|
!بلد المليون شهيد .. ومعتقل
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 913 - 2004 / 8 / 2 - 12:26
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
تتبوأ الجزائر مكانة متميزة، واستثنائية، فى قلب كل عربى.وهذه المكانة المرموقة لم يحصل عليها الجزائريون بالصدفة وإنما استحقوها عن جدارة بفضل نضالهم البطولى دفاعا عن استقلالهم الوطنى الذى انتزعوه من براثن أعتى القوى الاستعمارية ودفعوا ثمنه غاليا.. أكثر من مليون شهيد. غير أن صورة الجزائر فى العقل الجمعى العربى انتقلت فى الأعوام الأخيرة من خانة الاعتزاز والفخر الى خانة الحسرة بعد أن غرقت بلد المليون شهيد فى دوامة العنف الأعمى.. لكن ليس بين الجزائريين وقوى الاستعمار الأجنبية كما كان الحال فى الماضى، وإنما بين أبناء الوطن الذين أداروا ظهورهم للديموقراطية والحل السلمى للتناقضات بين الجزائريين واحتكموا للغة السلاح والدم لتصفية الحسابات فيما بينهم، وكان الثمن الفادح لهذا العمى السياسى آلافا مؤلفة من القتلى والجرحى، فضلا عن خسائر فادحة للأمن القومى والاقتصاد الوطنى والسلام الاجتماعى. ومع التراجع الملحوظ لهذه المواجهة المجنونة وما صاحبها من شلالات دم.. تنفس الجزائريون الصعداء، واستبشر أشقاؤهم العرب خيرا بعودة السلم المدنى الى هذه البلاد التى أنهكها سفك الدماء فى المواجهة مع المستعمر الأجنبي تارة وفى الاقتتال بين أهل البيت تارة أخرى. ولم يكن تراجع حمامات الدم هو السبب الوحيد لهذا التفاؤل الواسع النطاق داخل الجزائر وخارجها. وإنما عزز هذا التفاؤل تعهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتفعيل الديموقراطية. بيد أن الفرحة سرعان ما تبددت فى ظل استشراء مسلسل مطاردة الصحافة المستقلة والتنكيل بالصحفيين والزج بهم الى غياهب السجون، الأمر الذى جعل كاتبا فى صحيفة "الخبر" الجزائرية واسعة الانتشار – هو ايوانوجان- يتساءل بحسرة: "هل هو قدر محتوم ان تكون الدولة فى الجزائر إما غائبة تماما، تحل محلها الفوضى وقانون الغاب، أو تكون موجودة عن طريق الأساليب القمعية فقط". أما سبب هذا التساؤل الحائر فهو ان محكمة الجلفة حكمت فى شهر يونية الماضى على مراسل صحفى وناشط فى مجال حقوق الانسان بشهر حبس بتهمة القذف. وانتهى مسلسل مدير صحيفة "لوماتان" – محمد بن شيكو – بسجنه سنتين نافذتين، فى قضية ذات علاقة بالتشريع المنظم لحركة رءوس الأموال ظاهريا، لكنها قضية سياسية بحتة بالنظر الى بيانات مؤسسات الدولة ذاتها الممثلة فى مديرية الجمارك التى لم تجد أى مخالفة للقانون فى دخول "بن شيكو" ارض الوطن عائدا من باريس وبحوزته سندات مالية بالعملة الوطنية. وفى ظل هذا الزخم أصدرت محكمة "تيبازه" حكما غيابيا فى حق مراسل جريدة "البلاد" يقضى بحبسه أربعة شهور نافذة. لتستمر بذلك قصة هذا الابن غير الشرعى الذى ترفض السلطة الجزائرية تبنيه، أو بالأحرى تعطيه حق الكفالة، وفق أهواء الاشخاص المتواجدين فى مناصب السلطة. هذا الابن غير الشرعى – وفقا لتعبير نفس الكاتب فى جريدة "الخبر" – هو الصحافة المستقلة التى ولدت ذات يوم سنة 1991 اثر "خطيئة" ارتكبها رئيس الحكومة آنذاك، مولود حمروش، بإعداده لقانون إعلام جديد بكسر احتكار الدولة والحزب الواحد سابقا لوسائل الإعلام. وسارع مولود حمروش بمجرد دخول هذا القانون حيز التنفيذ الى تحفيز صحفيى القطاع العمومى آنذاك لإنشاء صحف مستقلة. وصفق الجميع لهذه المبادرة واعتبروها خطوة عملاقة نحو التغيير الديموقراطى فى الجزائر. لكن حالة الطوارئ جاءت وتم تجميد العمل بالقوانين وبدأت الانحرافات من كل جانب. كما بدأت حشود من الجزائريين تلتحق بالجبال حاملة السلاح فى وجه باقى الجزائريين. وتم تجنيد البعض لمواجهة هؤلاء الذين تحولوا الى إرهابيين ووصفوا "بالاستئصاليين" فى حين لاذ البعض الآخر بالعقل وطالب بالحوار، وكانت نتيجة ذلك وصفهم بـ "المناولين للإرهابيين" وبما أن قانون الإعلام لم يستثنى من القوانين المجمدة، فإن الصحافة بدورها أصبحت رهينة بين الموقفين، فإما أن تصنف فى خانة الاستئصال وإما فى خانة المناولة للإرهاب ولم يسلم من رصاص الإرهابيين لا الصحفيون المحسوبون على الاستئصال ولا المحسوبون على المناولين لقاتليهم، كما لم تسلم هذه الصحافة الحديثة النشأة والجيل من الصحفيين الذين ابرزتهم من الإجراءات القمعية للسلطة دون تمييز بين المنتمين لهذا الجناح أو ذاك، واختفت صحف عديدة بعدما أوقفت بقرارات إدارية واختفت صحف أخرى لاسباب اقتصادية.. وخلفت هذه المرحلة أرامل ويتامى من عائلات الصحفيين، كما تحول صحفيون آخرون الى تجار وآخرون إلى لاجئين.. وكل هذه الأوضاع تم إلصاقها بحالة الطوارىء والوضع الأمنى أملا فى عودة الأمور الى وضعها الطبيعى بعد استتباب الأمن حيث تستعيد مهنة الصحافة طابعها النبيل، لكن العكس هو الذى يحدث. وعن ذلك "الذى يحدث بالعكس" يقول "إيوانوجان". أنه بينما تتغنى السلطات بقيادة الرئيس بوتفليقة بتحسن الوضع الأمنى وفتح الأبواب لعودة الإرهابيين "التائبين" الى صفوف المجتمع، فإنها دعت إلى طى صفحة الماضى مع الجميع إلا مع الصحافة. وفى رأيه ان جريمة الكاتب الصحفى "بن شيكو" أنه صدق الدولة الجزائرية وقوانينها التى رفعته من درجة صحفى أجير فى جريدة "المجاهد" اليتيمة الى ناشر يقرر اختيار خطه المستقل. وجريمة الصحفى "حفناوى جول" والصحفى "فانى معمر" مراسل جريدة "البلاد" وغيرهما من الصحفيين الذين يمثلون بانتظام أمام مصلحة المساس بالأشخاص لشرطة العاصمة، أنهم صدقوا أكذوبة خلو السجون الجزائرية من معتقلى الكلمة. وليس هذا الغضب المكتوم مقتصرا على كاتب فرد، فمن الملحوظ أن ردود الأفعال الغاضبة قد تصاعدت داخل الجزائر بعد صدور الأحكام بالسجن على مدير نشر جريدة "لوماتان" محمد بن شيكو والصحفى وناشط حقوق الإنسان حفناوى جول المحبوس بسجن الجلفة .. وبالإضافة الى أسر الصحفيين المسجونين نددت جبهة القوى الاشتراكية بهذه الأحكام وذكر بيان الأمانة الوطنية لجبهة الإنقاذ ان "حبس محمد بن شيكو يعبر عن نية صناع القرار فى الجزائر فى فرض الصمت على الجزائريين". أما التحالف الجمهورى الذى يرأسه رضا مالك فقد اعتبر أن حبس بن شيكو خطأ فادح على المستوى السياسى منددا بهذا الإجراء الذى وصفه بالقمعى. كذلك الحال بالنسبة لمنبر الديموقراطيين الذى اتهم النظام الحالى بمحاولة إسكات الصحافة الحرة ، موضحا ان الفترة الرئاسية الأولى لبوتفليقة اتسمت بسجن السيد عينوش بسبب مواقفه السياسية، وتتواصل فترته الرئاسية الثانية بسجن حفناوى جول ومحمد بن شيكو بعد سلسلة من المضايقات والمتابعات القضائية ضد عدد كبير من الصحفيين. وربما كان رد الفعل الأكثر إثارة من نصيب وزير الثقافة والاتصال الجزائرى السابق عبد العزيز رحابى الذى أصدر بيانا ندد فيه بالحكم القاسى ضد بن شيكو ولخص أسباب هذا الحكم فى ثلاثة عوامل: الأول – يتمثل فى الاستغلال السياسى للعدالة الذى أدى الى بروز بعض القضاة الذين أصبحوا فى خدمة موازين القوى. العامل الثانى – وجود تداخل فى السلطات الذى أفرز عددا من مراكز القوى التى تسير البلاد. أما العامل الثالث فيتمثل فى "بروز الرشوة وثقافة اللاعقاب" التى كتب عنها بن شيكو وغيره من الصحفيين. وتقتضى الأمانة الإقرار بأن الجزائر لا تحتكر سياسة حبس الصحفيين أو مطاردة الصحافة الحرة والمستقلة، فهذه تكاد ان تكون سياسة عربية شاملة، ورغم ان الحكومات العربية عودتنا على إدمانها للخلافات فيما بينها وعدم الاتفاق على موقف موحد إزاء أى خطر من الأخطار التى تهدد وجودنا ومصيرنا، فإنها تفاجئنا دائما بـ "وحدة الصف" و"وحدة الهدف" عندما يتعلق الأمر بخنق النذر اليسير من الحريات الموجودة فى الأوطان العربية، وفى المقدمة منها حرية الصحافة التى تواجه حصارا من كل حدب وصوب! لذلك.. فإننا عندما نتضامن مع زملائنا الصحفيين الجزائريين الذين يرزحون فى غياهب السجون، فإنما نتضامن مع الصحفيين فى سائر أنحاء العالم العربى، ومع حرية الصحافة العربية التى تتعرض لطعنات فى الظهر والقلب والوجه.. وتحت الحزام. والأهم.. أن هذا التضامن ليس مجرد تضامن مع زملاء مهنة، وليس مجرد دفاع عن شرف مهنة البحث عن المتاعب. هى بالأحرى مقدمة لا غنى عنها للدفاع عن مشروع الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعي والثقافى والمعرفى النابع من داخل الوطن العربى. والذى لم يعد يقبل التأجيل أو التسويف .. لا فى الجزائر ولا فى غيره من "الجزر" العربية الأخرى التى تعوم فوق بحيرات راكدة وآسنة منذ قرون .. وآن لها ان تذوق طعم التغيير. ونقطة البداية – كما يقول إبراهيم نوار رئيس المنظمة العربية لحرية الصحافة فى دراسة قيمة عن انتهاكات حرية الصحافة فى العالم العربى – هى تحرير التشريعات الصحفية العربية من كل القيود المكبلة لحرية الصحافة سواء حرية التعبير أو النشر أو الملكية أو الإصدار أو الطبع أو التوزيع، وإلغاء العقوبات الإدارية والقانونية التى تمكن السلطات التنفيذية من فرض الرقابة على المطبوعات أو البرامج الإذاعية أو التليفزيونية، والدعوة الى إلغاء النصوص التى تسمح بتعطيلها إداريا، أو سحب تراخيصها، وإلغاء جميع النصوص التشريعية التى تسمح بتوقيع العقوبات السالبة للحرية على الصحفيين فى الجرائم المتعلقة بممارسة مهنتهم، وكذلك جميع الإجراءات المقيدة للحرية بما فيها الحبس الاحتياطى. علما بأن أى مكسب تحققه الجماعة الصحفية تتجاوز آثاره اسوار بلاط صاحبة الجلالة.. وتمتد إيجابياته فى سائر أنحاء المجتمع وقواه الحية.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة البازار.. أقوي من مدافع آيات الله
-
مـجمــوعـة الـ 15 تستـعـد لإحيــاء روح بانــدونــج
-
النـكــوص الـديمقــراطي
-
مؤتمر طهران يفتح النار على منظمة التجارة العالمية
-
حكاية الصحفيين مع وزارة نظيف.. وكل حكومة
-
صـديـق إسـرائيـل يحـاكـم صـدام حســين
-
لماذا هذا التلذذ بحبس الصحفيين؟!
-
الـــوفــــد
-
الصحفيون ليسوا قضاة.. لكن الوزراء ليسوا آلهة
-
!استئصال الناصريين
-
العرب مذلون مهانون فى قمة الثمانية الكبار
-
مكسيم رودنسون .. مفكر وضع أصبعه فى عين - حكيم أوروبا -
-
شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة
...
-
لماذا أصبحت الطبقة السياسية سميكة الجلد؟!
-
خصخصة حق تقرير المصير.. هى الحل
-
مهرجان »كان« السينمائي أهم من قمة تونس العربية
-
يحيا العدل.. الأمريكي !
-
اكبــر ديمقـراطيـة .. فى بـــلاد تركب الأفيــال
-
الغضب .. أفيون العرب!
-
جــريمـــــة الـقــــرن الحــــادي والعشـــــــرين
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|