|
حسوني والبحر
فارس اردوان ميشو
الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 11:05
المحور:
سيرة ذاتية
حسوني إسم لعامل بسيط ، من مدينة الثورة الفقيرة . حسوني يعود أصله إلى إحدى قُرى اهوار مدينة العمارة . هَجر أبوه قريته هرباً من ثأر عشائري ، مُصطحباً معه والدتهُ وزوجته ألمريضة وإبنه الوحيد حسوني، حيث لم يُرزق غيره لمرض زوجته . سَكن والده في منطقة ألصرائف خلف السدة ، حيث بنى لعائلته صريفة صغيرة ، ليعيشوا فيها ، حالهم حال باقي المُهاجرين من الجنوب . إشتغل والده في معامل ألطابوق القريبة من منطقة سُكناه . أرسل إبنه حسوني للدراسة في أقرب مدرسة إبندائية ، وكان حسوني يقطع مسافة طويلة للذهاب الى المدرسة والعودة منها . توفيت والدة حسوني نتيجةً لمرضها المزمن ، وقامت جدته لأبيه برعايته . أخرجه والده من المدرسة لفقره ولحاجته المادية . إشتغل حسوني مع والده في معامل الطابوق , لم يتزوج والده ثانية ، بسبب فقره ومرضه . توفى والده ، وبقى حسوني يعيش مع جدته في الصريفة . كان حسوني يميل الى الطول ، أسمر البشرة ، ذو عيون سوداء ضاحكة ، لهُ غَمازتين جميلتين ، تبرزان عندما يضحك ، وتضفي على وجهه وسامة وجمال ، كانت أسنانه تبرز عندما يضحك ، وشَعره أسود فاحم ، وله صوت جميل ، كمعظم أبناء الجنوب ، بهذه المواصفات كان حسوني يُعتبر شاباً مليحاً . إنتقل حسوني للعمل في أحد المعامل الصناعية . وهناك تعرف على الفكر اليساري ، وأصبح عاملاً يسارياً ، كل الذي فهمه من اليسار، إنه يُدافع عن الفقراء والمضطهدين ، ويدعوا لإنصافهم ، وتوفير حياة كريمة لهم . تزوج حسوني من فتاة يتيمة ، من سكنة الصرائف ، إسمها ( شذرة ) وكانت تصغره بعدة سنوات ، كانت شذرة جميلة ، سمراء البشرة ، ذات عيون عسلية واسعة ، رشيقة مع ميل للهزال ، كانت شذرة أُمية لاتعرف ألقراءة والكتابة ، ولكنها كانت ربة بيت جيدة , وبعد فترة قصيرة من زواجه توفيت جدته ، وأصبح وحيداً إلا من شذرة . قامت ثورة 14 تموز ، وكان حسوني ، أكثر الناس فرحاً وترحيباً بهذا ألتغيير ، لإنه وكما يعتقد إن التغيير جاء لمصلحة الفقراء ، وبعد أشهر من الثورة رزق بولد سماه سلام . تغيرت حياة حسوني بعد الثورة . وكان من أوائل الذين تملكوا داراً جديدة في مدينة الثورة . دار صغيرة ، من غرفتين وغرفة جلوس ، ومرافقهما ، لاول مرة يسكن حسوني في بيت ، مبني من الطابوق ، الذي كان يصنعه عندما كان عاملاً في معامل الطابوق ، ولاول مرة يكون له حمام داخل الدار ، ومرافق صحية حقيقية ، وماء نقي ونظيف ، ويجري داخل أنابيب ، وكهرباء تُنير البيت بدلاً من فوانيس النفط . تغيرت حياته تغييراً كاملاً ، وتغيرت رؤيته للحياة ، فأصبحت ألحياة أجمل وأحلى . بنى حسوني غرفة أُخرى في الدار ، تحسباً للمستقبل ، كان حسوني إبن الاهوار يحلم بأن تكون لديه حديقة صغيرة في بيته ، ولكن تصميم الدار ومساحته لاتسمح بذلك ، وحاول أن يزرع الورود داخل سنادين ، ليعوض النقص ، كل ذلك ليُضفي جمالية على بيته ، وأخذ يُعلق تصاوير جميلة لمناظر طبيعية وزهور على جدران البيت . كان حسوني فرحاً بعشه الصغير ، ويريد تكوينه كما كان يحلم ، وحلمه بسيط ، كل ما كان يريده عثش صغير جميل يجمع عائلته . رُزق حسوني بولد أخر أسماه ( عادل ) ، وكان حسوني فرحاً ومزهواً بطفليه ، ووفر لهم كل ما يستطيع ، وكد وتعب في سبيل أن ينال ولديه التعليم بكافة مراحله ، وأكتملت سعادته ، بقدوم طفلة سماها ( زهرة ) لانها كما كان يقول زهرة حياته ، وكانت تملأ يومه مرحاً وفرحاً ، وكانت طفلة جميلة ، وذكية ، ونشطة . كان حسوني يحترم المرأة ، وكان يحب زوجته بطريقته الخاصة ، لم يرفع يوماً صوته عليها ، أو تفوه بكلمة نابية ضدها ، وكانت هي ايضاً تحبه وتغازله بقولها له ( حسوني أبو عيون التضحك ) وكان يُعجبه هذا الغزل كثيراً ، وكان يُشبه طيبة شذرة بطيبة الخبز الذي تخبزه . ومرة قرأ له إبنه سلام مَثلاً يابانياً يقول ( لا تضرب المرأة حتى بوردة ) فأحب حسوني اليابانيين وأُعجب بهم . حاول حسوني كثيراً مع شذرة ، لتترك لبس العباءة ، وترمي (الشيلة ) عنها وتُسفر ، ولكنها كانت تتوسل وتقول له ،( عيوني حسوني أبو عيون التضحك ، هذا لبس أُمي وحبوبتي أى جدتها ، وأني ما أعرف أمشي مفرعة ــ اى حاسرة الرأس ــ وبلا عباية ) فتركها حسوني وشأنها . كان حسوني يحب الذهاب الى السينما ، ومُشاهدة مختلف أنواع الأفلام ، وكانت تُعجبه أفلام ــ شارلي شابلن ــ وأفلام ــ الكابوي ــ وكان يُسميها ( أفلام العصابة ) . في البداية كان حسوني يأخذ شذرة معه ، ولكنها بدأت تُزعجه بالبكاء على كل مشهد مؤلم في الفلم ، فإذا ضُرب البطل بكت ، وإذا بكت إمرأة بكت ، وإذا سقط طفل بكت ، وكانت تبحث عن اي سبب لتبكي ، فتركها حسوني في البيت ، وأخذ يذهب للسينما مع ولديه فقط . أهم الأعياد لحسوني هو عيد العمال ، كان يحتفل بالعيد بطريقته الخاصة ، يلبس بدلة كُحلية اللون ، وقميص أبيض ، ويرتدي ربطة العنق المُسماة ( بابيونة ) وكانت حمراء اللون ، تعلم لبس البابيونة من شارلي شابلن ، ويتعطر ، ويُسرح شَعره ، وينظر في المرآة ويقول ضاحكاً ( معيدي ولابس باينباغ ) والباينباغ هو ربطة العنق ، إلى أن علمه إبنه سلام أن يقول بابيونة ، عندما تنتهي كل هذه الطقوس ، يذهب الى وسط مدينة بغداد ، ويسير بالشوارع مزهواً بعيده ، ومُتقبلاً نظرات الاستغراب ، وكلمات الاستهزاء التي تلاحقه بكل راحبة صدر . بعد هذه الجولة ، يذهب الى أقرب حانة في الباب الشرقي ، ليحتسي ربعية عرق ، ويعود بعدها الى بيته . استمر حسوني بطقوسه هذه الى رحيله . عشق حسوني البحر ، وكيف لا وهو إبن الآهوار التي تمتد مياهها ، بامتداد الأفق ، تعرف حسوني على البحر من الأفلام السينمائية ، ، أحب البحر لعُمقه ، وزرقه مياهه ، ولأمواجه المتلاطمة ، التي تضرب السواحل بقوة ، وللسفن الكبيرة التي تمخر عبابه . إزداد حسوني غراماً بالبحر ، حين شاهد فلم ( الشيخ والبحر ) من تمثيل الممثل الكبير ( سبنسر تريسي ) وأُعجب بشخصية الشيخ ، وبقوته ، وبإصراره على صيد السمكة الكبيرة ، وكذلك أُعجب بالممثل وكان يُسميه ( سمنسر مريسي ) وحاول أن يُقلده ويتصرف مثله . ولحسوني نظرية ، جميلة ، حول أصل ( سمنسر مريسي ) حيث يقول أن والده حكى له عن شخص ، من أقربائهم في الهور وكان أسمه ( مريسي ) إختفى فجأةً ، ويقال إنه ركب البحر الكبير ، وذهب الى البلد الجديد ، وتزوج هناك ورزق بولد وسماه ( سمنسر ) ، وكان حسوني ، ينظر باعجاب لشجاعة قريبه ( مريسي ) الذي هاجر الى عالم جديد . وكان حسوني يحلم أن يكون مثله ، ويركب البحر ، ويكتشف عوالم جديدة . كان حسوني يحب مُشاهدة ن اللأفلام التي تروي قصص ، أبطال الأغريق ، مثل فلم ( هرقل الجبار ) وفلم ( هرقل يحطم السلاسل ) وفلم ( إخيل الجبار ) وكذلك الأفلام التي تصور حروب طروادة ، المأخوذة عن ملحمة الألياذة لهوميروس . مُلاحظة ( حسوني لم يكن يستطيع قراءة الترجمة العربية على الأفلام ، لانه بطئ القراءة والترجمة سريعة ) . جُن حسوني بالبحر ، حين شاهد فلم ، مأخوذ من الألياذة ، عن مُحاربين عائدين من طروادة ، وفي طريقهم الى بلدهم ، يمرون بجزر مسكونة ، بنساء ، جميلات ، ساحرات يُغنون بالحان ساحرة ، تجذُب المُحاربين ، وتجعلهم يقفزون من السفن ، ويسبحون الى الجزر ، وهناك يختفون نهائيأً . كان المُحاربون ، يسدون أذانهم بمواد تمنع سِماعهم لهذه الأنغام ، كانت النساء جميلات جداً ، وقسم منهم كان بشكل حوريات البحر ، عشق حسوني الحوريات ، وذاب حباً بهن ، ولم تفارق صورتهن خياله ، وكان يحلم أن يُشاهد الحوريات يوما ما . مرةً كان سلام يشرح لحسوني عن أحد الأديان في الصين ، حيث كانوا يؤمنون بإن روح المتوفي ، تحلُ بالمخلوقات التي كان يُحبها ، هنا بدأ حسوني بالضحك الشديد حتى إستلقى على ظهره ، وقام وقال وهو ما زال يضحك ( يعني حسوني المعيدي يصير حورية بحر !!! ) . الأوقات الجميلة لا تدوم طويلاً . وخاصة في بلد مثل العراق . رحلت زهرة بمرض أُصيبت به ، ولم يجدوا له علاحاً . إنكسر حسوني ، وأحس أن قطعمة عزيزة منه قد ذهبت ، قل مرحه ، وضحكه ، وتغيرت تصرفاته ، وقل إختلاطه بالناس . وفي ليلة كئيبة ، أحاط كلاب السلطة ، بداره وألقوا القبض على إبنه سلام ، بسبب نشاطه السياسي ، وإنتماءه لحزب يساري . إختفى سلام ، ولم يُعثر له على أثر ، إزداد إنعزال حسوني وشذرة ، وقل الكلام بينهما ، وتحولا الى كائنين كئيبين حزينين . وكانت الضربة القاضية ، حين استشهد إبنه عادل في قادسية الطاغية ، وعاد الى بيته ملفوفاً بعلم . عزل حسوني نفسه داخل غرفته ، وعافت نفسه الأكل والشرب . تعب حسوني ومل وسئم الحياة ، وقرر الرحيل الى عالم أعدل وأرحم . قاطع حسوني العالم ، وهن جسده وضعف ، ولم يكن قادراً على الحركة ، ممدداً طول الوقت على سريره ، وكانت شذرة تجلس بجانبه ، باكية ، حاضنة كفيه ، وتكلمه متوسلة ، قائلةً ( عيوني حسوني أبو عيون التضحك ، لتعوفني وتروح ، تعرف أني يتيمة ما عندي غيرك ، إذا رحت إنت ، ويت أروح وين أولي ) وتبقى جالسة بجانبه تنوح . في يوم مُعين ومعروف ، قام حسوني جامعاً كل قواه ، حلق ذقنه ، وأستحم ، لبس بدلته الكُحلي ، وربط البابيونة حول عنقه ، تعطر وسرح شَعره ، ووقف أمام المرآة ، وقال ضاحكاً ( معيدي ولابس بابيونة ) ، ثم ذهب وحضر لنفسه كأس عرق ، وأشعل سيكارة ، وعندما إنتهى من طقوسه ، ذهب الى شذرة وقبلها على جبينها ، وعاد وتمدد على سريره منتظراُ الرحبل . تجمع أصدقاءه وجيرانه حوله ، لوداعه ، وللقيام بواجبات الدفن ، فجاءة فتح حسوني عينيه ، ومد يده في الهواء ضاحكاً ، كان يرى زهرة بشكل حورية البحر ، تتقافز حوله مرحة ضاحكة بكركرات طفولية ساحرة ، ورأى إبنيه ، وقد مدا اليه يديهما ، يدعوانه للرحيل معهما . تلفت حسوني باحثاً عن شذرة لترحل معه . أغمض حسوني جفنيه الى الأبد ، وذهب مسافراً مع أحبابه ، راكباً البحر الكبير الذي أحبه . وقد سَمعه أصدقاءه ، يقول بصوت ضعيف وواهن ( جيتك مريسي ، جيتك مريسي ) . إنهمك أصدقاءه بمراسيم الوفاة ، ولم ينتبه أحد الى كومة من سواد مركونة في إحدى زوايا البيت ،تنوح وتئن بصوت كمواء قطة فقدت صِغارها . إختفت شذرة ، ولم يعرف أحداً مصيرها ، تحول الدار الذي كان مُترعاً بالمحبة ، والفرح ، الى دار مُظلمة ، كئيبة ، تسكنها الأرواح . يُقسم الجيران ، بأغلظ الأيمان ، بانهم يسمعون في الليالي المُقمرة ، ضحكات طفلة ، بكركرات ساحرة ، وحركات فرحة ، مرخة ، داخل الدار . وبعضهم يقول إنه شاهد في يوم معين ومعروف ، شبح يجوب الدار ، لابساً بدلة كُحلية اللون ، ويربط حول عنقه شريط أحمر . وقسم أخر يدعي إنه في الليالي الحالكة الظلام ، يشاهدون شبح إمرأة مُتشحة بالسواد ، تطوف ، حول الدار ، وتنح وتئن بصوت ، كمواء قطة ، فقدت صغارها .
#فارس_اردوان_ميشو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القتلُ بالكلمات
-
البُلبُل السَكْران
المزيد.....
-
القبض على -سفاح صيدنايا- ومقتل شجاع العلي في سوريا
-
زيارة مثيرة للجدل: رئيس المخابرات العراقية يلتقي أحمد الشرع
...
-
ماذا نعرف عن تعيينات الحكومة الانتقالية السورية الجديدة؟
-
حقائب مهجورة وزجاج على الأرض.. هكذا بدا مطار صنعاء الدولي بع
...
-
بولندا تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي والتركيز على ا
...
-
الدرك المغربي يداهم قرية ويحرر 19 شخصا كانوا محتجزين في ظروف
...
-
شولتس يعلن اتفاقه مع ترامب على تنسيق المواقف بشأن النزاع في
...
-
ريابكوف: موسكو ترى مؤشرات على انطلاق سباق تسلح جديد بالفعل
-
الحوثيون يقصفون مجددا مطار بن غوريون
-
أوروبا 2024.. هزيمة استراتيجية التصعيد
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|