أتى حين من الدهر لم يكن فيه مفهوم المجتمع المدني أحد المفاهيم المتداولة في الخطاب النظري السياسي أو في الخطاب الإيديولوجي العربي على اختلاف مشاربه.
فلو عدنا إلى الفكر القومي الاشتراكي أو إلى الفكر الماركسي ـ الشيوعي أو إلى الفكر الإسلامي، فإننا بالكاد نعثر على كلمة مدني، ناهيك عن مصطلح المجتمع المدني.
وتمضي السنون، وتحدث ثورات تحررية وانقلابات وتغيرات وتنشأ دويلات وتنهار أنظمة سياسية، فإذا بمفهوم أو مصطلح المجتمع المدني يطل برأسه من بين سطور المثقفين العرب الماركسيين المتأثرين ـ نوعاً ما ـ بغرامشي، وذلك بعد الحدث البولوني الشهير ـ ظهور حركة التضامن.
ثم شيئا فشيئاً ينتشر المفهوم ويغدو ذا حمولات راديكالية ويكتسب دلالات شبه ثورية، بوصفه تعبيراً عن ميلٍ معارضٍ لدى البعض للسلطة السياسية في الوطن العربي.
والحق أن كاتب هذا المقال كان قد استخدمه في أكثر من مقالة في التسعينات استخداماً ينم عن استحسان لهذا المفهوم في طرح مشكلات إنتاج السلطة السياسية في الوطن العربي.
وهانحن نعيش اليوم حالات من النقاش الدائر حول مصطلح المجتمع المدني بين معارض ومؤيد، بين مستنكر ومحيز، بين شارح ومجدد حتى بدا لنا الأمر وكأننا في مرحلة أشبه بالمرحلة التي شهدت نقاشاً حاداً حول الأمة والقومية والاشتراكية والأممية، والطبقة العاملة والصراع الطبقي... الخ.
وإذا كان بعض النازعين إلى تسفيه المفهوم بوصفه ثمرة تطور الحياة الاقتصادية والسياسية الأوروبية، قد أفادوا في عرض تاريخية ظهور مفهوم المجتمع المدني وتطور دلالاته عند فلاسفة الغرب بدءاً من هوبز وانتهاءً بغرامشي مروراً بـ لوك وروسو وهيغل وماركس، فإن هذه النزعة شبه الأكاديمية لا تميز المفهوم في حقله الاجتماعي ـ السياسي الراهن.
وعندي أن قيمة المفهوم لا تكمن في تطابقه أو عدم تطابقه مع هذه الصيغة من الفكر السياسي ـ الفلسفي الغربي أو ذاك، أم مع ما أراده الفيلسوف الغربي الذي قدّ هذا المفهوم، بل أن قيمة المفهوم تكمن بما نخلع عليه من دلالات قد لا تكون متطابقة مع أصل الصيغة في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو العشرين.
ولهذا فالاحتجاج بالتاريخ وبالغرب لتبيان عقم مفهوم المجتمع المدني عندنا عربياً، احتجاج لا معنى له، بل هو الأكثر عقماً والمعبر عن عجز الوعي في فهم حياة المفهوم ومصيره.
وتأسيساً على ذلك فإن السبيل إلى إدارة نقاشٍ مثمر حول المجتمع المدني يكمن أولاً، وقبل أي نقاشٍ أكاديمي، في تحديد وعينا الراهن به وطرح المقصود من استخدامه في حقل المستجد من الحياة، بحيث يتحول وعينا به إلى لحظة في حياة المفهوم لا تستنفد وعي الأجيال اللاحقة به.
وقائلٍ يقول: إنك قد تركته عرضة للفوضى، وليس هذا من شيمة المفهوم الذي يحتاج إلى دقة في التحديد.
واعتراض كهذا ليس وجيهاً، وبخاصة أننا أمام مفاهيم فلسفية تتغير دلالاتها مع تغير الأيام والأمكنة.
فليس مفهوم الوجود عند ارسطو هو ذاته عند هيغل،وليس هو عند هيغل هو نفسه عند ماركس، وهو عند ماركس ليس مطابقاً لما هو عند سارتر.
لقد حددت لنا هذه المقدمة ـ التي رأيناها ضرورية ـ اتجاه ما نقدم عليه من تحديد رؤية إلى المجتمع المدني ناتجة بالأصل عن تجربتنا النظرية، وتجربتنا المعيشية.
لنعد الآن إلى الموضوع: "المجتمع المدني والدولة الوطنية".
وكخطوة أولى علينا أن ننظر في مكونات هذا الموضوع المفهومية. فما الفرق بين المجتمع والمجتمع المدني!.
المجتمع ليس هو مجموع الأفراد، بل هو جملة العلاقات التي تقوم بين الأفراد، جملة الترابط بينهم. أو قل هو في الأفراد في علاقاتهم الاجتماعية. ثمرةًلفاعلية الناس المشتركة . ولهذا فالمجتمع هو الانتاج ، وقوى الانتاج ، وعلاقات الانتاج ، والبنية الاجتماعية الأخلاقية ، أو البناء القومي ، إنه الأسرة والطبقة والبنية السياسية ، والوعي الاجتماعي .. فالمجتمع بهذا المعنى أولى بالقياس إلى الأفراد ، وهو بنية وسيرورة تاريخية بآن معا ، أو هو التعين التاريخي للعلاقات الاجتماعية بكل صورها .
فإذا قلنا المجتمع الرأسمالي ، فإنما نقصد العلاقات الإنتاجية السائدة المميزة لهذا المجتمع وما يتولد عنها من تغير في كل عناصر البناء الاجتماعي بالمعنى الذي أشرت إليه .
وإذا أضفنا إلى المجتمع صفة المدني ، فإنما نقصد التمييز داخل المجتمع لصنف من العلاقات التي تقوم بين الأفراد داخل المجتمع .
لكن المجتمع ككلية ينطوي على الاختلاف والتعدد والتناقض والصراع ، تعدد بناه الأضيق ، فالطبقة ظاهرة اجتماعية ذات علاقة بالإنتاج ، إنها بدورها علاقة تقوم بين الأفراد المنتمين إلى شكل محدد من إنتاج الخـيرات المادية .
وعندما نتحدث عن الأسرة ، فإنما نتحدث عن بنية داخل الكل - البنية العامة . وهكذا فيما يتعلق بالفئات المهنية والدولة والحزب والنقابة ..الخ .
الآن ما هو المجتمع المدني داخل المجتمع ! إن أفراد حالة يكون فيها المجتمع قادرا وبشكل حر على التعبير عن نفسه بأشكال متعددة من التنظيم المستقل عن المجتمع السياسي ، هو ما نقصده بالمجتمع المدني .
لكي نحلل هذا التعريف ، لنتابع فهمنا للمفاهيم التي انطوى عليها العنوان ، فلقد استخدم المجتمع المدني والدولة الوطنية .
ها نحن إزاء مفهوم الدولة - الدولة هي البناء السياسي للمجتمع . إنها سلطة تنظيم وإكراه وإلزام ، تتعين في ثلاثة بنى مترابطة : النظام السياسي للدولة ، صورة الدولة ، وطبيعتها الاجتماعية - الطبقية .
نحن هنا نتحدث عن مطلق دولة ، دون النظر الآن إلى نمطها التاريخي ، الذي يتحدد في مستوى التطور التاريخي العام .
ونطلق على هذا كله المجتمع السياسي ، الذي هو ضرورة تاريخية شبه حتمية في جميع المجتمعات ، باستثناء الشعوب البدائية .
إذا المجتمع السياسي بنية داخل المجتمع تعبر نظريا عن مستوى تطور المجتمع . وتمزق هذه البنية لقاء نشوء بنية أخرى من طبيعتها رهن بالبنية الاجتماعية .
فالمجتمع الرأسمالي كان قادرا على تحطيم نمط الدولة الإقطاعية ، ونظامها السياسي ، ومضمونها الاجتماعي ، ناهيك عن تغيير صورة الدولة أو وظيفة الصورة القديمة . كان من المستحيل بقاء المجتمع السياسي الإقطاعي جنبا إلى جنب مع المجتمع الرأسمالي . من هنا نفهم لماذا أدرج ماركس الدولة في خانة البنية الفوقية المعبرة عن البنية التحتية .
وأكبر تطور حتى الآن للدولة هو تعبيرها عن الأمة ، أي ظهور الدولة القومية ، وهذا أحد أهم إنجازات البرجوازية الأوربية التي عممت تاريخيا . والحق أن ارتباط الدولة بالأمة قد غير من درجة سيادة الدولة ومن تعبيرها الطبقي ونظامها السياسي.
فسيادة الدولة ـ الأمة ارتبطت بسيادة الطبقة البرجوازية، والطبقة البرجوازية ذات الإحساس بالحرية، عممت إحساسها هذا إلى الحد الذي طبقت فيه الدولة البرجوازية بنظام سياسي ليبرالي الذي تقدم مع الأيام لظهور النظام السياسي الديمقراطي.
وهنا حصل التطابق بين النظام السياسي وصورة الدولة ومضمونها الاجتماعي الطبقي.
لكن المجتمع يظل بنية أكبر بكثير من بنية الدولة، ولم تستطع الدولة ولن تستطيع أن تكون عامل زوال التناقضات الاجتماعية. بل أنها في مضمونها الاجتماعي تحولت إلى عنصر من عناصر هذه التناقضات، معنى إذاً ليست بنية فوق المجتمع وحيادية تجاه تناقضاته.
وفي العالم الذي لم يسر وفق النموذج الأوروبي في التطور ظلت الدولة تنتمي إلى عالم ما قبل البرجوازية وسيادتها.
غير أن حركة الرأسمالية بما هي توحيد للعالم ونشر نموذجها الإنتاجي سواء في القوى أو العلاقات، راح هذا العالم يستعير النموذج الأوروبي بصورة كاريكاتورية أو شبه كاريكاتورية إلى أن ظهرت ما يسمى بالدولة الوطنية كثمرة من ثمرات الكفاح ضد الاستعمار الرأسمالي دون أن تتحول هذه البلدان الما قبل رأسمالية إلى مجتمعات قادرة على تجاوز بناها التقليدية.
ومع انتصار النموذج اللينيني ـ الستاليني للدولة الشمولية الإيديولوجية، التي رأت في النظام السياسي الديمقراطي صورة من صور الهيمنة البرجوازية على المجتمع، نشأت الدولة الوطنية ـ الشمولية في العالم الثالث.
ففي حين مهدت الدولة البرجوازية الديمقراطية الطريق أمام التعبيرات الاجتماعية المناقضة للدولة، تحولت الدولة إلى أداة لكبح هذه التناقضات معتبرة نفسها الممثل الكلي للمجتمع، ونظرت إلى كل ما يعارضها نوعاً من معارضة المصالح النهائية للمجتمع.
وهنا نشأ الاختلاف بين الدولة البرجوازية الديمقراطية التي انتقلت من حرية السوق إلى حرية سياسية وإيديولوجية، والدولة الوطنية التي عمت إيديولوجيتها الشمولية لتكبح حرية المجتمع وحقه في التعبير عن الاختلاف.
وإذا كانت الدولة البرجوازية قد تحكمت بالاختلاف عبر السماح بتعبيراته العلنية، فإن الدولة الوطنية تحكمت بالاختلاف عبر نزوع القضاء عليه.
بكلمة أخرى: لقد نما على هامش المجتمع السياسي البرجوازي التنظيم المدني للمجتمع، بما في ذلك الحزب السياسي المعبر عن الاختلاف لبحث الدولة الوطنية ذات النموذج اللينيني ـ الستاليني مثل هذا التنظيم الحر، لتوحد بينها وبين التعبيرات المدنية، وتتحكم بها، وهكذا اعتقدت أنها وحدت على نحو كلي المجتمع السياسي والمجتمع المدني.
لقد طوّر المجتمع المدني آليات دفاع ذاتية في الغرب الرأسمالي أو ما شابهه ربما في ذلك الحزب السياسي، ومن هنا نشأت حالة النزوع نحو الهيمنة على المجتمع المدني.
كان أول من أشار إلى المجتمع المدني كموضوع هيمنة هو الفيلسوف والمناضل الشيوعي الإيطالي غرامشي. فإذا بمفهوم الهيمنة يحول بنية المجتمع المدني إلى أداة كفاح سياسية.
أجل فالجذور الفاصلة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي لا تعني تداخلهما إطلاقاً.
فإذا كانت الدولة، السلطة السياسية هي ما يمثله المجتمع السياسي فإن المجتمع المدني إذ يقف وجهاً لوجه أمام المجتمع السياسي فإنه يجعل من مهمته سياسية أيضاً.
فالنقابة هي بالتعريف تجمع مدني لفئة محددة من الناس تنطوي على عصبية طبقية أو مهنية، وذات مصالح مشتركة وبالتالي ذات أهداف محددة.
فالنقابة لا تنزع نحو استغلال السلطة السياسية إطلاقاً لكنها تتحول عبر أساليب كفاحها إلى عامل ضغط على السلطة لاسيما إذا كانت أهدافها لا تتحقق إلا استناداً إلى سلوك محدد من السلطة تجاهها.
نظرياً: النقابة تحوز على استقلال نسبي، لكنها عملياً إذ تصبح موضوعاً في أتون الصراع على الهيمنة من قبل المجتمع السياسي وبخاصة الحزب السياسي، فإنها تطبع بالطابع السياسي.
وعندي أن المجتمع المدني يعبر عن ارتقاء المجتمع ككل. بل هو معيار ارتقاء المجتمع.
وقائلٍ يقول: إن المجتمع المدني رهن بانتصار المجتمع البرجوازي وبالتالي هو ظاهرة أوروبية صرفة، لا يجوز أن نستسهل الدعوة إليها.
والحق أن المجتمع البشري الآن تحكمه تطورات كلها ناشئة من انتصار العلاقات الرأسمالية عالمياً، بمعزل عن مستوى هذا الانتصار.
وليس الحديث عن الخصوصية التي تختلف عن واقع الغرب إلا نوع من التحايل على واقع الحال باسم الفرادة والخصوصية.
فالخصوصية هنا بالذات مفهوم تآمري استبدادي.
فلم يقل أحد مثلاً من الناس أن فصل السلطات هي ظاهرة غربية لا يجوز أن تنطبق على واقعنا.
ولم يقل أحد من الحكام أن الوزارة ـ كسلطة تنفيذية ـ هي ظاهرة غربية، ولم يقل أحدٌ أن الصحيفة ظاهرة غربية وأن الجامعة ظاهرة غربية، وكلها ظواهر حاضرة في حياتنا العملية.
ولهذا فالمجتمع المدني ظاهرة عالمية لم ينج من ظهورها أي مجتمع. وبالتالي هي إمكانية قابعة في قلب المجتمع كحقيقة لا مجال لنكرانها، وغياب المجتمع المدني في الوطن العربي، ليس ثمرة غياب الشروط التاريخية المولدة له، بل هو ثمرة تحكم المجتمع السياسي بالمجتمع ككل.
فالمجتمع المدني إمكانية معمومة، لكنها لن تزول بوصفها نزوعاً متأصلاً بمجرد كبح هذه الإمكانية. ومن هنا نفهم سرعة ظهورها.
بل إن ميل البشر يتزايد من أجل إيجاد المنابر المعبرة عن مصالحهم مهما كانت ضيقة.
فالعصبية الوطنية أو القومية لا تلغي إطلاقاً أشكال العصبيات الأخرى، وهنا أقصد بالعصبية ذلك الرابط الذي يربط بين البشر المشتركين بالمهنة أو الهم الاجتماعي، أو الهم الإنساني بدءاً من المجتمع وانتهاءً بالنقابة.
ولاشك أن المشكلة تكمن في الدولة العربية الراهنة في النقابة، فالنقابات تنظيمات مهنية ـ طبقية وذات علاقة مباشرة بالسياسية. ومن هنا نفهم: لماذا تكف الدولة النظر عن النادي الرياضي، أو الجمعية الخيرية، أو النادي الاجتماعي، ولا تتسامح مع النقابة، وتتوقف ملياً عند النادي الثقافي.
فالنقابة ذات أهداف طبقية، وغالباً ما تكون السياسية هي الطريقة التي تعبر فيها الطبقة عن أهدافها. ولما كان هناك ارتباط شديد بين السلطة والطبقة، فإن التناقض بين الطبقة غير الممثلة في السلطة والسلطة أمر حتمي.
ولما كانت وسائل النقابة في الدفاع عن أهدافها هي الإضراب والتظاهر والمنشور ـ ولكنها تعبيرات عن الحرية ـ فإن السلطة للحيلولة دون مواجهة النقابة ـ أقصد في الوطن العربي غالباً وفي دول العالم الثالث وفي الدول الاشتراكية سابقاً ـ فإنها تقوم بالاستيلاء على النقابة سياسياً أو تمنع ظهورها أصلاً.
وفي الحالة الأولى تتحول النقابة إلى جهاز سلطة وتكف عن أن تمارس وظيفتها المدنية ـ السياسية، بل وتغدو عامل كبح للتعبيرات الطبقية.
وفي الحالة الثانية، يخلو المجتمع من أشكال التعبيرات العملية الطبقية وفي الحالين يخلو المجتمع من أهم عناصر المجتمع المدني ـ النقابة.
وقد شهد الوطن العربي كلا الحالين، بل ولقد استطاعت الدولة في بعض البلدان أن تحل أي نقابة إذا وجدت أنها قد فلتت من قبضتها، وإعادة تشكيلها بالطريقة التي تسمح لها بالتحكم بها وتحويلها إلى جهاز من أجهزتها المتعددة.
وبالتالي: إن أية نقابة لا تعبر عن النزوع الحر للطبقة أو للفئات الاجتماعية لا تكون نقابة أصلاً، لأنها تفقد وظيفتها بوصفها منبراً أساسياً للدفاع الحر عن مصالح الطبقة والفئة..
إن هذه العلاقة القائمة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني هي التي جعلت الدولة في الوطن العربي على اختلاف أشكالها ونظمها السياسية تحول دون ظهور المجتمع المدني العلني الناتج عن حرية الانضواء في أشكاله المتعددة، متسامحة في الأشكال التي لا تمس السياسية إطلاقاً كما قلنا.
إذ ذاك يجب أن نفهم أمراً أساسياً ألا وهو أن الدعوة إلى ضرورة قيام المجتمع المدني هي دعوة سياسية قبل كل شيء، إنها دعوة من أجل تعويض غياب التعدد السياسي. وتعويض غياب المعارضة السياسية، بحيث يتحول المجتمع المدني إلى عنصر ممانعة سياسية.
ولما كانت السلطة في الوطن العربي هي دولة كلامية بامتياز فإنها تنظر إلى نفسها بوصفها التعبير الكلي عن المجتمع. وتصبح درجة الولاء للسلطة هي المعيار الحاسم للوطنية. ودرجة المعارضة لها المعيار الحاسم للتآمر عليها.
ومن المستحيل ـ بالطبع ـ على السلطة العربية التي تكره التعدد السياسي وتنفيه في الواقع أن تسمح بالمجتمع المدني المعبر عن التعدد والاختلاف. مع إدراكها أنها لا يمكنها أن تزيله من الواقع، لكنها تريد أن تزيل فاعليته.
والحق أن المجتمع في غياب التغييرات العملية ـ التنظيمية من الاختلاف هو بالضرورة مجتمع راكد. ويفسح المجال للعمل السري الذي يتسم بالراديكالية المطلقة، الذي يظل تأثيره ضيقاً. ولفصل اكتشاف صعوبات العمل السري، وتأثيراته المحدودة نمت القناعة أكثر فأكثر لدى جمهور المثقفين بخاصة بأهمية المجتمع المدني، بوصفه التغيير الحر والعلني عن أهداف البشر بما فيها الأهداف السياسية.
ولعمري أن حركة الواقع العربي الآن تنمو نحو انتصار المجتمع على المستوى التاريخي، وأحد أشكال هذا الانتصار الممكن هو ظهور التعبيرات الحرة، وبخاصة المجتمع المدني في الصيغة التي طرحناها.
نشرة مواطن