واخيرا انهى مؤتمر الضباط العراقيين اعماله في لندن وسط حشد اعلامي كبير , مثيرا جدلا واسعا بين االكثير من الاطراف العربية والعالمية و العراقية المعارضة والمستقلة , و ترقبا حذرا لما سيأتي به من نتائج وقرارات .
ولا غرابة في ذلك فان المؤسسة العسكرية وخلال العقود الاربع الاخيرة أسيء استخدامها بشكل مقصود ومتعمد من قبل السلطة الدكتاتورية المتسلطة على العراق وأفرغت من محتواها و شكلها الحقيقي ومن مهماتها الاساسية فتم تحويلها من مؤسسة هدفها حماية أمن وسلامة الوطن والدفاع عنه في حالة الخطر والعدوان كما هو الحال في معظم الدول الاخرى الى مجرد وسيلة بيد السلطة الحاكمة لحماية مكاسبها والمحافظة على كرسي الحكم , وهذا مما خلق نوعا من الحاجز النفسي بين مختلف ابناء الوطن وبين العسكر بعدما تحولت وظيفته من حماية المواطنين الى اداة لقمعهم والعدوان على دول الجوار وخوض الحروب الخاسرة .
وهذا الشعور لم يعد قاصرا على جزء معين من الشعب العراقي دون غيره بل شمل كل من يعيش على ارض الرافدين دون استثناء , ففي كوردستان العراق ولدت اجيال وترعرعت وهي لم تر من العسكر سوى بساطيل تدوس ارضهم , وتهشم وجوه رجالهم , وتحطم صدور نسائهم , ولم تسمع منهم سوى دوي المدافع وسلاسل الدبابات وهي تدمر قراهم ومزارعهم , وهدير الطائرات وهي تحرقهم بالاسلحة الكيمياوية وتطاردهم في الجبال والوديان , وهكذا الحال بالنسبة لبقية ابناء الشعب العراقي في وسط وجنوب العراق الذي ذاق الأمرين من السياسات القمعية الحكومية التي اتخذت من العسكر الوسيلة الرئيسة لتحقيق ماربها , وابلغ شاهد على ذلك الجرائم التي أرتكبت ضد المدنيين العراقيين في مناطق الاهوار والقسوة اللامتناهية التي استخدمت في قمع الانتفاضة الباسلة في الوسط والجنوب .
ولكن حتى نكون منصفين وبغض النظر عن كل ما يذكر بحقهم يجب ان لا ننسي ان العسكر هم جزء لا يتجزء من هذا الشعب فهم اباؤنا واخوتنا وابناؤنا والذي اصابهم من ظلم الطغمة الحاكمة ليس بقليل ويكفي فقط الذل والهوان الذي لاقوه من جراء اقحامحهم في الحروب الطويلة و غير المتكافئة التي اشعل فتيلها الطاغية... دراكون العراق ... وتكفي نظرة لاعداد الاسرى والكم الهائل للدبابات المدمرة على طريق الموت في الجنوب بعد حرب تحرير الكويت لتعطينا تصورا واضحا لمستوى الدمار الشامل الذي تعرضت له هذه المؤسسة التي كانت في يوم ما رابع اكبر قوة عسكرية في العالم !
ان المتتبع لاعمال هذا المؤتمر يستطيع ان يلمس ومن خلال طروحات المشاركين فيه مدى التغيير الحاصل في النظرة المستقبلية للعسكر بشأن العراق الجديد ..عراق ما بعد صدام ...
ولنأخذ مثلا الاشخاص المشاركين فيه فاغلبهم من العسكريين الذين يمكن ان نقول عنهم او كما يدعون هم على الاقل انهم لم يتورطوا في جرائم ضد الانسانية او كما قال احد المشاركين ليس فيهم من تلطخت يداه بدم العراقيين , اما بالنسبة لتخلف البعض منهم عن الحضور واقصد نزار الخزرجي ووفيق السامرائي فهذا شيء ايجابي لصالح المؤتمر وليس ضده حيث انهما وحسب راي الكثير من العراقيين لا يحظون بأي قبول بل وحتى انهما يعتبران عند البعض كمجرمي حرب ممن كان لهم دور مباشر او غير مباشر في جرائم الابادة التي وقعت ضد المدنيين من الكورد والعرب والتركمان والاشوريين والدليل على ذلك الدعاوى المرفوعة ضدهما في المحافل الدولية من قبل المتضررين... بل بالعكس لكان المؤتمر قد فقد الكثير من التأييد والمصداقية بمشاركة مثل هؤلاء .
ومنذ البداية رفع المؤتمر شعارا اساسيا له مفاده فصل العسكر عن السياسة و ان مكانهم هو في الثكنات والمعسكرات وليس على سدة الحكم , وقصر دورهم في مساعدة ابناء الشعب في تغيير نظام الحكم الدكتاتورى فقط والذي ينتهي بعد عملية التغيير وبناء المؤسسات المدنية وقد تم التاكيد على هذا المبدأ في ميثاق الشرف الذي اصدره في ختام جلساته فكأنه بذلك يريد طمأنة الشعب مقدما بان النظام الجديد سيكون مدنيا بعيدا عن سلطة العسكر وعن كل ما يؤدي الى عسكرة المجتمع برفضه السماح بانشاء الميليشيات المسلحة الاهلية والتي وظفت سابقا باسوأ صورة كوسيلية لترهيب وترويع المدنيين .
تعامل المؤتمر بكل واقعية مع مجريات الاحداث في العالم حينما اعترف في ميثاقه صراحة بتأثير الدور الدولي والاقليمي على القضية العراقية ورحب بأي دعم خارجي يمكن ان يساعد في التخلص من الدكتاتورية بعيدا عن الشعارات الفضفاضة التي لم تعد مقبولة من احد .
وتضمن الميثاق بعض النقاط والبنود التي اسبغت عليه طابعا حضاريا شفافا لم نألفه نحن المدنيين العراقيين من اخوتنا العسكريين سابقا منها اقراره لدستور دائم وتداول سلمي للسلطة بعيدا عن الانقلابات العسكرية التي كانت السمة المميزة لكل انظمة الحكم المتعاقبة في العراق واصلاح القوانين العسكرية والمدنية والغاء المحاكم الاستثنائية ومحاكمة مجرمي الحرب . نص الميثاق كذلك على امور اخرى جيدة كحصر صلاحيات التعبئة والاستنفار في حالات الدفاع عن الوطن بالبرلمان وحده ومطالبته بسياسة خارجية يكون فيها العراق عنصرا فاعلا في الاستقرار الاقليمي والدولي والأخذ بمبدأ حسن الجوار وبناء علاقات جيدة مع الدول الاخرى وهذا مما يوحي بانه سيكون جيشا محايدا لا رغبة له في الدخول في حروب مستقبلية .
وحسنا فعل عندما اشار الى مسألة اساسية تكاد تعصف بالمجتمع العراقي في ظل الحكومة المستبدة الحالية عندما اكد على ضرورة اشاعة روح التسامح الديني وتامين الحقوق لجميع اطياف الشعب و نبذ التمييز العرقي والقومي والطائفي التي كانت وما تزال من اهم المخاطر التي تحيق بالعراق عموما .
الا ان من اهم النقاط التي تسجل لصالح المؤتمر هي اقراره بكل صراحة لنظام الحكم الديمقراطي الفيدرالي التعددي في عراق المستقبل وكأنه بذلك قد توصل الى مكان الجرح الحقيقي في جسد الوطن ووضع يده عليه اذ ان مشكلة العراق الاساسية كانت وما زالت هي القضية القومية واقصد بها المشكلة الكوردية التي ظلت تنزف طوال عقود وكانت سببا مباشرا في احيان كثيرة وغير مباشر في احيان اخرى ... في كل الكوارث التي حلت بالعراق وادت الى فقدان الامن والسلام فيه وابقت البلاد في حالة من عدم الاستقرار المزمن والحروب المستمرة التي خلقت روح العداء بين اطياف الوطن الواحد وخاصة بين العرب والكورد ونعتقد بان اقراره لهذه النقطة هو عين العقل والصواب وهو الضمان الوحيد لتجنيب العراق من الدخول في اي حروب قادمة لان في الاعتراف بالفيدرالية اعتراف بحق الكورد في تقرير مصيرهم , ذلك الحق المغبون الذي كان وراء رفعهم السلاح بوجه اخوتهم العرب دائما , وبما انهم قد اختاروا عدم الانفصال عن وطنهم العراق وتبنوا خيار الحكم الفيدرالي فان هذا الخيار هو الوحيد الذي وبأقراره من الجميع سيضمن عراقا مستقرا قويا موحدا تنعم فيه اجياله حاضرا و مسقبلا بالرفاهية والسلام .
ان من الملفت للنظر ان العسكريين المشاركين في المؤتمر قد تصرفوا بذكاء عندما اجمعوا على تحميل قيادة النظام واركانه المسؤولية الكاملة عن كافة الجرائم والحروب والمجازر التي ارتكبت ضد ابناء الشعب العراقي وخاصة ضد الكورد وبذلك قاموا بتبرئة ساحتهم وتنصيع صفحتهم من كل الذي جرى ! بالرغم من ان اكثرهم قد ترك العراق بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 وقسم منهم تركه قبل سنوات معدودة لا غير , وهم من ذوي الرتب العسكرية العالية اي انهم عملوا في الجيش منذ مدة طويلة وشاركوا في معظم الحروب مما يعطينا الحق في ان نتساءل ... ببراءة وليس بخبث... عما كان يفعلونه قبل هذا التاريخ ! وما اذا كان تواجد بعضهم في كوردستان العراق لمجرد النزهة و السياحة والاصطياف ليس الا ! !
مهما قلنا ومها سيقال يبقى هذا المؤتمر خطوة في طريق توحيد الصف والعمل الجماعي لغرض التسريع في تخليص العراق من الطغمة الدكتاتورية البغيضة الحاكمة وليس لنا سوى الانتظار لنرى ما الذي سيتحقق بعد المؤتمر والعبرة ليست بالاقوال وانما بالاعمال .