|
العابسون أبداً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2992 - 2010 / 5 / 1 - 13:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لو كان الابتسام محرَّماً دينياً لقُلْنا إنَّنا من أكثر، إنْ لم نكن أكثر، الناس تديُّناً، فالعبوس نحن، ونحن العبوس؛ ولكن لماذا؟
لماذا نفتقر إلى إنسانٍ طَلْق الوجه، منبسط المُحيَّا، بشوش الطَّلعة، متهلِّل الغُرَّة، حَسَن البشْر، باسم الثَّغْر، ضاحِك السِّنِّ، مشْرِق الدِّيباجة، فَكِه الأخلاق، رَحِب الصدر مشروحه، تلمع أساريره، وتتألَّق صفحته؟
في بعضٍ من التفسير الخاطئ، قالوا إنَّ الوجه العبوس، المُكشِّر، المُقطَّب، المُجهَّم، هو وجهنا الحقيقي، الأزلي الأبدي؛ وكأنَّه فِطْرة الله التي فَطَرَنا عليها، ولا تبديل لخلق الله.
وفي بعضٍ ثانٍ من التفسير نفسه، قالوا إنَّ السبب جينيٌّ صرف، فالبنية السيكولوجية للإنسان، بأوجهها وجوانبها المختلفة، مُشْتَقَّة متفرِّعة من بنيته الجينية؛ ولسوف نبقى كنهرٍ لا يملك تغييراً لمجراه، نَرْقُب رقوب الراعي طلوع الأخضر أنْ يأتي لنا تطوُّر علم الهندسة الوراثية بحلٍّ جينيٍّ نهائي لمشكلة "العبوس والتجهُّم".
أمَّا إذا سألْتَ مواطِناً مُفْرِطاً في التشاؤم عن السبب الذي يَحْملنا على الاستمساك بالعبوس، ونَبْذ الابتسام وكأنَّه لنا عدوٌّ مبين، فسوف يجيبكَ على البديهة قائلاً، أي متسائلاً تساؤلاً يقطر دهشة وعجباً واستغراباً من رأسه حتى أخمص قدمه، "ولِمَ لا نعبس، ونظل عابسين، إذا ما كان كل شيء في حياتنا وعيشنا يدعونا إلى العبوس، ويحضُّنا عليه؟!".
ولو كان لهذا أن يعرِّف "الحماقة" لعرَّفها قائلاً إنَّها أنْ تتفاءل وتبتسم وتفرح وتُقْبِل على الحياة.. في واقعٍ (اقتصادي ومعيشي في المقام الأوَّل) يحاصِركَ من كل حدب وصوب بحقائقه، التي تأمركَ بالعبوس والتجهُّم والتشاؤم..، وتنهاكَ عن الابتسام والفرح والتفاؤل..؛ وكأنَّ قصارى قوله هو "المتفاءل أحمق!".
إنَّني منحازٌ إلى هذا التفسير والتعليل؛ ولكن من غير إفراط ومغالاة فيه؛ فنمط عيشنا الاقتصادي هو "البنية التحتية" لعبوسنا وتجهُّمنا..؛ ولا بدَّ لنا أوَّلاً من هدم وتغيير هذه البنية التحتية اللعينة إذا ما أردنا لحربنا على أنفسنا الأمَّارة بالعبوس والتجهُّم أن تؤتي ثمارها، وأنْ ننعم ببنية سيكولوجية جديدة، نَشْعُر بفضلها أنَّ الحياة خير من الموت، وأنَّ الوجود خير من العدم، وأنَّ الآتي لن يأتي على ما بقي فينا من بقايا حُبٍّ للحياة.
قُلْتُ لن أُفْرِط أو أُغالي في انحيازي إلى ذاك التفسير والتعليل، السليم والصحيح من حيث المبدأ والأساس؛ فإنَّ لاعتصامنا بالعبوس والتجهُّم أسباباً تربوية أيضاً.
لقد تلقَّيْنا من التربية السيئة ما مسخ وشوَّه وأفسد في أذهاننا مفهوم "الرجولة" حتى أنَّ كثيراً مِنَّا فهموا، ومارسوا، "الرجولة" على أنَّها الاستمساك بالعبوس ولو اجتمعت فينا وحولنا، وتهيَّأت لنا، كل أسباب ودواعي الفرح، فـ "الرجل" لا تَظْهَر فيه، وتتأكَّد، "معاني الرجولة الحقَّة" إلاَّ إذا أظْهَر كل ما يستطيع إظهاره من عبوس، وكَبَتَ كل ما يستطيع كبته من مشاعر الفرح والسعادة، و"عَسْكَر" كل ما يستطيع "عسكرته" من بنيته السيكولوجية، فكلَّما أمعنتَ في طلاء وجهكَ بالعبوس والتكشير والتقطيب والتجهُّم.. عَرَف الناس فيكَ "الرجولة"، واعترفوا لكَ بها!
حتى في العلاقة بالأبناء نُمْسِك عن التعبير عن عواطفنا ومشاعرنا التي تمور كالبحر في نفوسنا، وكأنَّ في إظهار الحب والحنين والشوق انتقاصاً وإضعافاً لـ "الرجولة"، معنىً ومَظْهَراً وسلوكاً!
إنَّها "الرجولة" إذ مُسِخَت وشُوِّهت وأُفْسِدَت أنْ ترى الزوج مستأسِداً في المنزل، وعلى زوجته، عند عودته من حيث كان مُفرِّطاً في كثيرٍ من معاني الرجولة الحقَّة، وكأنَّه لا يستأسد هناك، أي حيث ينبغي له ألاَّ يستأسِد، إلاَّ رغبةً منه في تعويض خسائره المعنوية هنا، أي حيث يعمل، مُظْهِراً لسيِّده في العمل، وولي نعمته، من الطاعة والخضوع والاستخذاء والتذلُّل كل ما تأباه، وتستكرهه، الرجولة في معانيها الحقَّة، فعلاقة هذا المرؤوس برئيسه هي كأرضٍ أُلْقِيت فيها رواسي من نفاق وكذب وتملُّق وتزلُّف، فالمرؤوس في سعي دائم إلى إقناع رئيسه بأن فيه من العبقرية والموهبة والفضيلة ما يندر وجوده في البشر كافة. كلاهما يحتاج إلى هذا الفساد الأخلاقي في العلاقة على الرغم من أن المرؤوس لا يُصدِّق ما قال، والرئيس لا يُصدِّق ما سمع!
وهؤلاء الرجال المصنوعون من ورقٍ تراهم أيضاً وهُمْ يقودون سيَّاراتهم برعونة وطيش ونزق، فإذا أوقف شرطي المرور أحدهم طلَّقَ ثلاثاً "رجولته"، وشخصية الفارس المغوار التي كان يتقمَّصها، وشرع يَسْتَعْطِف ويتذلَّل توصُّلاً إلى النجاة من عقوبة صغيرة تافهة!
إنَّهم يتلاشون تلاشي فقاعة وخزتها إبرة عندما يتحدَّاهم الواقع أن يكونوا رجالاً؛ ولكنَّهم يستأسدون ويتنمَّرون حيث تنتفي الحاجة إلى الاستئساد والتنمُّر، فَحَقَّ لتلك المرأة التي سُئِلَت عن سبب "استرجالها" أن تجيب قائلةً: "لقلَّة الرجولة في الرجال"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى يأخذ عمال العالم مصيرهم بأيديهم؟!
-
هل التاريخ يعيد نفسه؟
-
في عبارة -ذات الحدود المؤقَّتة-!
-
ساركوزي في ثياب نابليون!
-
في مواجهة -قرار الترحيل-!
-
العالم في مسارٍ نووي جديد!
-
الدولة العربية ليست فاشلة!
-
ما لم يقله فياض!
-
مصطلح -الدول الفاشلة-!
-
ميلاد فيزياء جديدة.. في -سيرن-!
-
عندما يساء فهم -الرأسمال- و-الرأسمالي-!
-
قِمَّة -الإسراء- من سرت إلى القدس!
-
في عقر دارك يا أوباما!
-
أنا المالك الحقيقي لكنيس -الخراب-!
-
الذهنية التلمودية.. ليبرمان مثالاً!
-
مفاوضات صديقة للاستيطان!
-
-أزمة الفهم والتفسير- في عالَم السياسة!
-
متى تتحرَّر المرأة من -يوم المرأة العالمي-؟!
-
-فساد الانتخابات- يكمن في -فساد الدَّافِع الانتخابي-!
-
موعدنا الجديد في تموز المقبل!
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|