|
قرطبة مدينة الشعراء والتاريخ المزدوج
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2993 - 2010 / 5 / 2 - 00:40
المحور:
سيرة ذاتية
اختتم مهرجان الشعر العالمي كوزموبويتيكا بقرطبة فعالياته الليلة (18 أبريل) على نغمات الفلامنكو وصوت إنريكي مورنتي الرخيم الذي هزّ سكون تلك المدينة الأندلسية المدهشة. تجوّلْ في طرقات مدينة قرطبة بجنوب إسبانيا، وسوف تحارُ أمدينةٌ أوروبية هي أم عربية! كأنما أحد أحياء القاهرة القديمة، أو بالأحرى "حيُّ المحيط" بالمغرب، بدروبه الضيقة وأزقته المنحنية وحوائطه الجيرية البيضاء وأرضيته المرصوفة بالأحجار والزلط. ولا عجب. أليسوا العرب المغاربةُ مَن شيّدوها واستوطنوها قرونًا خمسة! مدينةٌ دوّختِ التاريخَ، إذْ كادت أن تكونَ مسلمةً بعدما فتحها طارق بن زياد في القرن الثامن، حتى أستعادها فرناندو الثالث في القرن الثالث عشر للغرب المسيحيّ، فجمعت بذلك، في تناغم مدهش، بين العمارة العربية والغربية. والأسبان، شأنهم شأن الشعوب المتحضرة، لم يشاءوا أن يمحوا كل الملامح العربية، بل استبقوا أهمها لتبقى شاهدًا على التاريخ، وتميّز تلك المدينة التي تقفُ عصيّةً على التصنيف المعماري. تدخل المسجد الكبير، الذي يقف على ضفّة نهر "جوادا-لكبير" أو "الوادي الكبير، وقد تحوّل إلى كاتدرائية بعد خروج العرب، والمسجد أصلا شُيّد على أنقاض كنيسة في العصر الروماني، فترتبك برهةً قبل أن تعلن أنكَ لن تحدد أبدًا: أمسجدٌ هو أم كنيسة. لذلك يحرص الأسبان على وضع عبارة على تذاكر دخول المسجد تقول: "خُذْ بعين الاعتبار بأنك في كنيسة كاثوليكية." لأن الزائرَ لابد يرتبك حين يرى المحرابَ تعلوه آياتٌ من القرآن إلى جوار تماثيل المسيح والقديسين بين الأقبية وأروقة الصلاة والأعمدة الكورنثية. حافظ الأسبان على معماره لأنه ببساطة جزءٌ من التاريخ، والتاريخ لا يُمحى، سواء أحببناه أم لم نحبه. لذلك أيضًا ستجد اسم "أفيروس"، ابن رشد، الفيلسوف المشاكس، الذي وضعه مايكل أنجلو في لوحة الجحيم على سقف معبد سيكستين بالفاتيكان، والذي أسكنه دانتي آليجيري مرتبةَ الأعراف، "لمبو"، بين الجنة والجحيم في "الكوميديا الإلهية"، على كثير من المدارس والميادين والفنادق. في حين يعزّ وجود ما يذكرنا به في مدننا العربية! ولن تجد طالبًا أسبانيًّا في الثانوي أو الإعدادي، أو الابتدائي حتى، لا يعرف فِكر ذلك الفيلسوف العربي العظيم، وسواه من رموز العرب المستنيرة مثل ابن حزم والكندي والفارابي وسواهم، بينما لا يعرف معظم خريجي الجامعات العربية حتى أسماءهم! يعتز الأسبانُ بتاريخهم، حلوه ومرّه، ويعملون على كتابة تاريخ مُقبِل أكثر جمالاً وتحضرًا عن طريق مدّ جسور المحبة بينهم وبين الآخر/العربي. لذلك يعمل "البيت العربي Casa Arabe في مقرّيه بمدريد وقرطبة، ورئيسه وزير العلاقات والتعاون الخارجيّ، على تقوية أواصر التعارف والصداقة بين إسبانيا والعالم العربي. ومن هنا استضاف مهرجان الشعر العالمي بقرطبة Cosmopoética منذ ميلاده عام 2004، شعراء عربًا مثل أدونيس ومحمود درويش، إلى جوار شعراء اللغات الأخرى مثل الهندي الأمريكي ديريك والكوت، ومارك استراند، وآدم زاجايوسكي، وسيماس هيوني، وسواهم، مع شعراء أسبانيا وأمريكا اللاتينية الذين يكتبون بالأسبانية. في نوفمبر 2009، منحت وزارة الثقافة الأسبانية هذا المهرجانَ جائزة الدولة لأنه نجح منذ بدايته في جعل قراءة الشعر عادةً أصيلةً لدى الناس؛ من شريحة الأطفال إلى المسنّين، مرورًا بكافة الأطياف التي تشكّل نسيج المجتمع؛ من العمال إلى ربّات البيوت إلى المعوّقين إلى المساجين حتى. وهنا تلحُّ على العقل مقولة أفلاطون: "علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون." فالفنُّ ضدٌّ للقبح والجريمة. كان هدفُ المهرجان منذ البدء تحريرَ الشعر من صندوقه الضيق الذي تتجمد فيه النخبُ المثقفة والأكاديميون، وإطلاق سراحه نحو الأروقة الأكثر حياةً، حيث الشوارع والأزقة والميادين والمدارس والكنائس التي تملأ جنبات قرطبة، مدينة التراث العالميّ، كما وصفتها اليونسكو، والمدينة التي تمّ اختيارُها لتكون عاصمةً للثقافة الأوروبية عام 2016. لا خيوطَ فاصلةً بين طرائق التعبير لدى هذا المهرجان. لذلك عمل على تذويب الحوائط بين الشعر، والمسرح والسينما والتشكيل والموسيقى والنحت. مثلما أصر على تذويب الجدران بين الألسن، بدعوة شعراء من كافة أرجاء الأرض. وفي دورته السابعة هذا العام (14-18 أبريل) شارك شاعران من أمريكا: روبرت هاس (سان فرانسيسكو)، وإليزابيث زوبا (نيويورك)، وشاعران من إيطاليا: إدواردو سانجوينيتي، وإليزا بياجيني، وشاعرة من كندا: نيكول بروسارد، ومن فرنسا: ميشيل هوليبيك، ومن هولندا: كيس نوتيبوم، وشاعرة من بلغاريا: رادا بانشوفسكا، وشاعر من نيبال الهندية: يويوتسو شاراما، إضافةً إلى شعراء من أمريكا اللاتينية، وشاعرين عربيين: عباس بيضون من لبنان، وكاتبة السطور من مصر، إلى جوار العديد من شعراء أسبانيا من مختلف الأجيال والمدارس الفنية الشعرية. شاعر نيبال يويوتسوا شاراما، يعيش عند سفح الإيفرست، وتنهل قصائده من عوالم البوذا، أصدر ثمان مجموعات شعرية، ويقول في قصيدة عنوانها "أجمل الشِّعر": "القُبلةُ التي رفضتِها/ كانتِ الأجملَ/ تمامًا مثل قصيدتي عند البحيرة/ تلك التي لم أكتبها."، وفي قصيدة "تشويش" يقول: "لمستُكِ الناعمةُ/ كتبتِ الحكايةَ كلَّها/ أمواجُ شَعركِ الذهبيّ/ الذي رحتُ أجمعها للوراء/ وأدسُّها وراء أذنيك/ مثلما أمواج بحر الشمال/ حين تمشّط سواحل المدن./ هلا استأجرتِني مدى العمر/ لأمشّط لك شعرك؟/ سألتُكِ،/ فأجبتِني:/ سوف أقصُّ شعري/ لأنجو من التشويش." وفي قصيدة "لطخة دم من العراق" يقول: "بين يدي الليل الأسود/ ثمة رأس مقطوع/ لبوذيّ صغير/ أحاول أن أقرأ التعبير/ على وجهه الشاحب/ الغارق في بِركة من الدماء/ يلمعُ مثل مرآة مسحورة/ جوار الجذع الساكت." أما إليزابيث زوبا، فشاعرة وفنانة تشكيلية من نيويورك. تقول في قصيدتها: "في مكان ما على الأطلسي/ حيث القليل من الأكسجين والنيتروجين/ يغشاني النُّعاسُ في الصباح/ ولكي نحفر برزخًا من النور/ انحنينا في عناق طويل/ الشعور بالموات يكسر قلبي/ فهُزّ تلك الذرّات الواقفات في وهن جوار بعضها البعض/ فأقل لمسة تجعل الوحوش والضواري أرقَّ/ كل خطوة تقطعها/ هي رحيلٌ فاتن/ نحو الربيع/ مثل خارطة وجهناها صوب الشرق/ نهزّ رؤوسنا في الضوء/ وثمة ما يومض أمام عيوننا." ويقول عباس بيضون: "أتجوّلُ بمعطف جوجول بدون أن أتعب من قراءة الجسور، أسمع شبح أوروبا القارس يعدو بفشخاته الكبيرة عبر الجليد. إنها الحرية القاسية مع برد كاف تماما. هكذا تنظر بمسؤولية إلى جلد الأشجار ليلة البارحة." أما كتاب المهرجان، الذي اتخذ "المظلّةَ الحمراء" شعارًا له، فوضع في تصديره عبارةً تقول: "الحب يقول: أنا شِعرُ الحياة. بوسعكَ أن تجدني إذا ما بحثتَ عني. أكمن عند التقاء كلّ فكرة وأخرى، وبوسعي التشكّل كيفما تشاء."
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كهاتين في الجنّة
-
الشِّعرُ في طرقات قرطبة
-
فاطمة ناعوت والسعي وراء تأنيث العالم
-
لهو الأبالسة، وفنُّ القراءة
-
هكذا الحُسْنُ قد أمَر!
-
ساعةُ الحائط
-
سهير المصادفة
-
ولكنْ، كلُّنا في الهَمِّ مِصرُ! (2)
-
الجنوب كمان وكمان (3)
-
أطفالٌ من بلادي
-
رسالةٌ من الجنوب (1)
-
معرض الجنايني بالأقصر، يمزجُ الشعرَ بالتشكيل
-
اطلبوا العِلمَ، ولو في التسعين!
-
عِمتَ صباحًا يا -شجيّ-!
-
مَحو الأميّة المصرية
-
الشاعرة فاطمة ناعوت: أنا اندهش إذًا أنا إنسان
-
أكبرُ طفلٍ في التاريخ
-
الكرةُ... وعَلَمُ مصر!
-
كتابٌ يبحثُ عن مؤلف
-
كلّ سنة وأنت طيّب يا عالِم!
المزيد.....
-
واشنطن ترسل حاملة طائرات ثانية إلى الشرق الأوسط لـ-ردع أي عد
...
-
النيجر.. إطلاق سراح وزراء سابقين في الحكومة التي أطيح بها عا
...
-
روسيا تشهد انخفاضا قياسيا في عدد المدخنين الشرهين
-
واشنطن تدرس قانونا بشأن مقاضاة السلطات الفلسطينية بسبب هجمات
...
-
هل يمكن للسلطة الجديدة في سوريا إعادة ترتيب العلاقات مع بكين
...
-
الرفيق جمال كريمي بنشقرون يناقش غلاء الأسعار وتسييس القفة ال
...
-
إسرائيل تعدل إجراءات الإنذار استعدادا لهجمات صاروخية كبيرة و
...
-
القضاء الأمريكي يرفض نقل قضية ترحيل الطالب محمود خليل المؤيد
...
-
باراغواي تستدعي السفير البرازيلي لديها وتطالبه بتوضيحات حول
...
-
موسكو: سنطور الحوار مع دول -بريكس- ومنظمات أخرى لبناء الأمن
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|