لم تكن نتائج الحملة الإسرائيلية الأخيرة التي أطلقت عليها عملية "السور الواقي" حدثاً عابراً في إطار الصراع الممتد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وخصوصاً في العشرين شهراً الأخيرة، حيث انتقلت حالة الصراع بين الجانبين إلى مرحلة من الإشتباك العنيف المتواصل، بدت وكأنها المعركة الأخيرة التي يبحث فيها طرف عن إنتصار عجز عن تحقيقه في فترة الصراع، لتعكس النتائج نفسها من الاتفاقيات التي ستفرضها نتيجة هذه المعركة.
ولهذا استنفرت إسرائيل، خلال الحملة، حوالي ثلث قواتها البرية المدرعة، أي ما يعادل ألفي دبابة وآلية عسكرية، وأكثر من عشرين الفاً من جنود الإحتياط بهدف اقتحام مدن الضفة الغربية، وتلك القوة الجبارة التي جندتها اسرائيل كانت تضاف الى القوات الموجودة اصلاً، والتي تم تعزيزها بكثافة خلال الانتفاضة الأخيرة.
الحرب هي إستمرار للسياسة، هكذا قال المفكر "كلاوتز فيتز" قبل أكثر من مئة عام. وهنا تأتي حملة "السور الواقي" كمحاولة اسرائيلية لفرض شروط اسرائيل ورؤيتها للسلام، لتبدأ من النقطة التي توقفت عندها الدبابة، وهذا ما أراده تقريباً رئيس الحكومة الإسرائيلية حين قال إنه سيحضر الفلسطينيين زاحفين على بطونهم للمفاوضات.
فمنذ الصيف الماضي كان رئيس حكومة اسرائيل يصر على فترة هدوء، كلما وقف إطلاق النار قبل البدء بأية مفاوضات سياسية، لكن قبل الحملة الإسرائيلية الأخيرة بأسابيع فاجأ شارون الجميع بتنازله عن ايام الهدوء السبعة التي تسبق المفاوضات، وهو ما فسره بعض المحللين بالخطأ بأنه هزيمة لارئيل شارون، بينما كان تنازله يحمل تهديداً ترجمه لاحقاً وكأنه يقول للفلسطينيين "اذا أردتم المفاوضات في ظل الحرب فنحن لها" معتمداً على ترسانة عسكرية وقوة هي الأقوى في المنطقة، مقابل ظرف هو عملياً تحت السيطرة ولا تحتاج المناطق والمدن والقرى والمخيمات التي يسيطر عليها ويتحصن بها سوى ساعات لاقتحامها، وهو غير قادر عملياً على الوقوف في وجه تلك القوة.
لم يؤخذ تصريح شارون، رغم خطورته، على محمل الجد، والخلل في التحليل والتفسير لدى الجانب الفلسطيني جره الى خسارة كبيرة، بدأ بدفع فواتيرها مبكراً بدءاً من محاكمة مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومعهم الأمين العام، والموافقة على ابعاد ثلاثة عشر فلسطينياً كانوا يتحصنون داخل كنيسة المهد، في سابقة هي الأولى من نوعها، بموافقة طرف فلسطيني على شرعية الإبعاد وإن كان مرغماً. وقد يستمر دفع الثمن، لكن هذا هو الحصاد المر لمعركة كان يجب أن يعمل الطرف الفلسطيني جاهداً إلى عدم الوصول إليها.
اعتقد الجميع أن الانتفاضة في بدايتها لن تستمر طويلا، وخصوصاً انها اندلعت بعد أن فشل الجانبان في التوصل لاتفاق في مؤتمر كامب ديفيد. وهذه المعركة، التي لن تطول، تهدف إلى تحريك المفاوضات ، وهذه طبيعة الصراع، وكأنها استمرار للسياسة وتحسين شروط التفاوض، وبالفعل بحث الطرفان عن مخرج خلال الشهور الثلاثة الأولى للإنتفاضة في أواخر عام 2000، كانت ذروتها في مفاوضات طابا التي توقفت بفعل الإنتخابات في إسرائيل.
استمرت المعركة بعد ذلك وكانت شرسة، لكن أياً من الطرفين، رغم الخسارة الكبرى، لم يصرخ أولاً، وإن دلت على شيء فهي تشير إلى حجم تمترس كل طرف خلف شروطه السياسية غير القابلة المساومة، وان كان الطرف الفلسطيني يمتلك الحق القانوني والشرعي في مطالبة، ولا يمتلك خيار التنازل عن أكثر مما تنازل عنه (78% من أرض فلسطين التاريخية) وبالتالي قد بدا أن رفع الراية البيضاء فلسطينياً هو أشبه بإعلان وفاة القضية الفلسطينية نهاياً، وخصوصاً أن المعركة السياسية بين الجانبين وصلت الى مفاوضات الحل النهائي وهي قضايا لا يستطيع الطرف الفلسطيني التنازل عنها.
المعركة غير المتوازنة بالإستعدادات العسكرية ومستوى التسلح والتدريب والاحتياط، وكل ما تلزمه استعدادات المعارك بدأت ، واعتقد كل طرف أنه سيستطيع هزيمة الآخر. فالفلسطينيون اعتقدوا ان اسرائيل لا تستطيع تحمل الخسارة البشرية واضعين تجربة المقاومة اللبنانية كمثال على انتصار المقاومة، والتي مثلت هزيمة نكراء للجيش الإسرائيلي، لم يكن بحاجة الى ترسانة ضخمة لهزيمته. فيما الطرف الإسرائيلي أمام عدو ضعيف، فإنه بضربة واحدة سينتهي وسيعود زاحفاً إلى طاولة المفاوضات مطالباً بالعودة الى شروط كامب ديفيد.
لكن لم تكن النتائج كذلك، فقد استمرت المعركة أكثر مما اعتقدت الأطراف، وقدم الشعب الفلسطيني لأكثر من عام ونصف نموذجاً مدهشاً من الصمود عجزت عن النيل منه كل القوة الإسرائيلية. وكانت المعركة على غير ما توقع الجانب الاسرائيلي، فقد امتدت زمنياً وجغرافياً وحققت تكافؤاً نسبياً فرضتها حالة التشابك بين الجانبين، فقد أوقع الفلسطينيون خسائر بشرية لدى الطرف الإسرائيلي، كما كانت خسارة الجانب الفلسطيني، وتضررت إسرائيل اقتصادياً كما الاقتصاد الفلسطيني، وكانت المدن الاسرائيلية مكشوفة ونقطة ضعف كبيرة، ولم تعد المدن الفلسطينية وحدها أمام الطائرات الاسرائيلية.
امام هذه التوازن النسبي، الذي يمثل في استمراره حقيقة لا يمكن القفز عنها، وهي أن تلك الحالة الممتدة لأكثر من عام ونصف، إلى ما قبل عملية السور الواقي تزيد من تآكل قوة الردع الإسرائيلية. وبالمقابل فإن ذلك يعد نجاحاً للطرف الفلسطيني، وهذا الأمر لا يتناسب مع التفكير الإسرائيلي لبداية الإنتفاضة بضرب الفلسطينيين ضربة واحدة تقود الى استسلام سياسي.
بالإضافة الى ما تمثله تلك الحالة من مخاطر وأبعاد على واقع ومستقبل المشروع الصهيوني، كما يقول الكاتب والباحث اليميني الإسرائيلي "أهارون ليفران" في ورقته البحثية التي نشرتها دورية "نيتف" الفكرية التي يصدرها مركز اريئيل للبحوث السياسية الخاضع لنفوذ اليمين الإسرائيلي.
فقد اعتبر جنرال الإحتياط السابق "ليفران" أن هناك ظواهر مقلقة في أوساط الجمهور الإسرائيلي، في مجال الأمن القومي الإسرائيلي بشكل عام، وفيما يخص قدرتها الردعية بشكل خاص. وقد عرض الباحث الجنرال اسباب وتداعيات ضعف وانحسار قدرة الردع الإسرائيلية، معتبراً أن مسلسل الانتكاسات المتوالية التي تواجهها اسرائيل وآلتها العسكرية على مختلف جبهات الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى رأسها جبهة النزاع المستمر مع الفلسطينيين ، وصولاً الى انتفاضة الأقصى الراهنة التي يصفها بـ "حرب مصغرة" معتبراً أن عدم قدرة إسرائيل على الحسم العسكري مع الفلسطينيين فقداناً وتلاشٍ "لقدرتها الردعية" والتي اعتبرت السلاح الأقوى ضد أحداها.
وقد تمكنت إسرائيل، بفضل قوة الردع، من تحقيق انجازات دون خوض معارك ودون خسارة، وبالتالي فإن فقدانها لقوة الردع تلك يعني دفعها لخوض معارك غير مضمونة النتائج، وهذا ما بدا من تجربة الساحتين اللبنانية والفلسطينية اللتان تزامنتا بنفس العام.
فقد أوردت الصحف الإسرائيلية تصريحات لعسكريين اسرائيليين كبار اعتبروا فيها ان عملية السور الواقي نجحت في ترميم قدرة الردع الاسرائيلية (يديعوت احرونوت 23/4/2002). وقبل الهجوم الكبير على الضفة الغربية كانت المفاوضات الأمنية بين الجانبين تسير بوساطة الجنرال الأميركي "انتوني زيني" الذي أعد ورقة خاصة به سلمها للجانب الفلسطيني، وهبطت بسقفها عن ورقة رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية "جورج تينت". وكان من الواضح أن الطرف الفلسطيني لن يتمكن من الرد بإيجابية عليها، وبدأت اسرائيل في استعداداتها العسكرية لإقتحام المناطق في حال رفض الفلسطينيون الورقة، وكانت عملية نتانيا التي قتل خلالها 28 اسرائيلياً في صالة أفراح الذريعة لاقتحام المناطق. وحتى لا نحمل العملية وحدها مسؤولية الهجمة الإسرائيلية، بل ان تلك الحملة تأتي في سياق طبيعي لحالة القتال لتحقيق ثلاثة أهداف كما ذكرنا:
1- حسم المعركة مع الفلسطينيين.
2- جر الفلسطينيين الى المفاوضات في حالة استسلام.
3- ترميم قوة الردع الإسرائيلية.
فهل نجحت اسرائيل في تحقيق أي من تلك الأهداف؟
العمليات التي استؤنفت، خصوصاً في داخل اسرائيل، أثبتت أن أي من تلك الأهداف لم تستطع الحملة الإسرائيلية تحقيقها وهذا ما اعترفت به نائبة وزير الدفاع الإسرائيلي "داليا فيلوسوف" حين قالت: "إن حملة السور الواقي لم تستطع إنهاء العمليات". وفي خلاصة سياسية هامة قالت: "إن أي عمل عسكري لا يمكن أن يحقق نتائج بدون عمل سياسي" (راديو اسرائيل، برامج هذا الصباح، 20/5/2002 ).
رغم ذلك لا يمكن تجاهل حجم الخسارة الفلسطينية التي كادت تقترب حد الهزيمة، بناء على الحملة الإسرائيلية، وبدا في لحظة من اللحظات أن حكومة شارون تتجه للقضاء على السلطة الفلسطينية بعد تدمير مقراتها الأمنية والعسكرية ومحاصرة رئيسها في ما تبقى من مقره في رام الله، وكان تدمير السلطة يعني ما هو أبعد من تدمير المؤسسة الفلسطينية، بل يتعدى ذلك ليصل الى النيل من الأهداف الوطنية. فعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن السلطة من فساد، وتداخل للسلطات، وحالة التسيب وغياب القانون، والإعتداء على المال العام وغير ذلك، الا انها انجاز اساسي فلسطيني، كتعبير عن بداية الاستقلال الفلسطيني، وممثل شرعي للأهداف الوطنية والقضية الفلسطينية. فلو أن مغامرة الحكومة الإسرائيلية انتهت بالقضاء على السلطة فهذا يعني عودة للمربع الأول، بما يمثله من سحب إعتراف بالمناطق الفلسطينية. وخطورة ذلك أنه لم يكن ليتم دون موافقة دولية.
لكن توقف المغامرة الإسرائيلية إلى ذلك الحد، بالرغم من حجم الأضرار الكارثية التي لحقت ببنية المقاومة والمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، يعني عددا من الحقائق التي فرضت نفسها في العقد الأخير من العلاقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وأولها أن السلطة أصبحت أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه، حتى بالنسبة لأولئك المنادين بالقضاء عليها. وثانياً أنه لا يمكن العودة لإحتلال المناطق حتى لليمين المتطرف المنادي بأرض اسرائيل الكبرى الممثل بالحكومة التي قادت عملية اقتحام مدن الضفة الغربية.
هل أخطأ الفلسطينيون؟
هذا السؤال من الطبيعي أن يفرض نفسه حين نراجع نتائج عملية إقتحام الضفة الغربية، ونحسب ثمن الخسائر في جانبنا. الإنتصار يغطي على كل شيء، كما يقولون، لكن الهزيمة تفتح تساؤلا لا حصر لها، وهذه حالة طبيعية في حال البحث عن المنتصر والمهزوم ميدانياً في العملية الأخيرة. فمن الواضح أن الطرف الإسرائيلي بدأ يتصرف كالمنتصر، فيما القيادة الفلسطينية عكس ذلك. وكأن حملة السور الواقي هي المعركة النهائية التي حسمت الانتفاضة، على الرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك. وبإعتراف قادة إسرائيل أنفسهم، فقد بدا الإسرائيليون أكثر تصلباً بمواقفهم وشروطهم، فيما القيادة الفلسطينية اضطرت للتنازل وقد تمثل ذلك في صفقتي معتقلي المقاطعة، ومحاصري الكنيسة، والإستجابة لشروط شارون بإصلاح السلطة على الرغم من أن الإصلاح كان مطلباً فلسطينياً طوال السنوات الماضية باعتباره شرطاً للصمود، إلا أن النداءات الفلسطينية من كل المؤسسات الوطنية والفصائل والقوى الوطنية والأحزاب ذهبت كأنها أصوات صارخة في البرية، بل تم التشكيك فيها خلال الانتفاضة باعتبارها "لا تمثل أولوية وطنية" وتأتي على حساب مقارعة الإحتلال.
الآن فجأة تصبح الإصلاحات أولوية وطنية. ومن المفارقة أن تأتي منسجمة مع اشتراطات شارون وبوش وأركان الإدارة الأميركية.
وهنا تثار التساؤلات المريرة، كيف وصلنا إلى هذه الحالة المتخمة بالفساد دون أن نحاول تنظيف بيتنا الداخلي ونحن نخوض صراعاً مع الإحتلال لا يحتمل ترف الفساد، وأن ذلك ينتقص من قدرة الشعب والقيادة على الصمود؟ وكيف توافق القيادة الفلسطينية أن يأتي مطلب الإصلاح من الخارج ليصبح شارون وبوش الثنائي الذي يخوض الحرب ضدنا يصبحان "المسيح المنتظر" للشعب الفلسطيني باشتراطهما اجراء الاصلاح " ولا أبالغ بذلك، بل كنت متهماً بسماع العديد من آراء المواطنين والنخب قبل كتابة المقال"؟ ألا يعني ذلك تباعداً بين القيادة والشعب وأن ذلك غياب لأهم شروط الإنتصار؟
القيادة عليها أن تلتقط اللحظة التاريخية، وليس الإنتظار على قارعة الطريق، فقد مثل شهر مارس (اذار) الماضي ذروة الإنتصارات الفلسطينية ميدانياً أحدث الفلسطينيون خلالها العديد من الاختراقات المدهشة. فقد تمكن فلسطيني وحيد ببندقية قديمة من قتل عشرة جنود على أحد الحواجز العسكرية للإحتلال في الضفة، وهذه رسالة مهمة، بحيث أننا لا نحتاج الى "كارين ايه" أو ترسانة عسكرية ضخمة لمقاومة الإحتلال، وتمكن مقاتلون في قطاع غزة في نفس الشهر من تدمير دبابة ميركافاة للمرة الثانية في ضربة لأسطورة الميركافاة، بالإضافة للعديد من العمليات داخل اراضي 48، وما مثلته من إخفاق وعجز للأمن الإسرائيلي. وقد حصد شهر آذار 133 قتيلاً اسرائيلياً وأكثر من 700 جريح.
في ذروة تلك الإنتصارات الميدانية كان على القيادة الفلسطينية أن تعلن وقف إطلاق النار، بالإتفاق مع القوى والفصائل ، واستعدادها للدخول في مفاوضات سياسية، وذلك لسببين: أولهما: إن الذهاب الى المفاوضات في حالة كتلك، يعني الإحتفاظ بعنصر الردع، وبإعتبار أن الحرب استمرار للسياسة، فإن ما تحقق ميدانياً سيعكس نفسه على الطاولة. وثانيها كان على القيادة أن تدرك أن هذا المستوى من الدم لا يمكن أن يكون مقبولاً على إسرائيل، وبالتالي ستنتقل المعركة الى جانب المواجهة المباشرة التي تسجل لإسرائيل تفوقها النوعي خلالها. والأهم أن أي حملة اسرائيلية ستكون مدعومة دولياً، خاصة أن هناك عدداً كبيرا من قتلى اسرائيل قتلوا خلال عمليات تفجير داخل مدن اسرائيل.
وقامت إسرائيل بحملتها الشرسة، ليس فقط بسبب حجم قتلاها، بل ولأسباب عديدة ذكرناها سابقاً، بالإضافة لمحاولة كسر التوازن الذي أصبح في شهر ما قبل الحملة لصالح الطرف الفلسطيني، وبالتالي انتقلت المعركة الى مستوى من القتال كان متوقعاً في ظل حالة المراوحة، وبدت إسرائيل كأنها انتصرت بحجم الضرر الذي ألحقته بالمقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى اشتراط اجراء جملة من التغييرات والإصلاحات في السلطة الفلسطينية.
ولكن هل انتصرت اسرائيل؟
لم يكن أحد ليشك في قدرة إسرائيل على اقتحام المناطق الفلسطينية وإعادة احتلالها. فالحرب بين الفلسطينيين والاسرائيلين لم تكن حرباً كلاسيكية: دبابة مقابل دبابة، وطائرة مقابل أخرى، وقوات بحرية تتقابل في عرض البحار. فلو كان الأمر كذلك لكانت الحرب قد حسمت منذ عقود، لكن طابعها الدائر يأخذ شكلاً آخر يدركه الفلسطينيون جيداً وفقاً لقوانين الحروب ايضاً "فالحرب صراع ارادات" ففيما يتسلح الفلسطينيون بإرادتهم وصمودهم، الذي ضرب أمثلة رائعة في مخيم جنين والبلدة القديمة بنابلس، يقف الإسرائيليون خلف ترسانتهم العسكرية معتقدين أنها الحل الوحيد لجميع مشاكل دولتهم دون البحث عن آفاق سياسية، ما يجعل الكثير من المراقبين يصفون اسرائيل بدولة العسكر، وحكوماتها بحكومات الجنرالات وهذه في الحقيقة أزمة إسرائيل الدائمة رؤية الأمور من منظار الدبابة.
"من الممكن أن يهزم السلاح، لكن إذا هزمت الإرادة فتلك هي النهاية" قالها أحد المؤرخين وهو يراجع تجربة فرنسا حين غزتها القوات النازية. ففيما اعتبر المارشال "بيتان" هزيمة السلاح الفرنسي هو هزيمة للإرادة الفرنسية وهو النهاية، كان ديغول بطل التحرير ممثلاً لإرادة فرنسا الحرة التي لم تهزم وانتهت الحرب بنهاية المحتل النازي.
لم يدخل الفلسطينيون حرباً عسكرية لتحدد نتائجها عملية السور الواقي لنقول أن السلاح الفلسطيني هزم، فالفلسطينيون عزل في حقيقة الأمر، وبالتالي ليس هناك انتصار إسرائيلي فعلي، وإن أراد الجيش الإسرائيلي تصوير الأمر كذلك، في محاولة للبحث عن انتصار لن يجده عند شعب يتطلع للإستقلال، ولن يدرك الإسرائيليون أن أعتى قوة عسكرية لن تستطيع الانتصار على شعب مصمم على التحرر، ويمتلك من الإرادة ما لن تستطع القوة العسكرية قهرها، لكن الأهم ألا تتحول نتائج عملية السور الواقي إلى هزيمة سياسية لدى القيادة الفلسطينية، لأن خصوصية الحالة، وتعقيد الصراع مع إسرائيل لا يحتمل من السلاح الإسرائيلي أن يكون قادراً على جني ثمار سياسية. ومن هنا يبدو مستغرباً سلوك القيادة الفلسطينية التي تصرفت بعد الحملة الإسرائيلية وكأن الشعب قد هزم، وأن تلك الحملة قد حسمت الحرب لصالح إسرائيل.
صوت الوطن العدد 84 حزيران 2002