقل، لروح اتفاق أوسلو ومكاسبه الراسخة للطرفين , والاتفاقات الموقعة بينهما، سيما وان هذه الاتفاقات جميعها أكدت في مقدمات نصوصها ومرجعياتها على تنفيذ قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 . و هناك فئة أخرى لا تريد للتسوية أن تقوم بين إسرائيل والنظام الفلسطيني الراهن، وهم يقتنصون فرصا كي يتمكنوا من جعل الحل العسكري هو "اللعبة الوحيدة في المدينة" . كما انهم من مواقعهم السياسية يريدون للمعركة أن تكون "نظيفة" :أي أن تقوم إسرائيل في عهد شارون بتصفية النظام الفلسطيني المعتدل ,لأنه يحظى بشرعية والكفاح واعتراف دولي وعربي مناسب، لم يكن ممكنا تجاوزه، كما ظهر جليا من خلال المعركة الدائرة، منذ اشهر، والتي توجت بحصار الرئيس عرفات، وفشل هذا الحصار في حصاده السياسي، على الأقل حتى اللحظة .
إن المعركة الدائرة في المجتمع الفلسطيني ليست على الفساد المالي والإداري، كما يحلو للبعض أن يصور ، من دون أن يعني ذلك أن إصلاحا إداريا وماليا ليس ضروريا، بل هو مطلب سبق المعركة، وبات ملحا من وجهة نظر البعض، وربما يكون مدخلا للسياسة الوطنية التي لا تمكن التقاليد السياسية الفلسطينية من طرحها، كمشكلة تحتاج إلى حل سريع .كما أن المعركة لا تدور على تغيير فني يطال مسؤولاً هنا واخر هناك، بل إن المعركة اليوم حول الإصلاح هي صراع على قيادة المعركة السياسية وتحديد اتجاهاتها ,من دون إغفال لأية مشكلات تتعلق بالفساد، أو أية بنى سوسيولوجية تعوق المجتمع وتجعل من إدارة المعركة، بهوامش حركة وحرية أوسع، أمرا متعذرا .
سجال الإصلاح الذي تدحرج مع فك الحصار عن الرئيس عرفات بدأ بمشكلة وطنية، عندما رأت أحزاب وقوى سياسية أن تسوية رفع الحصار عن الرئيس وكنيسة المهد أظهرت ضعفا في الأداء الفلسطيني، أثناء إعادة احتلال المدن الفلسطينية في إطار "عملية السور الحامي "وما رافقها وسبقها من رؤى وأحلام وأوهام ونتائج.
هنا تبدو المعارك في جوهرها السياسي، لا الاجتماعي، قاصرة وخجولة. فالمجتمع الفلسطيني انقسم على تقييم نتائج العمليات الانتحارية من دون أن يرافق هذا الانقسام أي حوار جدي على الورق وفي وسائل الإعلام، ما جعل المعركة تسير بمشاعر الجمهور المتأججة، وليس بخطة عمل تحتكم لمعايير العمل الوطني وتحدد الفائدة والضرر . وانقاد العمل الوطني الفلسطيني بطريقة تجريبية كادت أن تجر ويلات سياسية، وما تزال تهدد بجر المجتمع إلى معارك هو في غنى عنها. وخصوصا تلك المعارك التي تترك جميع ميادين العمل الوطن،ي وتحصر العمل الوحيد في اللعبة المحببة للجيش الإسرائيلي وفي ميدانه العسكري .
وحتى لا يكون الكلام عاما ومبهما، فقد نحتاج إلى مراجعة للعمليات الانتحارية، وهي عدة عمليات استهدفت المدنيين الإسرائيليين، بتوقيت سياسي وهدف سياسي لا علاقة له بالعمل الوطني، ولا بحاجات الجمهور حتى لو أراد . كما أنها لم تجلب إلا الضرر للمجتمع الفلسطيني .
والضرر هنا ليس فقط بانتقاماً إسرائيلياً قوياً وتدمير خطير لبنية المجتمع المدني الفلسطيني , بل بتحويل الأصدقاء إلى أعداء، وفي احسن الأحوال تجريدهم من عناصر قوتهم التضامنية، لو كانت هجمات الجيش الإسرائيلي لفرض حل سياسي بالقوة لم تسبقها عمليات انتحارية . إن هذه العمليات، في معظمها ، عمليات ضارة لأنها تفقد الفلسطينيين وسائل مقاومة جديرة بالاحترام وجديرة بجلب نتائج سياسية افضل بما لا يقاس بالنتائج الراهنة . إن استناد هذه العمليات على فكرة اختراق العمق الأمني للمجتمع الإسرائيلي هي مجر د وهم ,لأن الأمن يمكن اختراقه من دون خسارة الرأي العام في إسرائيل وفي أوروبا وأميركا ، التي باتت تتحدث عن الفلسطينيين كإرهابيي،ن وليس كمناضلين من اجل الحرية، كما هم في الواقع، حيث خسر الفلسطينيون في هذه المعركة جزءا كبيرا من رصيدهم الأخلاقي ، خاصة بعد هجمات 11 أيلول , مثلما خسروا من رصيدهم السياسي، ومن جيوبهم ، لا من جيوب غيرهم . بل إن رصيد السلطة الوطنية على المستوى الشعبي ، تراجع كثيرا بعد سلسلة العمليات الانتحارية . مقابل تزايد رصيد هؤلاء الذين ما يزالون يتأملون ولا يميزون بين ما يريده الجمهور وما يحتاجه.
ومن نافلة القول إن العمل العسكري الفلسطيني ينبغي أن يستهدف إسرائيليين وإيقاع الخسائر بهم، ولكن ليس في المدن والمراقص وصالات الأفراح، بل في ساحات المعارك مع عناصر الجيش والأجهزة الأمنية، وليس مهما عدد القتلى .المهم أن تبقى روح المقاومة عالية وتحافظ على تفوقها المعنوي كتعبير عن حركة تحرر وطني ذات بعد إنساني. كما أن المقاومة الفلسطينية كان ينبغي لها أن تأخذ بعين الاعتبار الاتفاقات الموقعة بين الجانبين ، ورسائل الاعتراف المتبادل، وحصر المعركة في الأراضي المحتلة، ما يبرر جميع العمليات التي تطال عسكريين ومواقع عسكرية ومنشآت عسكرية وأخرى مدنية في الأراضي المحتلة . إن اختراق العمق الأمني الإسرائيلي ممكن، من خلال عمليات تفجير تطال هذا العمق، من دون تعريض حياة المدنيين للخطر. وهذا حرص لا ينبع من الترفع عن إيذاء إسرائيليين، ولكن ينبع بالدرجة الأولى من الفائدة التي تجلبها العملية، إن كانت تستهدف، كما يقال، العمق الأمني الإسرائيلي، كما يمكن القيام بعمليات وتحذير المدنيين في المكان قبل وقوع الانفجار .
وإذا كانت هذه العمليات تستهدف إيقاع اكبر عدد ممكن من الخسائر، فالأولى أن تستهدف حواجز ودوريات الجيش الإسرائيلي، التي تقوم بإهانة الفلسطينيين، وتمنعهم من التنقل والخروج إلى أعمالهم، وتغتال بعضهم، وتصطاد فتيانهم، وترسلهم إلى المعتقل .لقد بررت العمليات الانتحارية استمرار الحصار الجائر أمام الرأي العام، كما بررت إعادة احتلال المدن، وهذا كان وما يزال هدفا محببا لدى الجيش الإسرائيلي . وهنا ينبغي أن لا تذهب بنا الأوهام نحو الاعتقاد بعزوف الجيش الإسرائيلي عن عدوانه إذا توقف الفلسطينيون عن المقاومة، ولكن هناك فرق أن يخرج الجيش إلى احتلال المدن، وفي يده وإعلامه حق الانتقام والرد على عملية انتحارية تستهدف قلب المدن الإسرائيلية وتقتل عددا لا بأس به من المدنيين ، وبين أن يخرج لعملية عدوانية من دون مبررات قوية .إن قوة إضافية لمقاومة العدوان ستكون كفيلة بتقليل الخسائر لدى الفلسطينيين ,كما يسهل عليهم كسر عدوانه ورده خائبا . ويسهل على الدول العربية والصديقة وبعض الدول المحايدة أن تتحرك مع المجموعة الدولية بهوامش حركة أوسع بما لا يقاس, ويضع في أيديها أوراق قوة أفقدتها إياها العمليات الانتحارية .لقد اضطرت الدول العربية إلى إدانة العمليات الانتحارية وتشبيهها بالإرهاب، على الرغم من تفهم دوافعها وأسبابها العميقة المتمثلة بالاحتلال .
ومن هذه الاعتبارات التي سقطت سهوا في سجال الإصلاح تخلخلت ووهنت متاريس الدفاع عن السلطة الفلسطينية ومشروعها الوطني المتمثل بالاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية .
لقد نقلت العمليات الانتحارية المعركة إلى شرعية السلطة، وهذا هو الخطر في السجال . مع أن المقاومة البطولية الباسلة للمواطنين الفلسطينيين وأجهزة الآمن وتحديدا عندما كان الطابع الرئيسي ذا بعد مدني مع بعض الأنشطة العسكرية الدفاعية لاقت أوسع تأييد وتعاطف دوليين، وحدا بالإدارة الأميركية أن تطلب من الجيش الإسرائيلي الخروج فورا من بيت حانون، في تأكيد واضح لا لبس فيه على حصانة مناطق السيادة الفلسطينية .
وبالعودة إلى سجال الإصلاح، فان الخطوات التي اتخذها الرئيس عرفات لم تظهر كتوجه فلسطيني أصيل، وإنما تحت ضغط خارجي يستهدف احتواء محاولات المس بشرعية السلطة ومشروعها الوطني ، ومقاومتها للاحتلال .
بيد أن في هذا السجال ما يستوجب وضع الإصبع على الجرح واستدراك الخطر . فإذا كانت الإصلاحات المطلوبة تمكن من فتح طريق للأمل بإدارة معركة سياسية على أسس واضحة ومحددة لا تختلط فيها الفوضى بالتخطيط، ولا يختلط فيها الهدف بأساليب العمل , فان الإصلاحات تستدعي التركيز على تغيير أساليب العمل، بما يفيد ويؤدي إلى فتح ثغرة حقيقية في جدار العبث الذي دخل إليه العمل الوطني، مؤخرا ، وادخل معه الشعب الفلسطيني في نفق من اللامبالاة والعدمية، وترك الجمهور يحدد ما يريد وينفذ ما يريد,وليس ما يحتاج. ولم تقم السلطة بكل واجباتها في هذا الإطار لحماية المجتمع الفلسطيني وتركه فريسة اجتهادات تضر بالمصالح الوطنية العليا إن لم نقل غير ذلك. أي إن لم نقل إن تلك السياسة تمثل اتجاها لا وطنيا، أو اتجاها يعبر عن العدمية الوطنية وله برنامج متكامل لنزع الشرعية عن السلطة الوطنية الفلسطينية، بصرف النظر عن قيادتها .فالشرعية تنبع من العقد الاجتماعي القائم على وجود مسؤولية للسلطة وواجبات أيضا، في مقدمها تحديد شروط العمل وأساليبه وأهدافه، التي تم انتخاب السلطة والرئيس على أساسها . فقد انتخبت السلطة الوطنية ،كحلقة في إطار حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 وليس أي شيء آخر . ولا يجوز الخلط والتشويش على هذا البرنامج التعاقدي تحت أي ظرف .
كما يحق للفلسطينيين أن يتمتعوا بإدارة شؤون المجتمع المدني على أسس قانونية .ولهذا ربما كانت البادرة الأولى التي تعطي إشارة ذات مغزى لسجال الإصلاح أن يبدأ الإصلاح من قرار تعزيز القضاء، انطلاقا من فصله عن السلطات الأخرى في الواقع، وليس على الورق وبصورة متأنية وقوية .
أما الخطوات الأخرى التي يحتاجها المجتمع الفلسطيني للإصلاح فهي كثيرة أهما التأكيد على هدف بناء دولة القانون ، وتجديد انتخاب جميع حلقات السلطة من الرئاسة إلى المجلس التشريعي إلى المجالس البلدية والقروية ، ونقل السجال في الحياة إلى سلسلة برامج وطنية ، وليس إلى دزينة من الأشخاص الذين يعملون في الحقل السياسي تحت مسميات مختلفة .فطرح برامج العمل أمام الجمهور و طرحها على التصويت هو ما يعطي هذه البرامج شرعيتها وليس أي أمر آخر .
إن استسهال التركيز في سجال الإصلاح على تغيير الوجوه والأشخاص فقط، ليس إلا قنابل دخانية للتغطية على مشاريع سياسية في إطار طيف من الأهداف الوطنية وغيرها .وهي مدخل لنزع شرعية السلطة أو تعزيزها في إطار الصراع السياسي الجاري بين اتجاهات داخلية وخارجية متباينة من جهة، وبين أطراف وطنية وإسلامية ذات برامج سياسية متباينة أيضا .
وربما يشكل الإصلاح السياسي والإداري والقانوني معيارا مهما لتعزيز الشرعية الفلسطينية وتجديدها على أسس اكثر ديموقراطية .وربما يشكل رافعة لاستنهاض وطني شامل في المعركة يعزز من قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود ودحر العدوان الإسرائيلي ،وفتح الطريق أمام تنمية في جميع المجالات ، وهي أمر يشكل رافعة وطنية ومجتمعية للصمود، وليست مجرد شعارات للاستهلاك في لحظة أزمة . وينبغي النظر والعمل على ما يحتاجه الجمهور وليس ما يريده .
صوت الوطن العدد 84 حزيران 2002