جان ماري هاريباي
الحوار المتمدن-العدد: 911 - 2004 / 7 / 31 - 10:51
المحور:
الادارة و الاقتصاد
من المفترض بـ"التنمية المستدامة" أو "الثابتة"، وهي السياسة الرسمية للأمم المتحدة، أن تؤمن رفاهية الأجيال الحالية من دون أن تضر برفاهية الأجيال القادمة[1]. وهي طوافة النجاة التي بها تتعلق جميع الحكومات المتحمسة المؤيدة والداعمة للزراعة المكثفة حيث رؤساء الشركات المتعددة الجنسية يبذرون الموارد ويرمون بلا حياء نفاياتهم في المحيط البيئي ويستأجرون سفن نقل النفايات، وحيث أسقط بيد المنظمات غير الحكومية، وحيث افتضح جهل معظم علماء الاقتصاد للمتطلبات الطبيعية.
إلا أن برنامج التنمية المستدامة يشوبه عيب أساسي. فتواصل حركة النمو الاقتصادي المفتوحة يفترض أن يتساوق مع الحفاظ على التوازنات الطبيعية ومع حل المشكلات الاجتماعية. فقد أعلن تقرير برانتلاند "أن ما نحتاجه هو عصر جديد من النمو، نمو ناشط وفي الوقت نفسه يؤمن الثبات على المستويين الاجتماعي و"البيئي"[2]. غير أن هذه المقولة استندت إلى ثابتين بالغي الهشاشة.
الأول هو من النوع البيئي، فمن الممكن أن تستمر حركة النمو لأن كمية الموارد الطبيعية المطلوبة للوحدة المنتجة تتضاءل مع التطور التقني. وهكذا سيكون بالامكان الاستمرار في زيادة الإنتاج بكمية أقل من المواد الأولية والطاقة. لكن وللأسف فان تضاؤل حجم الموارد الطبيعية يسير بوتيرة أكبر مما تعوضه الزيادة العامة في الإنتاج. وهكذا يستمر باطراد استنزاف الموارد والتلوث بحسب ما يقر به برنامج الأمم المتحدة للتنمية(UNDP) وفيه "أن مسارات الإنتاج في كل مكان في العالم قد أصبحت أكثر توفيراً في الطاقة منذ سنوات. لكن، نظراً لتزايد الكميات المنتجة فان أشكال التطور هذه تبدو بكل وضوح غير كافية للحد من انبعاثات الديوكسيد الكربوني على المستوى العالمي"[3].
وتتخوف وكالة الطاقة الدولية من تباطؤ أشكال التطور المتحققة في مجال حجم الطاقة[4]، فما بين العامين 1973 و1983 تراجع هذا الحجم بمعدل 2.5 في المئة سنوياً في الدول الممثلة في وكالة الطاقة الدولية، ثم فقط بنسبة 1.5 في المئة سنوياً ما بين العامين 1983 و1990 ثم بنسبة 0.7 في المئة سنوياً منذ العام 1991[5].
أما الثابت الثاني موضوع الجدل فقائم على الصعيد الاجتماعي. فمن المفترض بحركة النمو الاقتصادي أن تكون قادرة على الحد من الفقر والفوارق وأن تعزز الانصهار الاجتماعي. والحال أن النمو الرأسمالي هو حكماً ظالم ومدمر بقدر ما هو خلاق، يغتذي من الفوارق ليولد على الدوام حالات من حرمان الحقوق ومن الحاجات الاجتماعية. فمنذ أربعين عاماً وبالرغم من التنامي الهائل في الثروة المنتَجَة في العالم، أصبحت الفوارق صارخة أكثر، فالفرق ما بين الـ20 في المئة الأكثر فقراً والـ20 في المئة الأكثر غنى كان في العام 1960 بنسبة 1 إلى 30، وقد أصبح اليوم بنسبة 1 إلى 80. وليس في هذا ما يفاجئ، فالتحول إلى نظام المراكمة المالية يتسبب بضرب آليات توزيع القيمة المنتجة. وفي الواقع أن ارتفاع متطلبات مكافأة الطبقة الرأسمالية، وخصوصاً عبر رفع قيمة الحصص، يقضي على حصة القيمة المضافة الممنوحة للأجراء بالانخفاض، سواء عبر الأجور مباشرة أم عبر التقديمات الاجتماعية.
ويقر البنك الدولي نفسه بأنه لن يكون بالامكان تحقيق الهدف الرامي إلى خفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في الفقر المدقع إلى النصف من الآن وحتى العام 2015[6]، فهناك أكثر من 1.1 مليار شخص لا يزالون يعيشون بما قيمته أقل من دولار يومياً. والتقرير الأخير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية يعترف بأن الدول الفقيرة الأقل انفتاحاً على نظام العولمة هي التي حققت تقدماُ أكبر في ما يتعلق بمدخول الفرد، وذلك بعكس الدول الأكثر انفتاحاً والتي وقعت ضحية انفلاشها[7].
إن العجز عن التحضير للمستقبل من خارج نموذج النمو الاقتصادي الثابت هو الذي يشكل على الأرجح الصدع الرئيسي في الخطاب الرسمي حول التنمية المستدامة. وبالرغم من أضراره الاجتماعية والبيئية فان النمو، الذي لا يريد أي مسؤول سياسي أو اقتصادي فصله عن التنمية، يعمل وكأنه مخدر ثقيل. فعندما تكون حركة النمو قوية يستمر التوهم بأنها يمكن أن تحل المشاكل، التي تكون هي قد تسببت بها، وهكذا يعتبر أنه كلما زيدت الجرعة تحسن الوضع الاجتماعي. أما عندما تكون ضعيفة فتفتضح النواقص ويتبين أنها أكثر إيلاماً وخصوصاً عندما لا يكون هناك أي تصور لكيفية معالجة السموم.
وكذلك فان "أزمة" النمو الحالية تخفي وراءها "الفوضوية"[8] المتنامية في المجتمعات المفخخة بالنظام الرأسمالي الليبيرالي. فهذا النظام يبدو عاجزاً عن تحديد وجهة الحياة في المجتمع خارج إطار النزعة الاستهلاكية والتبذير والاستئثار بالموارد الطبيعية وبالعائدات الناجمة عن النشاط الاقتصادي، وعن تعميق الفوارق الاجتماعية في نهاية المطاف. وها أنه يتأكد أن الفصل الأول من كتاب "الرأسمال" لكارل ماركس كان منذراً حين انتقد النزعة الاتجارية فرأى أن النمو يصبح هذا الأفيون الجديد للشعوب التي تتحطم معاييرها الثقافية والتضامنية لكي تغرق في الهوة السحيقة الناجمة عن النزعة الاتجارية.
وهذه العقيدة السائدة يوضحها جيداً جاك أتالي الذي، بنظرته البعيدة الثاقبة، ظن أنه اكتشفها في مطلع العام 2004 حين تحدث عن "أجندة نمو رائعة" لا يمكن لأي شيء أن يصيبها بالفشل إلا "بعض المصادفات مثل ظهور مرض "السارس" مثلا"ً[9]. فبالنسبة إلى جميع منظّري النمو المصابين بالعمى لا وجود للمسألة البيئية، أي لا يأخذون في الاعتبار العلاقات بين الإنسان والطبيعة، فالنشاط الاقتصادي يتم "بالمطلق" خارج إطار المحيط الحيوي.
فليس هناك اكتراث لطابع تبديد الطاقة[10] الناجم عن النشاطات الاقتصادية. فمع أن الأرض عبارة عن نظام منفتح يتلقى الطاقة الشمسية، فإنها تشكل كلاً لا يمكن للإنسان في داخله أن يتجاوز حدود الموارد ومحيطه. والحال أن مساحة "الأذى البيئي"، أي المساحة اللازمة لاحتواء جميع النشاطات البشرية من دون الإخلال بالتوازنات البيئية، قد بلغت أساساً 120 في المئة من الكرة الأرضية، وإذا أخذنا في الاعتبار الفوارق الكبيرة في التنمية، فهناك حاجة إلى أربعة أو خمسة كواكب إذا توصل جميع سكان العالم إلى استهلاك النفايات ورميها بقدر الشخص الواحد في الولايات المتحدة[11].
وضمن هذه الظروف لاقت فكرة "الحد من النمو" التي أطلقها نيكولاس جورجسكو ـ روغن[12] صدى طيباً في أوساط بعض أنصار البيئة ودعاة العولمة البديلة. وفي عملية دفع للمسار النظري يناشد بعض العاملين رفض التنمية على أساس أنه لا يمكن الفصل بينها وبين النمو القاتل. وهم يطعنون في أي توصيف يهدف إلى إعادة الاعتبار إلى التنمية كما عهدناها، سواء أكانت بشرية أم مستدامة أم ثابتة، إذ لا يمكن أن تكون إلا ما هي عليه، أي الذهاب في اتجاه الهيمنة الغربية على العالم. وهكذا نجد جيلبير ريست يندد بالتنمية على أنها "كلمة صنمية"[13]، كما يدين سيرج لاتوش التنمية المستدامة لأنها "نعت للشيء بنقيضه"[14]. فلماذا لا يقنعنا رفضهم التنمية في حين أننا ننتقد مثلهم النزعة الإنتاجية التي تستدعيها سيادة الإنتاج الاتجاري؟
على الصعيد السياسي ليس من الإنصاف الإيعاز إلى المتخمين وإلى المعدمين بالحد من النمو على حد سواء. فمن حق الشعوب الفقيرة أن تنعم بفترة نمو اقتصادي ولا يمكن تقبل الفكرة القائلة بأن الفقر المدقع يفضي إلى مجرد نقل للقيم الغربية أو إلى مجرد توهم. فالمطلوب بناء المدارس من أجل القضاء على الأمية، ومراكز صحية من أجل مساعدة جميع الشعوب في الحصول على العلاج كما يجب إنشاء الشبكات من أجل إيصال مياه الشفة إلى كل مكان وإلى الجميع.
إنه لمن المشروع كلياً إذن أن يستمر إطلاق تسمية "التنمية" على إمكان حصول جميع سكان الأرض على مياه الشفة والتغذية المتوازنة والعناية الصحية والتعليم والديموقراطية. وتحديد الحاجات الأساسية كنوع من الحقوق العامة لا يعني ضمان هيمنة الثقافة الغربية ولا اعتناق العقيدة الليبيرالية في مجال الحقوق الطبيعية مثل الحق بالملكية الخاصة مثلاً وفي الواقع أن الحقوق العامة هي نوع من بنية اجتماعية وليدة مشروع تحرر سياسي يسمح لمتخيل جديد بفرض نفسه بدون أن يتقلص إلى "المتخيل المعمم للحقوق الطبيعية" التي انتقدها كورنيليوس كاستورياديس[15].
ومن جهة أخرى ليس من المنطقي مواجهة حركة النمو الاقتصادية التي يرفعها النظام الرأسمالي إلى مصاف هدف بحد ذاته، بنزعة الحد من النمو التي يطرحها هي أيضاً معارضو النزعة التنموية كهدف بحد ذاته[16]. ففي الواقع أن في الأمر عقبتين متوازيتين، فحركة النمو تريد العمل على الذهاب بالإنتاج نحو اللامحدود فيما الحد من النمو، وبشكل منطقي كلياً، لا يمكنه أن يذهب بالإنتاج إلى الصفر إذا لم توضع أي ضوابط للأمور.
فالمنظّر الفرنسي الرئيسي في فرنسا لفكرة الحد من النمو، سيرج لاتوش، يبدو واعياً ذلك عندما كتب: "إن شعار الحد من النمو يبغي فرض التخلي عن الهدف الفارغ في النمو من أجل النمو، وهو هدف ليس الدافع إليه سوى السعي المسعور إلى تحقيق الربح لأصحاب الرساميل. وبالطبع هي لا تبغي عملية قلب كاريكاتورية قائمة على الدعوة إلى الحد من النمو من أجل الحد من النمو. فعلى الأخص أن الحد من النمو لا يعني "النمو السلبي"، وهي عبارة تناقضية وعبثية تترجم تماماً سيطرة المتخيل في حركة النمو"[17].
لكن ماذا يعني الحد من النمو إن لم يكن التخفيف من الإنتاج؟ يحاول سيرج لاتوش التملص من هذا الفخ عندما يقول أنه يريد "الخروج من اقتصاد النمو والدخول في "مجتمع الحد من النمو" ". فهل سيستمر الإنتاج في التنامي؟ عندها لن تفهم أبداً كلمة الحد من النمو. أم أنه سيصار إلى التحكم به وعندها تزول أسباب الخلاف؟ وعلى كل حال، فان سيرج لاتوش ينتهي إلى الإقرار بأن شعار الحد من النمو هذا ليس هو نفسه بالنسبة إلى جميع سكان الكرة الأرضية: "في ما خص مجتمعات الجنوب ليس هذا الهدف مطلوباً فعلاً، فحتى وإن تكن سائدة فيها إيديولوجيا النمو إلا أن معظمها ليس فعلاً "مجتمع نمو" "[18]. لكن يبقى هناك حالة من الغموض الرهيب، فهل أن في امكان الشعوب الفقيرة أن تنمي انتاجها أم أن على مجتمعات الـ"لا نمو" أن تبقى فقيرة؟
إن معارضي التنموية يعزون فشل استراتيجيات التنمية إلى العيب المفترض جوهرياً في كل عملية تنمية وليس أبداً إلى موازين القوى الاجتماعية التي تمنع المزارعين مثلاً من امتلاك الأراضي بفعل النظم العقارية غير العادلة. ومن هنا امتداحهم الغامض للاقتصاد غير الرسمي متناسين أن هذا الاقتصاد يعيش غالباً على فتات الاقتصاد الرسمي. ومن هنا التعريف بالخروج من التنمية على أنه خروج من الاقتصاد لأن هذا الاقتصاد لا يمكنه أن يكون مختلفاً عن ذاك الذي بنته الرأسمالية. إن عقلانية "الاقتصاد"، بمعنى أنه حين يصار إلى توفير جهود الإنسان في العمل والموارد الطبيعية المستخدمة في الإنتاج، يوضع على مستوى واحد مع عقلانية المردودية أي الربح. فكل تحسين في إنتاجية العمل يصبح هكذا متماهياً مع مبدأ الانتاجية.
باختصار إن ما قيل لنا هو أنه لا وجود للعملية الاقتصادية خارج التصور الغربي الذي اخترعها، بذريعة أن بعض الحضارات لا تعرف كلمات من نوع "اقتصاد" أو "تنمية"، المألوفة عندنا. لكن إن لم توجد الكلمات عندها فان الحقيقة الملموسة، أي إنتاج وسائل العيش، هي موجودة. فالإنتاج يصنف في الفئة الانتروبولجية، حتى وإن كان الإطار والعلاقات التي يتحقق فيها من النوع الاجتماعي. وما ينتج من هذا الخلط، العائد إلى جعل الرأسمالية مجدداً معطى شمولياً لا تاريخيا، مذكراً بغرابة بالعقيدة الليبيرالية، ما ينتج هو العجز عن تصور حركة نقد للنزعة الإنتاجية وللرأسمالية في آنٍ واحد، فتتم الأولى إنما من دون أن تربط بنقد العلاقات الاجتماعية السائدة. وعندها يصبح من المستغرب أقله السعي إلى "الخروج من الاقتصادي"[19] مع الزعم بإسقاط "الاقتصادي على الاجتماعي"[20] مجدداً.
على الصعيد النظري إما أن يعتبر أن هناك فرقاً بين النمو والتنمية، وإما أن يرى في الظاهرتين منطق الامتداد الدائم نفسه الذي يفضي إلى المأزق. أما الموقف الثاني فمن السهل تحديده كونه موقف مؤيدي الحد من النمو وهم في الوقت نفسه معارضو النزعة التنموية، غير أن الموقف الأول يطالب به علماء الاقتصاد الليبيراليون كما معارضة الليبيرالية على حدٍ سواء.
فالليبيراليون يؤكدون أنهم يواصلون الأهداف النوعية غير المحدودة بحركة النمو المادية وخصوصاً بعد الفشل الاجتماعي في مشاريع الإصلاح التي قام بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إلا أن هذا التمييز بين النمو (الكمي) والتنمية (النوعية) يشكل نوعاً من الدجل في المنطق الليبيرالي بمجرد أن يعتبر النمو شرطاً ضرورياً وكافياً للتنمية، وفوق كل ذلك يصلح لكل زمان.
ومن جهتهم، ونظراً للأضرار الاجتماعية والبيئية الناتجة من نمط تنمية يبدو لصيقاً بحركة النمو، فان علماء الاقتصاد المناهضين لليبيرالية، المتحدرين من الماركسية أو من النزعة البنيوية أو من العالمثالثيين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، يصعب عليهم كثيراً القول بأنه يمكن التمييز بين المفهومين. وهكذا يطيب لمعادي كل عملية تنمية التنديد بالنمو وبالتنمية معاً نافين أي امكان للفصل بينهما.
فهل من الممكن تجاوز هذا التناقض؟ إن من مصلحة الرأسمالية أن تروج للاعتقاد القائل بأن النمو والتنمية متلازمان دائماً على أساس أن الرفاه البشري لا بد أن يمر بالتنامي المستمر في كمية البضائع التجارية. علينا إذن أن نؤسس للمستقبل تمييزاً جذرياً بين المفهومين، وهو ما ليس قائماً اليوم: تحسين حالة الرفاه وازدهار الامكانات البشرية المتحققة خارج خط النمو اللامتناهي للكميات المنتجة والمستهلكة، خارج خط السلعة والقيمة التبادلية[21]، إنما من طريق قيمة الاستعمال ونوعية النسيج الاجتماعي الذي يمكن أن يتشكل حولها.
أما شعار الحد من النمو فإذا ما طبق بدون تمييز نسبة إلى الشعوب أو إلى كل نمط إنتاجي، فإنه سيكون مجحفاً وغير عملي. أولاً لأن الرأسمالية تفرض علينا حالياً نوعاً من تراجع النمو وخصوصاً في مجال السلع والخدمات التي نحتاج إليها اجتماعياً أكثر من غيرها، مثل النقل المشترك والصحة والتعليم وإعالة المسنين الخ. ثم لأنه ليس بالضرورة أن يكون كل إنتاج حكماً ملوثاً أو مذلاً. فمجمل الناتج المحلي، إذا ما قيس نقدياً، يسجل نمواً في أعمال الخدمات، حتى غير التجارية، التي لا يقارن ضغطها على المحيط البيئي بشكل عام بضغط الصناعة أو الزراعة. فالحاجة الملحة إلى التخفيف من التأثير على البيئة لا تستدعي الحد من نمو كل أشكال الإنتاج دونما تمييز لا بينها ولا بين المعنيين بها.
إن استغلال العالم للموارد الطبيعية يجب أن ينظم بشكل يمنح الدول الفقيرة امكان إطلاق حركة النمو الضرورية لها لكي تلبي حاجاتها الأساسية ولكي تصبح الدول الأكثر غنى مقتصدة. وفي ما خص الدول الفقيرة فان كل نموذج يفرض عليها لا يمكن إلا أن يكون مدمراً لجذورها الحضارية وأن يشكل عائقاً في وجه تنمية تحررية فعلاً. وفي الدول الغنية من المناسب وضع السياسات بحسب عملية التحول المطلوب تأمينها، وهي فك الارتباط بين النمو والتنمية.
وهذا يتم، ليس عبر عملية عمياء للحد من النمو، ولا توافق عليها غالبية المواطنين، إنما عبر حركة تباطؤ مدروسة تسمح بإطلاق عملية تحويل المسارات الإنتاجية كما مسارات أشكال التمثيل الحضاري، أي عملية تباطؤ في النمو كمرحلة أولى قبل مواجهة عملية الحد من النمو الانتقائية، بدءاً بتلك المتعلقة بالأعمال المضرة، من أجل اقتصاد يعاد توجيهه نحو نوعية المنتجات والخدمات المشتركة، وتوزيع أولي للمداخيل أكثر عدلاً وخفض منتظم في أوقات العمل كلما زاد تحقيق الأرباح من الإنتاجية، وهي الطريقة الوحيدة لتنشيط العمل خارج حركة النمو. علماً أن كل تشكيك في نموذج التنمية الحالي لا يكون واقعياً إلا بشرط إعادة النظر في الوقت نفسه في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية التي تدعمه[22].
إن تحديد التنمية على أنها تطوير لمجتمع يعمد غالى توظيف أرباحه من الإنتاج، ليس لكي ينمي إلى ما لانهاية إنتاجه المسبب للتلوث ولتدمير البيئة ولعدم الاكتفاء ولكبت الرغبات ولحالات الظلم والإجحاف، وإنما من أجل تخفيف العمل للجميع عبر توزيع مداخيل العمل بشكل أكثر عدالة، لا يشكل عودة إلى الوراء بالنسبة إلى نقد عملية التنمية الحالية. وهذا لا يحكم بالانغلاق داخل النموذج النفعي، شرط أن يتم تحقيق أرباح الإنتاجية من دون إلحاق الضرر لا بشروط العمل ولا بالطبيعة.
وما أن يتم الإقرار بأن البشرية لن تعود إلى الحالة ما قبل التنموية وأنه بفعل ذلك تبقى وستظل مكاسب الإنتاجية موجودة، فانه يجب تصور طريقة استخدامها وجعلها ملائمة لتجديد الأنظمة الحياتية. وهنا يمكن الافتراض أن خفض أوقات العمل قد يساهم في تحرير خيالنا من التوهمات الموحية بأن لنا مصلحة في حياة أفضل وأن توسيع رقعة الخدمات المشتركة والحماية الاجتماعية والثقافة التي ليست من رغبات الرأسمال هو مصدر ثروة لا تقاس نسبة إلى تلك التي يفضلها نظام السوق. فالرهان ما وراء مسألة التنمية هو على الأهداف المتوخاة من العمل وبالتالي على الطريق نحو مجتمع مقتصد ومتضامن.
* أستاذ محاضر في جامعة بوردو الرابعة، عضو في المجلس العلمي "أتاك"، منسق كتاب:
Le développement a-t-il un avenir ? Pour une société solidaire et économe, Mille et une Nuits, Paris, 2004.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] . Gro Harlem Brundtland, Notre avenir à tous, Rapport de la Commission mondiale pour l’environnement et le développement, Ed. du Fleuve, Montréal, 1987.
اعتمد هذا التقرير أساساً لمؤتمر الأمم المتحدة في ريو دو جينيرو في العام 1992.
[2] . المرجع نفسه، ص: XXIII.
[3] . التقرير العالمي حول التنمية البشرية، 2002. Rapport mondial sur le développement humain 2002, De Boeck, 2002, Bruxelles, p. 28.
[4] . إن حجم الطاقة الانتاجية (وبشكل أعم حجم الموارد الطبيعية) هو كمية الطاقة (أو الموارد الطبيعية) الضرورية لإنتاج يورو واحداً من قيمة مجمل الناتج المحلي.
[5]. راجع: AIE, Oil crises and climate challenges : 30 years of energy use in IEA countries, 2004, http://www.iea.org.
[6] . من تصريح لرئيسه جيم ممولفنسون أوردها: Babette Stern, “ Les objectifs de réduction de la pauvreté ne seront pas atteints ”, Le Monde, 24 avril 2004.
[7] . اقرأ : Babette Stern, “ Les objectifs de réduction de la pauvreté ne seront pas atteints ”, Le Monde, 24 avril 2004.
[8] . يحدد دوركهايم "الفوضوية" على أنها انعدام أو زوال القيم الجماعاتية والقوانين الاجتماعية.
[9] . راجع : Jacques Attali, “ Un agenda de croissance fabuleux ”, Le Monde, “ 2004, l’année du rebond ”, 4 et 5 janvier 2004.
[10] .
[11] . راجع: Redefining Progress, http://www.rprogress.org.
[12] . اقرأ: Nicholas Georgescu-Roegen, La décroissance : Entropie-Ecologie-Economie, Sang de la terre, Paris, 1995.
[13] . راجع : Gilbert Rist, “ Le "développement" : la violence symbolique d’une croyance ”, in Christian Comeliau (dir.), “ Brouillons pour l’avenir, Contributions au débat sur les alternatives ”, Les Nouveaux Cahiers de l’IUED, Genève, n° 14, PUF, Paris, 2003, p. 147.
[14] . راجع: Serge Latouche, “ Les mirages de l’occidentalisation du monde : En finir, une fois pour toutes, avec le développement ”, Le Monde diplomatique, mai 2001. Un oxymoron est la juxtaposition de deux termes contradictoires.
[15] . اقرأ: Cornélius Castoriadis, Le monde morcelé, Les carrefours du labyrinthe 3, Seuil, Paris, 1990, p. 193.
[16] . اقرأ: Silence, Objectif décroissance, Vers une société harmonieuse, Parangon, Paris, 2003.
[17] . اقرأ: Serge Latouche, “ Il faut jeter le bébé plutôt que l’eau du bain ”, in Christian Comeliau (dir.), op. cit., p. 127.
[18] . راجع: Serge Latouche, “ Pour une société de décroissance ”, Le Monde diplomatique, novembre 2003, note 11.
[19] . راجع: Serge Latouche, Justice sans limites, Le défi de l’éthique dans une économie mondialisée, Fayard, Paris, 2003, p. 275.
[20] . راجع : Serge Latouche, Justice sans limites, Le défi de l’éthique dans une économie mondialisée, Fayard, Paris, 2003, p. 275.
[21] . إن قيمة الاستعمال هي الفائدة المتوخاة من سلعة أو من خدمة ما، وهو مفهوم نوعي لا يمكن قياسه ولا تحويله قيمة تبادلية نقدية. وهذه القيمة هي النسبة التي عبرها تتم المبادلة بين سلعتين بواسطة المال.وإيضاح هذا التمييز يعني رفض أن يصبح كل شيء مادة اتجارية.
[22] . راجع : L’économie économe, Le développement soutenable par la réduction du temps de travail, L’Harmattan, Paris, 1997 ; La démence sénile du capital, Fragments d’économie, Ed. du Passant, Bègles, 2e éd., 2004.
جميع الحقوق محفوظة 2004© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#جان_ماري_هاريباي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟