|
قيمة الانضباط في مجتمعاتنا...!
باهي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 02:32
المحور:
المجتمع المدني
دار العُرب و الإسلام نكبها الزّمان في العصر الحديث بنكبة الإفلاس الحضاري و أحد أهمّ أسباب ذلك الإفلاس هو غياب قيمة "الانضباط "...
نعيش في العصر الحديث كعرب و كمسلمين ظاهرة متفرّدة من نوعها تتمثّل في غياب الانضباط جملة و تفصيلا من حياتنا و السّؤال : ما الّذي غيّب هذه الخصلة من مجتمعاتنا، ما الّذي جعل خصلة الانضباط في عيشنا عزيزة و قليلة مثل ماسة نادرة...حياتنا بكلّ مظاهرها و إرهاصاتها و مجالاتها تكاد تخلو من ركيزة أساسيّة في أيّ بناء أو تنظيم مجتمعي تسمّى "ركيزة الانضباط"، و يبدو لي اليوم أنّ بلداننا أصبحت مثل عربات أو مقطورات فقدت فراملها في منحدر و هي تهبط بسرعة جنونيّة إلى واد سحيق تُجهل أغواره و مهالكه...!
عزّ الانضباط في أخلاقنا و تعاملاتنا و مواعيدنا و كلّ علاقاتنا و أنمحى له كلّ أثر من مسؤولياتنا و واجباتنا و غاب كلّيا من مؤسّساتنا و إداراتنا و من بيوتنا و من داخل أسرنا مع أهالينا و أولادنا و حتّى مع ذواتنا و أنفسنا إلى أن تبلّدت أحاسيسنا و غمرتنا اللاّمبالات و ضيّعنا البوصلة الّتي تحدّد لنا اتّجاهات و معالم الطّريق...!
الانضباط هو مثل هيكل التّسليح في أيّ خرسانة أو عمود في مبنى الدّولة أو المجتمع، فهو الّذي يجعل البناء متماسكا و يعطيه القوّة و الثّبات و بدونه سرعان ما يتآكل كلّه من أساساته إلى سقفه و تظهر عليه التصدّعات و التشقّقات و ينتهي به الأمر لا محالة إلى الانهيار و هذا ما حصل مع مجتمعاتنا و بلداننا حيث أننّا نعيش بالفعل حالة إنهيار تامّ في كلّ مجالات الحياة...في الفكر و الأخلاق و العلاقات و الأداء و في كلّ شيء بسبب كما قلت غياب الانضباط من حياتنا...!
الانضباط نوعان: الأوّل معنوي و الثّاني مادّي.
الإنضباط المعنوي تحكمه و تضبطه الأديان و جملة الأخلاق و التّقاليد و الأعراف و المعايير الإجتماعيّة المتداولة و هو ذو منشأ شخصي إرادي خاضع لقرار الفرد دون المجتمع مثل إلقاء التحيّة، أمّا الانضباط المادّي فتحكمه و تضبطه مجموعة القوانين الوضعيّة و مؤسّسات الدّولة المكلّفة بالمراقبة و الرّدع و يقع مباشرة تحت عين المجتمع و لا يمكن للفرد أن يتنصّل من مسؤوليته إن ثبت عليه الفِعل مثل عدم الإلتزام بقانون المرور...
و النّوعان يتداخلان و يتشابكان و تضيع ملامحهما في كثير من مظاهرهما و تجلّياتهما، فالموظّف المحاصر بالقوانين و الهيئات الّتي تراقبه و تضبط أداءه و علاقته مع مؤسّسته أو ربّ عمله خاصّة إذا كانت أساليب التّسيير المعتمدة قديمة أو غير علميّة لا يعدم (الموظّف أو العامل) غالبا حيله و وسائله في التّهاون في أداء واجباته تجاه مؤسّسته إذا كان هناك خلل كبير في النّظام أو في تكوين شخصيته...لن تنفع كلّ القوانين و اللّوائح في ترويضه على الانضباط و الرّفع من مستوى أداءه بل على العكس سيجد دائما وسيلة للتهرّب و للكسل و لعدم الانضباط لساعات العمل و للمجهود المطلوب منه...إلخ
قلت غاب الانضباط من حياتنا في كلّ شيء، فإن وعدك مثلا أحدهم بأن يلتقيك غدا على السّاعة الخامسة صباحا في مكان ما ثمّ حرمت نفسك من النّوم و حرصت على أن تكون في الموعد و المكان المتّفق عليه فإنّك غالبا ما تبقى في انتظاره ساعة أو ساعتين و قد لا يأتي أبدا و إن لقيته فإنّه لا يتورّع عن التّهوين و الاستخفاف بما فعله و لن يتردّد في تقديم أعذار واهية مثل قوله نسيت أو لم أنم جيّدا أو لم أنهض باكرا...إلخ
عندما تذهب إلى أيّ مصحّة حتّى الاستعجاليّة منها فإنّك ترى المواطنين و قد قهرهم الفقر و المرض و هم منتشرون متهالكون على بعضهم البعض من يأسهم و أوجاعهم ينتظرون الطّبيب بين ساعة و أخرى...ساعة المواقيت القانونيّة المعلّقة تقول أنّ ساعة الاستطباب الصّباحيّة هي الثّامنة صباحا و مع ذلك فقد تجاوزت التّاسعة صباحا...ثمّ التّاسعة و النّصف...العاشرة..الحادية عشرة...و قد يمضي النّهار كلّه و لا يأتي هذا الطّبيب و إن تجرّأت و سألت متى يأتي هذا الطّبيب فلا أحد يعلم، لا الممرّضين و لا الحرّاس و لا الإداريين و لا حتّى المسؤولين...!
مؤسّسة الطّيران المدني الجزائريّة و هي مؤّسسة عموميّة ذاع صيتها في الجزائر و خارجها بِ Air peut être لشهرتها بعدم الانضباط في مواعيدها الّتي اعتاد المضطرّون من مسافريها و زبائنها على إنتظار طائراتها لمدد زمنيّة قد تصل في بعض الأحيان إلى عدّة ساعات....!
هناك نكتة رائجة تقول أنّ أحد الأجانب زار الجزائر و أبدى إستنكاره ممّا سمعه عن عدم إنضباط القطارات في هذه البلاد بمواقيتها مستشهدا بالقطار الّذي استقلّه بنفسه حال وصوله قائلا لأحد رفقائه الجزائريين: أنظر هاهو ذا القطار وصل في موعده و أنتم تزعمون أنّ القطارات عندكم لا تلتزم بالمواعيد..! فردّ عليه ذلك المواطن الجزائري ضاحكا: لا يا صديقي أنت مخطئ فهذا القطار هو قطار الأمس...!
في المساجد أيضا لا ينضبط الأئمّة و خطباءها أيّام الجمعة و لا يلتزمون بمواعيد و أوقات ثابتة لأداء الخطبة فبعضهم يبكّرون و بعضهم يتأخّرون و بعضهم يطيلون و البعض الآخر يخفّفون و هكذا...!
حتّى المدرّسين و المعلّمين يستخفّون بمسؤولياتهم و مهامهم فتراهم يتغيّبون و يتأخّرون في الحضور إلى قاعات الدّرس و كثير منهم يتهاونون و يتكاسلون في أداء واجبهم التّربوي بحجّة أو بغير حجّة...!
في كلّ أوجه الحياة الّتي نعيشها يوما بيوم و ساعة بساعة غاب الانضباط و تلبّست النّاس روح اللاّمبالاة و الاستخفاف بكلّ شيء و تساوت في أعيننا صغائر الأمور و كبائرها و لم نعد نتحرّج و لا نهتمّ لشيء أبدا...
لا محالة أنّ كلّ الشّعوب و المجتمعات تعاني قدرا من اللاإنضباط يتناسب طرديّا مع درجة التقدّم و التّنظيم الّذي حقّقته و تتوافق كمّيا و الحالة الفكريّة و الثّقافيّة الّتي تميّزها عن بعضها البعض و في هذه الحالة يسهل تصنيف ظاهرة غياب الانضباط ضمن مستويات مقبولة لا تتخطّى في كثير منها عتبة الإستثناء...لكن في حالتنا كشعوب عربيّة إسلاميّة فالظّاهرة استشرت مثل الوباء إلى درجة تحوّلت من الاستثناء إلى القاعدة...!
ليس منّا إلاّ من رأى أو عاش أو على الأقلّ سمع عن مدى انضباط القطارات و الطّائرات و الحافلات في بلدان الغرب و كلّنا لا يتردّد لحظة في إبداء إعجابه و ضرب الأمثلة بانضباط عمّالهم و موظّفيهم و مسؤوليهم و مدرائهم...كلّنا يعبّر باندهاش و انبهار عن المدى الّذي وصلوه في الانضباط و التّدقيق في أوقات العمل و المواعيد و الواجبات و المهامّ و المسؤوليات...الصّينيون و اليابانيون و الكوريون أصبحوا عندنا منارات لا تُجارى في الجدّية و الانضباط و تقديس العمل...!
أمّا نحن فقد أصبحنا أمثلة للكسل و الفوضى و اللاّإنضباط...أصبحنا مثارا للسّخرية و التّنكيت و التفكّه من الغير و بين بعضنا البعض...!
نحن الجزائريون اعتدنا ترديد مثل شعبي شاع بيننا باللّغة الفرنسيّة هو "Rendez-vous arabe " نطلقه و نكرّره ساخرين هازئين في المواقف الّتي يغيب فيها الانضباط مثل المواعيد الّتي نقطعها فيما بيننا...مثل أن تتّفق مع زميل أو صديق على اللّقاء في وقت محدّد فيأتي متأخرا عن الموعد و ليلطّف من إنزعاجك و يغطّي على تهوينه من قيمة الانضباط يُعلّق بوقاحة و ربّما و هو يضحك بقوله: "Rendez-vous arabe " تأكيدا و تصريحا على تعوّدنا نحن العرب على عدم الاكتراث بقيمة الإنضباط في حياتنا...!
#باهي_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزائريّون و المصريّون في مسرح الدّيكة...!
-
وافق الحاكم المحكوم...!
-
الخمار و اللّحية قضيّتا الجزائريين الأساسيّتين...!
-
العصفور الحزين
-
حكاية قبيلة بني لاهيه
-
زنزانتي الخوف
-
مدينتي العربيّة المسلمة....؟!
-
كان لي رأي حين أبديته، ساقوا عليّ الملامة و قالوا أنت حمارُ.
...
-
عقيدة الولاء و البراء هل تصلح للعصر الحالي....؟
-
تيسون....
-
رغم التّدليس و التّزييف إلاّ أنّ الّتاريخ لا يرحم و لا يجامل
...
-
مرض التّفكير، أعراضه، علاجه و طرق الوقاية منه...!
-
هل من أمل في نهضة المسلمين و المرأة عندهم عورة و شيطان يُبطل
...
-
خسئتم مشيخة الجهل و النّفاق، فأنتم مصيبة الأمّة و بلاءها الأ
...
-
لدين الإسلام دور يصعب إنكاره أو المرور فوقه...!
-
سطور من الفصل الثّاني عشر من رواية كرة الثلج
-
هل إسلام الغالبيّة ممسوخ أم منسوخ....؟!
-
على من يكذب أمين منظّمة المؤتمر الإسلامي....؟!
-
احتقان، شغب..و سخط عامّ! الفصل الأوّل (2)
-
نعم أنا مسلم و لكن....؟!
المزيد.....
-
بيان مشترك للمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بشأن الأونروا.. م
...
-
بيان مشترك -بريطاني فرنسي ألماني-: -الأونروا- لا يمكن استبدا
...
-
روسيا تكشف عن جرائم مروعة لقوات أوكرانيا في كورسك وتخطر الأم
...
-
رغم قطع إسرائيل العلاقات معها.. وكالة الأونروا تواصل عملها ف
...
-
الأونروا تواصل عملها في غزة والضفة رغم الحظر الإسرائيلي
-
زاخاروفا تعلق على زيارة زيلينسكي لمعسكرات التعذيب في ذكرى ال
...
-
إسرائيليون يحتفلون بإغلاق مقر الأونروا في القدس
-
الأسرى التايلانديون المفرج عنهم يصلون إلى مستشفى في تل أبيب
...
-
عاجل | أبو عبيدة: كتائب القسام ستفرج غدا السبت عن الأسرى الص
...
-
استطلاع: أغلبية الألمان تؤيد تقليل عدد اللاجئين وتقييد الهجر
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|