|
الشعوب العربية ومعضلة رجال الدين
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن-العدد: 2982 - 2010 / 4 / 21 - 22:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا أشك لحظة واحدة في أن رجال الدين الإسلامي في عالمنا العربي المنكوب بمصائب لا حصر لها هم إحداها ،يعانون من أزمة ضمير لابد أنها تؤرق منامهم .
فهم يرون شعوبهم ( ذات الأغلبية المسلمة ) تعاني من كل صنوف الظلم والامتهان والسلب والنهب والفقر والبؤس من جانب السلطات الحاكمة وطبقة محدودة من المقربين والمحظيين ومع هذا فإنهم مستمرون في التعامي عما يحدث ولعب دورهم في إضفاء المشروعية على نظم الحكم واستخدام الدين لتبرير الاستبداد والديكتاتورية وتخدير الشعوب بالأوهام والوعود والآمال الكاذبة .
لم ولن نرى أي من الأئمة الكبار أو حتى الصغار يظهر على شاشة أي تليفزيون أو منبر عربي ليقول أن الديكتاتورية حرام أو إن الفساد ونهب المال العام وعدم احترام القانون من المنكرات والفواحش. لم نرى أو نسمع أي من قيادات دور الإفتاء في العالم العربي يفتي في مثل هذه "الصغائر" فهم مشغولون بكبائر الأمور مثل حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان وكيفية وضع إصبع القدم اليمنى الكبير أثناء السجود ودعاء دخول الحمام ودعاء الخروج منه سالماَ وهكذا أمور .
والأنكى من هذا إنه عند اضطرارهم للإفتاء في الأمور الكبيرة لدينا والصغيرة لديهم فإنهم يفتون بما يضر وبما يعقد حياتنا أكثر وأكثر ،فقد أفتى أحدهم منذ فترة بأنه لا توجد عقوبة في الإسلام لنهب المال العام وذلك لشبهة التملك بمعنى أن ناهب المال العام يسرق شيئاَ هو مالك له مع آخرين ولذلك لا تجوز إقامة الحد عليه ومن ثم فإنه يمكنك أن تسرق بالملايين في المال العام ، ولكن لا يجوز لك سرقة برتقالة لأن الحد سوف يقام عليك .
وهناك فتوة شهيرة بأن الديمقراطية بدعة غربية محرمة وأن الإسلام لا يعرف إلا الشورى ، والشورى كما يعرف الجميع هي أن يستشير الحاكم من يتوسم فيه الأمانة والرأي الصائب والمعرفة ،والشورى بهذا مسلك حسن ومتحضر ولكن مشكلتنا في العالم العربي أن الحكام الذين يحكمون بالشورى يستخدمونها كواجهة ديكورية فقط ،إذ أن الشورى ليس لديها عندهم أي إلزام قانوني ، بمعنى أن الحاكم غير ملزم بإتباع نصيحة من يستشيره ،والأكثر من هذا أن الحاكم غالباَ ما يقوم باستشارة من يوافقه الرأي دون سواه ومن ثم فإن مجالس الشورى يتم تعيين غالبية أعضائها وحتى من ينتخب منهم لابد أن يحصل على موافقة رسمية مسبقة قبل دخوله الانتخابات . ومرة أخرى فإن أغلبية الأئمة تفتي بحرمانية الديمقراطية ويقرون بالشورى دون أن يضعوا لها أي ضوابط قانونية أو أخلاقية ،ونحن نقول لهم ببساطة أن ما نريده هو أن يكون لنا كشعب رأي في القرارات المصيرية التي يتخذها الحكام والتي تمس حياتنا وحياة أبناءنا من بعدنا و أن نتمتع بحرية التعبير وأن نختار ممثلينا في البرلمان في ظل انتخابات نزيهة وأن يطبق القانون على الجميع بشكل عادل وأن يخضع الحاكم للمسألة أمام نواب الشعب المنتخبون انتخابا حرا وأن يكون لدينا تداول للسلطة كما يحدث في الغرب .
ولكم أيها الأئمة أن تدرجوا هذه المطالب تحت أي مسمى ديمقراطية .. شورى .. تعددية أي مسمى طالما أن جوهر ما ننشده هو ما أوضحناه .
وإليكم مثالاَ حديثاَ من تجليات أئمتنا ، فمنذ أيام صلى د. محمد البرادعي المرشح المحتمل للرئاسة في مصر صلاة الجمعة خلف أحد أئمة الحكومة فكان موضوع خطبة الأخير هو وجوب طاعة أولي الآمر ( الحاكم ) وعدم الخروج عليهم ! !
والإمام المتملق بهذا يعلن بشكل واضح ودون أدنى حياء أنه عميل للسلطة ومؤيداَ لكل أشكال الاستبداد والفساد في مصر وإن كل الإصلاحات التي يدعو إليها البرادعي تندرج تحت بند المحرمات لأنها ضد رغبة الحاكم .
والسؤال هل تمكن الجهل وعمى البصيرة من هذا الإمام ( وهو نموذج لحال الأئمة في عالمنا العربي ) إلى درجة أنه أصبح لا يرى معاناة الناس وتدهور حال البلاد ؟ . لا يمكن بالطبع التماس أي عذر لهذا الإمام وافتراض أنه جاهل بأحوال مجتمعه لأن الفساد يمرح في كل ربوع مصر دون أدنى حياء أو حذر ، أم إنه يعلم ويعي كل شئ (وهذا هو الأرجح ) ولكنه مغلوب على أمره أمام جبروت الحكومة والخوف من الحرمان من العلاوة السنوية ؟
و لو أننا سألنا هذا الإمام المسكين أن يبرر خطابه المتخاذل ومحاولته البائسة دفع المصلين إلى عدم تأييد البرادعي لأجابك بأنه لا يجوز الخروج على الحاكم المسلم حتى ولو كان فاسدا لأن الفساد أهون من الفوضى التي قد ( وأقول قد ) يحدثها إعلان العصيان المدني! وبهذا يفترض أئمتنا أننا لن ننضج أبدا وأن العصيان المدني لن يؤدي إلى فرض مطالبنا الإصلاحية على الحكام المستبدين والفاسدين بل سيؤدي فقط إلى الفوضى ومن ثم فليس أمامنا من بديل لإصلاح أوضاعنا المتردية سوى الالتزام بنهج السلف الصالح بالدعاء للحكام المستبدين بالصلاح والصبر عليهم كما يفتينا هؤلاء الأئمة.
وبالمناسبة فإن هذه النوعية من الأئمة مسلحون دائماَ بكل صنوف الآيات والأحاديث التي تبرر الشيء ونقيضه إذا لزم الآمر وهم بهذا يتجاهلون عمداَ روح وجوهر النصوص المقدسة، فهل يعقل أن يأمرنا الله بطاعة الحكام طاعة عمياء حتى ولو كانوا فاسدين ومستبدين؟ ألم يقرأ هذا الإمام تاريخ الخلافة الإسلامية والصراعات الدموية التي دارت بين الخليفة عثمان بن عفان (ذو النورين ) وبين آل النبي والتي انتهت بمقتل عثمان بسبب اتهامه بالمحسوبية حتى أن السيدة عائشة نفسها حرضت على قتله ؟ أين كانت طاعة الحاكم وقتها يا مولانا ؟! يمكنني أن أضرب المزيد من الأمثلة من تاريخنا القديم و الحديث عن ثورات ضد حكام ظالمين و فاسدين.
الإشكالية الأخرى تتمثل في القناعة الأبدية السائدة لدى أغلبية الشارع العربي في أن طاعتهم والتزامهم بتعاليم الأئمة ورجال الدين هي الطريق للخلاص من الاستبداد وتحقيق الإصلاحات المنشودة والمأمولة والخروج من حالة التخلف الاقتصادي والسياسي والعلمي ......الخ ،والجماهير العربية بهذا تثبت أنها لم تتعلم شيئاَ من تاريخ طويل من الرهانات الخائبة على رجال الدين منذ زمن الخلافة الأموية والعباسية ومروراَ بالدولة العثمانية وحتى تاريخنا المعاصر فقد كان دور رجال الدين في الغالب هو إصباغ المشروعية على النظم الحاكمة واستخدام الدين كأداة لتخدير الشعوب وإخضاعها لإرادة الحاكم مقابل العطايا والامتيازات،ولأن لكل قاعدة استثناء فإن الأمانة تقتضي ذكر أن تاريخنا شهد بعض رجال الدين المخلصين والعظماء أمثال الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وغيرهم ولكنهم كانوا دائماَ أصوات استثنائية لم تلبث أن ضاعت وسط التيارات الأصولية والسلفية التي سادت وانتصرت في النهاية لما تحظى به من هوى وجاذبية لدى شعوب أنهكها الفقر والظلم ولم تعد دعاوي الإصلاح تثير اهتمامها بقدر ما تثيره التيارات السلفية التي تعدهم بحياة أخروية أفضل كثيرا من حياتهم الدنيا .
ينبغي هنا أن نعترف أن للدين مكانة كبيرة في نفوسنا بالعالم العربي (مسلمين ومسيحيين ) وهذا هو سر قوة رجال الدين لدينا ولكن ينبغي أن نلاحظ أيضاَ أن الدين بدأ يتحول إلى أداة قمعية مخيفة في يد رجال الدين ،فما أسهل أن يشهر سلاح التكفير في وجهك لمجرد عدم اتفاقك معهم في الرأي .
كما ينبغي أن نعي أن مشكلة الاستبداد لدينا في العالم العربي ذات جذور عميقة في نفوسنا ولن يكون من السهل اجتثاثها بعد أن لاحظنا أن راعيها الأول هم رجال الدين أنفسهم ،ولعلنا نتذكر أن عصر النهضة الفكرية العربية في أوائل القرن العشرين وحتى قيام ثورة يوليو سنة 1952 شهد كل أنواع الحداثة الفكرية العالمية مثل الحركات الدينية المستنيرة والتيارات الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والقومية وهي التي أدت إلى تحرر كل الدول العربية، وكان من المفترض أن يستمر زخم هذه الحداثة وأن نلحق بأوروبا ولكن كان قدرنا في مصر أن يحيد بنا عبد الناصر إلى طريق الاستبداد والديكتاتورية ومن ورائه كل الدول العربية .
وعبد الناصر بهذا ودون أن يشعر خلق البيئة الحاضنة لعودة الأصولية الدينية التي تنمو وتزدهر عادة في أجواء الاستبداد وهي لازالت تنمو بشكل حثيث في كل عالمنا العربي، وهذا حديث آخر .
والخلاصة أن شعوبنا العربية محاصرة بإحكام من كل الجهات، فهناك حكامنا ومعهم كل الأجهزة الأمنية والتنفيذية والتشريعية والإعلامية وحتى القضائية ،وهناك رجال الدين بعتادهم الديني وسلاح التكفير وتحالفهم مع السلطة الحاكمة وهناك الغرب الذي يتحدث كثيراَ عن حقوق الإنسان عندما يغضب من أحد الأنظمة العربية ولكنه سرعان ما يتغاضى عن حقوق الإنسان العربي فور عودة هذا النظام إلى الانبطاح من جديد .
وأخيراَ فهناك الحصار التاريخي من داخل أنفسنا والمتمثل في فهمنا الخاطئ للدين واستكانتنا وانتظارنا لمخلص معجز يأتي لنا بحقوقنا خالصة ونحن في سباتنا مستغرقون.
رحمك الله يا شوقي عندما قلت :
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
#محمود_يوسف_بكير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البرادعي والسفيرة الأمريكية
-
الاقتصاد والعولمة
-
البقاء للأقذر
-
ذكريات حب الطفولة
-
البرادعي و الإخوان المسلمون
-
خناقة على من يركب الحمار
-
هل يمكن أن يأتي الإصلاح في مصر من الداخل؟
-
نصيحة مخلصة إلى الإخوان المسلمين
-
مقدمة في الغدر والتملق عند العرب
-
حقيقة دور المضاربين وأزمة النظام الرأسمالي
-
الإسلام ما بين التقدم والتخلف
المزيد.....
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|