|
هل للدين فائدة تذكر؟
جلال حبش
الحوار المتمدن-العدد: 2995 - 2010 / 5 / 4 - 23:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(ما هي وظيفة الدين الأساسية؟) دعوني أطرح هذا السؤال المُلح على المؤمنين والمتدينين. إن الإجابة على هذا السؤال يضع أمامنا حلول كثيرة مُدهشة ومذهلة، ولا يجب أن نعتقد أن هنالك إجابة واحدة فقط لهذا السؤال، سنكون سذجاً إن نحن توقعنا ذلك. ولكن لكم أن تتخيّلوا مدى الدهشة التي قد توفرها كل إجابة من هذه الإجابات على حدا. حسناً؛ لنطرح الإجابات المتوقعة لهذا السؤال ولنناقشها سوياً، ولنتمتع بالدهشة التي سوف تمنحها لنا هذه الإجابات الواحدة تلو الأخرى.
(1) معرفة الله: كثير من المتدينين الذين سألتهم هذا السؤال، أجابوا أن وظيفة الدين الأساسية هي معرفة الله، وان الرسل والأنبياء جاؤوا إلى هذا العالم من أجل أن يُعرفوا البشرية إلى خالقهم وإلههم. ولكن الدهشة الحقيقة من وراء هذه الإجابة تكمن في أن لا أحد يعرف الله!
المؤمنون يرون الله بشكل مختلف، كل واحد منهم يرى الله بطريقة مختلفة عن الآخر، فالمسيحيون لهم رؤيتهم الخاصة عن الله، وكذلك المسلمون، وكل فرقة وكل مذهب من هاتين الديانتين تختلف في رؤيتها عن الله وعن تصوّراتها عنه. فهنالك المُجسّدون، وهنالك الرافضون للتجسيد، والمتصوفة لهم تصوّرات مغايرة عن تصورات الآخرين. هنا نجد أن المعرفة شيء ذاتي للغاية، في حين أن المعرفة أمر موضوعي، أو هكذا يجب أن يكون.
ما هي المعرفة وكيف تتكوّن. ماذا نقصد عندما نقول بأننا نعرف شخصاً أو شيئاً ما؟ هل بإمكاني أن أمسك أحدكم وأُملي عليه صفاتي فأقول له: اسمع؛ أنا شخص مزاجي، وعصبي، وقليل الكلام، ولكنني طيّب، وشره في التدخين، لكنني بصحة جيّدة، وأنا رومانسي للغاية، وزني 98 كيلو وطولي 172سم وعمري 36 سنة. فهل بهذا الكلام يكون الشخص قد عرفني؟
إن معرفة المؤمنين بالله هي كهذه المعرفة تماماً، ولأنها معرفة ناقصة فإن لكل واحد منهم تصوراته الخاصة عن الله، والمحصلة النهائية أن لا أحد يعرف الله حقاً. ولكنهم يعرفون صفاته التي هي أساساً صنيعة بشرية، إذ ليس من الممكن على الإطلاق اجتماع صفات مطلقة متناقضة، فلا يُمكن مثلاً أن يكون هنالك إله رحيم بالمطلق وشديد العقاب بالمطلق فكلا هاتين الصفتين متناقضتين وهذا التناقض يجعل أحد الصفتين أو كلتيهما غير مطلقة (نسبية) .
فمثلاً عندما نقول إن رجلاً ما حليم وهادئ الطباع، ثم نقول (ولكنه عندما يغضب يكون كالوحش الكاسر) فإن هذه الصفة الجديدة أو الطارئة تجعل الصفة الأصيلة صفة نسبية مباشرة، وهذا أمر طبيعي بالضرورة. ولكي يكون الله رحيماً وشديد العقاب في ذات الوقت، فإن إحدى الصفتين يجب أن تكون طارئة لتكون الأخرى هي الأصلة، فهو إما رحيم بشكل استثنائي وطارئ، أم هو شديد العقاب بشكل استثنائي وطارئ، ولكنه لا يُمكن أن يكون رحيماً وشديد العقاب (الاثنان) بالمطلق، لأن هذا يُحدث تناقضاً. وهذا التناقض الذي نجده في صفات الإله تجعلنا مقتنعين تماماً بأنها ليس سوى صفات ألبسها البشر على آلهتهم حتى تكتسب صفة الكمال وتكون بذلك مستحقة للقب الإله. وهذا نرى أن الدين لا يُحقق لنا معرفة فعلية عن الله، بل هي معرفة زائفة ومتخيّلة، والتناقض الذي فيها يكشف هذا الزيف.
(2) الطمأنينة: كثيرون كذلك يرون أن الدين يهب الطمأنينة للنفس، ونسمع الكثيرين يقولون إنهم يشعرون بالراحة النفسية عندما تطأ أقدامهم المسجد أو يدخلون الكعبة أو يقرأون القرآن أو يسمعونه، وما إلى ذلك من مشاعر الراحة والطمأنينة التي يشعرها بعض المتدينون عند قيامهم بطقوس وشعائر بعينها، والحقيقة أن هذا الأمر وارد الحدوث ولاشك، ولكن في المقابل فإن هنالك أشخاص يشعرون بالشيء ذاته لدى ممارستهم لطقوس وشعائر أخرى. فبإمكان أحدهم أن يجد الراحة في الاستماع إلى الموسيقى، أو ممارسة اليوغا، أو الرياضة أو تناول قوالب الشيكولاتة، هذه الأمور تجلب الراحة والطمأنينة، وكلها أمور مفهومة، ولكن ما ليس بمفهوم هو أن تجبر أحداً لأن يستشعر الراحة والطمأنينة بذات الطريقة التي تستشعر بها أنت. وهل فعلاً قد تأتي الراحة بحد السيف والإرهاب كما حدث في معارك وغزوات المسلمين في عهودهم الأولى؟
وأقول لؤلئك الذين سوف يشهرون في وجهي آيات من نوع (لكم دينكم ولي دين) أو (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) أقول لهم: أرجوكم، أرجوكم توقفوا عن خداع أنفسهم قبل خداع الآخرين فهذه الآيات منسوخة لأنها آيات مكية نسختها آيات السيف المدنية بل وحتى أن آية السيف جاءت في سورة التوبة والتي كانت آخر سورة ألفها محمد قبل أن يموت، فأرجو توقفوا عن ترديد تلك المقولات المكررة. فالإسلام لا يعترف أصلاً بمسألة التعددية الدينية والتعايش السلمي، وتلك النزعة السلمية أو المُسالمة للدعوة الإسلامية إنما كانت بسبب أن المسلمين لم يكونوا أقوياء كفاية وكان عدد الكفار والمشركين أكثر، فكان الوضع الطبيعي أن يظهروا بمظهر المُسالم المحب للسلام، ولكن وجه الإسلام الحقيقي ظهر عندما قويت شوكته وعندما كثر عددهم، فجاءت آيات القتال والجهاد واستمرت حتى بعد موت محمد.
الطمأنينة أمر ذاتي وشخصي جداً، فإذا رأيتَ أنتَ أن قراءة القرآن تهبك الطمأنينة فهذا شأن يخصك، فالأمر سايكولوجي في النهاية، ولكن لا تفرض ذلك على الآخرين، ولا تجبرهم عليه، فأنا شخصياً يزعجني صوت الأذان، وأستاء منه جداً، ليس لأنه أحد أمارات التغول على حريات الآخرين وحسب، بل لأن عدداً كبيراً من أصوات المؤذنين سيء جداً وبشع، ولا يُمكن أن تؤذن في الناس جميعاً بمثل هذا الصوت المزعج عبر مكبرات الصوت دون أن تراعي أن هنالك آخرين غير مسلمين، أو أن هنالك مرضى قد يزعجهم الصوت المرتفع، أو أن هنالك طلاب يحتاجون إلى أجواء هادئة للمذاكرة. على المؤمنين أن يخترعوا طريقة أخرى للتنبيه للصلوات لأن هذه الطريقة مزعجة للغاية.
فإذا كان الدين يهب الطمأنينة للبعض ولا يهبه للبعض الآخر، فلا يُمكنك فرض هذا الدين على الجميع للحصول على هذه الطمأنينة، وعلينا عندها أن ندع الجميع يحصلون على راحتهم وطمأنينتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة دون أن يكون ذلك سبباً في العداء والاقتتال والكراهية. أليس كذلك؟
(3) الأخلاق: يزعم البعض أن الدين والأخلاق وجهان لعملة واحدة، بل يرى البعض الآخر أن الدين هو مصدر الأخلاق، وسندهم في ذلك تلك النصائح الأخلاقية الموجودة في النصوص الدينية. وأنا هنا أتساءل إذا كان الإسلام يأمر ببر الوالدين مثلاً، وكانت المسيحية تأمر بالشيء ذاته فما الذي يدفعني إلى أن أكون مسلماً بالتحديد وليس مسيحياً؟ هل فعلاً الأخلاق مرتبطة بالدين؟ هل كوني مُلحداً هو عذر مناسب وكافٍ لجعلني لا أخلاقياً؟ ما هي الأخلاق؟ ماذا إذا لم يكن الدين قادراً على منح هذه الأخلاق وصقلها؟ الدين منذ ملايين السنوات لم يستطع إصلاح النفوس البشرية، ولم يستطع التغلب على نزعة الشر الموجودة في هذا العالم. ماذا؟ هل بإمكاننا أن نقول أن الشيطان (مصدر الشر) قد غلب الله (مصدر الخير)؟ أم أن الأمر الطبيعي والبشري هو أن الخير والشر صنوان، ينتجان عن حركة الإنسان عبر تاريخيه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟
أنا مُلحد، ولكنني لا أتعاطى الخمر، ولا يُمكن أن أزني بأمي، أو أن أقتل أبي، وحريص غاية الحرص على حفظ الأمانات وملتزم بمواعيدي أشد ما يكون الالتزام، وأسعى قدر الإمكان أن أكون صادقاً؛ لاسيما في المواقف التي تتطلب مني ذلك. أفعل هذا دون الحاجة إلى الدين أو التظاهر بالتدين. وربما تعرفون نماذج كثيرة عن متدينين كاذبين ولصوص وقتلة. إذن فالأمر ليس متعلقاً بالدين، وإنما باستعداد الفرد النفسي لأن يكون كذلك.
إذن فالدين أو التديّن لا يضمن للمرء أن يكون خلوقاً، ولا نريد أن نسمع تبريرات من قبيل (هؤلاء لم يؤمنون إيماناً صحيحاً وكاملاً) أو (هؤلاء لم يعرفوا معنى الإيمان الحقيقي) وهذه الجُمل المكررة والساذجة، فكلنا يعلم أن الأخلاق لا علاقة لها بالدين لأن الأخلاق مرتبطة بالإنسان وحركته. فمثلاً كان خروج المرأة للعمل عملاً غير أخلاقي في حقبة زمنية، وعندما ساء الظرف الاقتصادي أصبح خروجها للعمل لمساعدة زوجها أو مساعدة أهل بيتها قمة الأخلاق، وكثيرون منا قد يشيدون بالمرأة المكافحة، فإلام نعزو هذا التحول داخل المجتمع الواحد؟
وإذا كان القتل (مثلاً) عملاً لاأخلاقياً، فكيف نفسّر أن تكون المعاقبة عليه من جنسه؟ ألا يُعد القصاص قتلاً؟ فكيف يكون القتل عملاً لا أخلاقياً، في حين يكون القصاص أخلاقياً بل قمة العدالة؟ هل يُمكن أن يكون قطع اليد عملاً أخلاقياً؟ ألم يسأل المُشرّع نفسه كيف لهذا السارق أن يعمل عملاً شريفاً فيُطعم به أبناءه إذا قطعت يده؟ هل هذا عمل أخلاقي؟ هل قتل الإنسان لأنه لا يُريد هذا الدين ويريد ذلك عمل أخلاقي؟ وطالما أننا نتكلم عن الأخلاق والفعل الأخلاقي والغير أخلاقي، فدعوني أطرح عليكم سؤالاً قد يبدو ساذجاً: هل طمع الرجل في زوجة رجل آخر (وهو حيّ يرزق) واشتهاؤها أمر أخلاقي أم غير أخلاقي؟ إياكم أن تتهوروا في الإجابة فهي ليست سهلة على الإطلاق. هل تعلمون أن حتى الله نفسه لم يستطع أن يُحدد موقفه بشكل قاطع تجاه هذا الأمر؟ فعندما فعلها داود عابه على هذه الفعلة ووبخه عليها، ولكنه عاد مرّة أخرى مع محمد ووبخه على أنه أخفي أمر اشتهائه زوجة (ابنه)؛ تخيّلوا؟ وليس ذلك وحسب، بل سن قانوناً وتشريعاً يقضي بموجبه أنه بإمكان الجميع أن يتزوجوا من زوجات أدعيائهم شرط أن يقضي الأخيرون منهن وطراً. {فلما قضى منها زيد وطراً زوجناكها حتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولا}؛ تخيّلوا؟ والآية تقول ببساطة شديدة: إنه لا حرج على الرجال (إذا اشتهوا زوجات أبنائهم بالتبني) أن يتزوجوهن فقط بشرط أن يكون هؤلاء الأبناء قد عاشروهن أولاً، وهذا هو أمر الله، وكان أمر الله مفعولا. إذن فلماذا عاب الله على داود عندما اشتهى زوجة أحد جنوده وقد كان التبني مسموحاً ذلك الوقت؟ نقول في النهاية إن الدين لا يضمن الأخلاق على الإطلاق، بل على العكس.
(4) منهج حياة: كثير من المتدينين لا يتخيّلون هذه الحياة بلا دين، وهم بذلك يعتقدون أن الدين هو الذي ينظم لهم حياتهم ومعايشهم. فهل فعلاً الدين ضروري لتنظيم الحياة البشرية؟ لو أخذنا جماعة بدائية لا تعرف الدين ولم تسمع بأيّ رسول أو نبي على الإطلاق، فسوف نجد أن لديها قانونها الخاص، بل حتى إن ممالك الحيوان والحشرات لها قانونها الخاص الذي تنتظم فيه؛ إذا فمسألة التنظيم هذه ليست بحاجة إلى دين على الإطلاق. الإنسان بطبعه يميل إلى التنظيم وإلى تشريع القوانين التي تساعده على تسيير أموره؛ لاسيما داخل المجموعة، وتظل قوانين البشر في تغيّر دائم طالما أن هذه المجتمعات البشرية تتغيّر باستمرار، ومن السذاجة أن نتخيّل ديانة ذات تشريعات ثابتة قد يُسهم في استقرار المجتمعات البشرية أو تطويرها أو حتى تنظيمها. قد لا يُمكننا أن ننكر دور بعض التشريعات الدينية في تنظيم بعض المظاهر الاجتماعية أو الاقتصادية، ولكن واقع هذه التشريعات تكون مناسبة للغاية في زمانها الجغرافي والتاريخي، ولا يُمكننا افتراض صلاحيتها على الدوام، فهذا ضرب من السذاجة. لقد أوضحت لنا التجربة من خلال تتبع التاريخ الإسلامي الطويل أن التشريعات الإسلامية لم تستطع (مثل غيرها من التشريعات الأخرى) أن يكتسب هذه الخاصية، ولهذا فإننا نجد على الدوام المطالبة بضرورة تجديد الخطاب الديني، حتى يتواكب التشريع الديني مع مقتضى الحال الاجتماعي والاقتصادي المتغيّر على الدوام. لقد بدأ قلة من المتدينون يفطنون لهذه المسألة ولكنهم حالمون إذ يفترضون إمكانية حدوث ذلك. الحقيقة أن افتراض قابلية التشريعات النصوصية الدينية للتجديد هو افتراض يُفرغ هذه التشريعات من قداستها السماوية لأنها تعني فيما تعني عجز المعرفة الإلهية ومحدودية في سن تشريع يصلح فعلاً لكل زمان ومكان، وبالتالي يأتي خطاب التجديد هذا ليضرب مسماراً في نعش هذه الفكرة الشمولية، ويلغيها على الإطلاق.
ولكن هل استطاع الإسلام بتشريعاته النصوصية أن ينظم المجتمعات البشرية حتى وقت نزولها فعلاً؟ المؤرخون الإسلامويون يحاولون إيهامنا بذلك من خلال خلق يوتوبيا متوهمة لعصر أطلقوا عليه العصر الذهبي، وهي تلك العصور النورانية التي تخيّلنا ونحن في المدارس أن الذين عاشوا فيها ليسوا سوى كائنات غاية في المثالية. وكنتُ أستغرب بالفعل من قدرة الدين الإسلامي على خلق تحوّلات جذرية في المجتمع العربي، حتى عرفت أن التاريخ المنشور هذا ليس سوى تاريخ انتقائي، يتم فيه التزييف ويُمارس فيه الإخفاء والتدليس. لقد رأينا وقرأنا عن خالد بن الوليد الكثير والكثير عن شجاعته وفروسيته، ولكن قلة منا يعرف أنه كان شهوانياً، بإمكانه أن يقتل خصمه ليس في سبيل الله ولا إعلاءً لكلمة الحق والدين، وإنما لكي يظفر بزوجته. وقد سمعنا كثيراً عن عمرو بن العاص وعن دهائه وعن غزواته ولكن قلة منا يعرف الوجه الحقيقي والدنيء لهذه الشخصية. هذا الشخص الجبان الذي قد يسلك أوضع الطرائق لينجوا بنفسه من الموت، وما حادثة كشف عورته أمام علي بن أبي طالب إلا غير مثال على ذلك. وأهل مصر أدرى مني بعمرو بن العاص، فهم يعرفونه جيداً. وسمعنا كثيراً عن ابن عباس وعن ورعه وتقواه وحبر الأمة وإمام المفسرين والفقهاء وابن عم محمد نبي الإسلام، ولكن من يعرف أنه كان مختلساً وخائناً للأمانة؟ من يعرف أنه لما وُليّ على البصرة اختلس من بيت مال المسلمين؟ وكلنا يعرف أبو هريرة هذا الراوية الذي قيل أنه روى أكثر من 7 آلاف حديث عن محمد، ولكن هل نعرف عنه أنه رجل دجال وكاذب؟ هل نعرف أنه اختلس من بيت مال المسلمين في البحرين؟ هل نعرف أن عمر بن الخطاب ضربه عندما رآه يروي الحديث وكان سبب هذا الضرب أن محمداً نفسه زجره عن ذلك؟
إن التشريعات الدينية تجعلنا في الحقيقة كالبلهاء، لا يُمكننا أن نتخذ خطوة واحدة في حياتنا وفي تحديد مصائرنا قبل أن نتساءل عن رأي الشرع فيه. ولذا فإننا نسمع العجب العجاب في برامج الفتاوى، وأسئلة سخيفة وساذجة لدرجة تجعلك تُصاب بالدوار وتشعر برغبة في التقيؤ. لماذا؟ لأن الدين يُعطل العقول، وإذا تعطل عقل المرء أصبح كالطفل، لابد أن يحتاج إلى مُعين، والمعينون هنا بالطبع هم (العلماء)، ولكي يحتفظ هؤلاء العلماء بقداستهم وبمكانتهم الاجتماعية والدينية فإن بقاء الناس بهذا الغباء وبهذه السذاجة هي أولوية بالنسبة إليهم، لأنه إذا كف الناس عن الرجوع إليهم في كل كبيرة وصغيرة أصبحوا بلا قيمة، وبقاء علماء الدين بلا قيمة يعني بقاء الدين بلا قيمة، وبالتالي فإن عدداً كبيراً من المنشآت الدينية والمؤسسات الخيرية سوف تغلق أبوابها، وسوف يكف الناس عن دفع التبرعات والزكوات، وسوف يكف الناس عن ممارسة الشعائر الدينية، وهذا يعني أن يكف الناس عن الذهاب إلى العمرة والحج، وكل هذا يعني أن تشهر خزائن الدولة الدينية إفلاسها. متى يعلم المتدينون أن تديّنهم هذا إنما يخدم فئات معيّنة ومحددة من الناس، وإن بقاءهم تحت رحمة هؤلاء هو من يجعلهم على الدوام أثرياء وأصحاب جاه ومال وسلطة ونفوذ. متى يفهم هؤلاء المتدينون أن الدين ما هو إلا وسيلة سلطوية في يد فئة بعينها، وما دفاع العلماء الشرس ضد دعاة التنوير والاستنارة إلا خوف على مصالحهم الشخصية وليس غيرة على الدين. أولا يقولون أن هنالك إله، لماذا (برأيكم) لا يتركون الله يمارس ألوهيته ويعاقب الملحدين والكفرة بطريقته، ألم يكن يعاقبهم على الدوام كما قرأنا في قصص القرآن؟ إذن لماذا يجرّدون الله من هذه السُلطة الآن؟ دعوه يمارس سلطته ودوره الألوهي إن كنتم صادقين. ولكنهم لن يفعلوا، لأنهم يعرفون أنهم كاذبين ودجالين.
الله يخلقه هؤلاء النفعيون، ويزرعونه في عقول البسطاء من الناس، وكما إنه بإمكاننا أن نجد عالماً أكاديمياً يسجد لبقرة، فمن الطبيعي أن نجد مفكرين وعباقرة يعبدون الوهم، يعبدون شيئاً لا يرونه ولا يُمكنهم إثبات وجوده، وبإمكانه أن يصدقوا خرافات المعجزات والأساطير والأوهام، فتلك الجملة السحرية هي مفتاح كل شيء (الله على كل شيء قدير) هذه الجملة تحل كل مُشكلة، وتريح أدمغة هؤلاء المساكين من التفكير. وطالما أنه على كل شيء قدير، فلا داعي للسؤال والبحث لنعرف كيف تحدث الظواهر ولماذا وما إذا كان بإمكاننا السيطرة عليها أو التكهن بها أو درؤها. لماذا نسأل أصلاً، هذا من صميم اختصاص الله. وهكذا يكون الدين (كما قال ماركس) أفيون الشعوب. وهاهي النماذج أمامنا ولكننا لا نحاول حتى مجرّد محاولة أن نرى وأن نفهم وأن نتعلّم. فعندما كانت الكنيسة تتحكم في أوربا، عاشت أوربا أسوأ سنواتها في ظلام الجهل والتخلّف، وعندما ثار الناس على الكنيسة وحيّدوها، انظروا ماذا حلّ بهم. متى نتعلم، ومتى نفهم أن الدين ليس له أيّ فائدة تذكر في هذا العالم، بل إن الشر كل الشر في هذا الدين وفي العقليات التي تنتجه. الدين أصل الشرور كما يقول داوكنز، فهو سبب المجازر البشرية الرهيبة عبر التاريخ، وهو سبب القتل والدمار في كثير من أنحاء هذا العالم اليوم، ولا أريد أن نسمع أناس يقولون إن هذا الأمر سوء فهم من البعض للإسلام، وإنهم لا يمثلون الإسلام؛ فإذا كان النموذج الإيراني لا يمثل الإسلام، ولم يكن نموذج طالبان لا يمثل الإسلام، ولم يكن نموذج الوهابية لا يمثل الإسلام، وإذا كان نموذج الصومال لا يمثل الإسلام، وكان نموذج الإخوان المسلمين في مصر والجزائر لا يمثل الإسلام، فعن أيّ إسلام يتحدث هؤلاء؟ حسناً يجب علينا أن نتفق، يبدو أن هؤلاء ينوون صياغة إسلام جديد كلياً، إسلام غير موجود أصلاً إلا في أذهانهم، ولكن عليهم في البداية أن يجدوا لأنفسهم كتاباً آخر غير القرآن لأنه مليء بالمتناقضات بل إنه يدعو إلى الشر والكراهية. عليهم أن يجدوا قرآناً آخر يحترم الآخر ولا يشتمه بأنهم كالحمير وكالأنعام والقرود، قرآن آخر لا يرى الآخر المخالف له على أنهم (نجس) ويمتهن كرامتهم وحريتهم وإرادتهم، قرآناً آخر يحترم حرية الاعتقاد واللااعتقاد بحق، يحترم حرية التديّن واللاتدين بحق، ولا يرى نفسه فوق الجميع وأفضل من الجميع. قرآناً، لا يدعو إلى كراهية وبغضاء الآخر بسبب المعتقد أو الدين. قرآن لا يحتوي على آيات تحض على الجهاد وتدعو إليه بقوة وعنف وشراسة. قرآن ليس فيه آيات مثل (يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال) ولا (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ولا (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ولا (حتى يأتوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ولا (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) ... الشيء الوحيد الذي قد يكون سبباً في علو شخص على الآخر أو أمة على أخرى هو مدى إنجازها العلمي وتطورها التنكولوجي. هذا هو مقياس هذا العصر، وليس شيء آخر.
#جلال_حبش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإعجاز العلمي في الشعر الجاهلي
-
البعرة لا تدل على البعير
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|