أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - يوم في مستشفى عمومي















المزيد.....

يوم في مستشفى عمومي


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2979 - 2010 / 4 / 18 - 19:24
المحور: المجتمع المدني
    


لم يكن غريبا علي وأنا انتظر ضمن طابور طويل ، نتيجة لاحدى الفحوص الطبية المطلوبة مني لاتمام بعض الاجراءات الرسميه .. فالانتظار ولساعات طويله ، هو قدر تعودنا عليه نحن سكان هذا الجزء من العالم ، ونلتزم به راغبين أو مرغمين ، كلما تجرأنا للقيام بمراجعة دائرة من دوائر الدوله .. وكان زمن الانتظار الطويل حينها ، قد وضع امامي وكالعاده ، فرصة إطلاق العنان لافكاري المتلاطمه ، وأنا أرقب ما يجري من حولي من نشاط مصدره حركة كثيفة لفتيات لا زلن في عمر الصبا .. وعلى ما يبدو فإن مبعث ذلك التواجد لهذا الكم الكبير من الفتيات ، هو وجود امتحان من نوع ما ، يجري لهن في تلك المؤسسة الصحية العامه ..

المكان باعتباره مستشفى حكومي عام ، كان يسمح للمرء بالتجول في داخله دون حرج ، الامر الذي سهل علي حركتي بين أروقته كلما شعرت بالملل من وقوفي متسمرا في الطابور .. وكان جزء من رغبتي بالتحرك ، هو حب الاطلاع ورصد حركة الناس ، واكتساب المعرفة المضافة عن طباعهم وتأثير المحيط على سلوكهم العام والخاص .

حاولت ان اكتشف ذلك النزاع الأزلي بين طبيعة الانسان التي تنزع للحرية وعدم التكلف ، وبين ما يؤطر سلوكه الظاهر من نفاق في الشكل والحركة وإبداء ردود الافعال .. لقد كانت جميع الصبايا وعلى اختلاف اعمارهن محجبات وبطريقة توحي بتزمت الاهل والمجتمع ، ويتحركن في ممرات المستشفى وكأن هناك ثمة من يدير خطواتهن بجهاز ريموت بعيد المدى ، يجعل من خطواتهن شبيهة ببعضها البعض ، لتأتي بوقع واحد ونسق متشابه .. لقد تخيلت بان كل واحدة من تلكم الصبايا ، تحمل على رأسها هيكل مصنوع من الفخار ، تخشى ان يسقط ويتهشم لو إهتز جسدها بغير النسق المرسوم له .

حركة السيقان واحده ، وصوت اصطدام كعب الحذاء بالبلاط واحد ، والتكشيرة التي تضعها كل منهن على محياها كجزء من الدفاع عن النفس هي الاخرى واحده ، حتى تلكم الضربات الرقيقة من اقلام التزيين على الشفاه والرموش ، وطلاءات البودرة والدهون على الخدود ، تبدو من نفس الفصيلة ..

البعض منهن حضرت معهن أمهاتهن ، ولم أجد في الامهات المرافقات غير ذات الترقب المشبع بالخوف من مجهول قد يحدث في أية لحظه .. لقد كن يترصدن اية حركة مشوبة بنوايا سيئه قد تطال بناتهن ، للتحرك صوب اتخاذ ما يلزم ..

ثمة نساء أجنبيات كن يمررن من أمامي بخفة متناهيه .. تطغي على كيان كل واحدة منهن ملامح الثقة بالنفس .. يرتدين أحذية جميعها بلا كعوب .. ولم اسمع لخطواتهن المتسمة بالخفة والسرعة لبلوغ الهدف المقصود أية أصوات متميزه .. إنهن يتحركن بوجوه لا تحمل من التبرج غير المطلوب لاظهار الحسن المقبول ، وتبدو كل واحدة منهن وقد أزاحت الخوف برمته من نفسها رغم أنها في بلد غريب .

ما جلب انتباهي ، هو أن جميع وجوه الذكور من المراجعين كانت هي الاخرى متوثبة للقتال .. فهي متجهمة نزعت عنها كل ماله علاقة برطوبة الحياة ، فبدت جافة لا تعكس غير ملامح الحدة في الطبع وعدم تقبل الآخر .. وقطع علي استرسالي في عملية التصوير الذهني اللذيذ ، مرور احدهم بثيابه القصيره ولحيته الكثة المسترسلة على صدره ، وهو يجرف ما يحيط به من هواء ، ليسألني وكأنني من جبهة المحاربين في صفوف العدو .. أين قسم المختبر ؟ .. فأشرت عليه برأسي بأنني لا اعلم ، حيث كنت متوجس من أمر احتمال ان تكون اجابتي غير مقبوله ، فأتلقى حينها ما لا يرضيني .

الساعة قد بلغت العاشرة والنصف صباحا ، والموظفة المكلفة باستلام معاملات المراجعين لم تحضر بعد ، رغم ان شباكها مفتوح منذ الساعة الثامنة وهو موعد بدء الدوام الرسمي .. شعرت بحاجتي للذهاب الى الحمام .. فطاب لي ان استفسر من أحد الموظفين عن وجود حمام للرجال في المستشفى ، وكان مارا بالقرب مني وكل ما عليه من علامات توحي بان حربا وشيكة ستقوم بعد دقائق ، جرفني بصدريته البيضاء وهو يرمقني بحدة وكأنني شتمته .. واختفى من أمامي وسط الزحام .

الموظفة المختصة لا تريد ان تحضر .. وليس من أحد من المنتظرين أبدى تذمرا أو مناشدة ما لحضورها .. وقد يكون الخوف أيضا هو مدعاة لذلك السكوت .. من يدري ؟.. فلربما سيكون مصير من يبدي ما بنفسه من تذمر، هو تاخير معاملته والى أجل غير مسمى .

الصبايا لا زلن يتحركن من حولي كأجهزة روبوت معدنيه .. ونظرات الجائعين من الذكور تتعقبهن بشره واضح .. البعض منهن أمعنت في ارتداء ملابس ضيقه تظهر مفاتن الجسد ، لتثير شهية الناظرين بحكم الفطرة الانسانية المجردة من أية تبعات خبيثه .. وكلا الطرفين .. الذكور والاناث .. يتصرفون حيال بعضهم البعض من خلال نظرات مليئة بالتوسل ، في ان يزاح ذلك الجدار المعيق للتواصل بينهما ، مع قناعتهما التامة ، بان ذلك مستحيل .

حين أخذتني أقدامي الى الحديقة الخلفية للمستشفى ، انتابني شعور بالحرج ، حيث وجدت نفسي وسط مجموعة من الفتيات وقد انزوت كل واحدة منهن تحت شجرة ، تتحدث همسا في هاتفها النقال مع طرف آخر ، من المؤكد انه حبيب او عشيق .. ومن مررت بالقرب منها ، لاحت لي تلك الالوان القرمزية المثيرة ، والتي تصطبغ بها وجناتها ، وهي تجمع مشاعر العشق في دنياها الواسعه ، لتبثها كلمات ندية عبر الهاتف لمن لا تستطيع اللقاء به كما تريد .

إنه صراع مدمر .. صراع يتخذ شكلا ليس له حدود بعينها .. يذكرني بتلكم الصور الاكثر وضوحا حينما يقدر لي الانفراد بعوالم اخرى تسوقني لها الصدفة ، حيث أجد نفسي وسط محيط ينضح بالتحدي الصارخ لكل ما هو آسن من التقاليد ، تحديا قويا ينبيء بحدوث طوفان رهيب ، يجعل حرص الاباء والامهات وكافة المؤمنين الاتقياء من حملة الفكر السلفي المتيقظ ، في مهب الريح .. إنهم شباب وشابات في عمر الزهور .. يرتشفون ما تهوى نفوسهم من رحيق المراهقة وبطريقتهم الخاصه ، أجساد غضة متهالكة من قسوة الحرمان ، أخذت نصيبها مما ترغب به من حياة رغم انوف الجميع .. وكسرت حواجز الخوف دون ان تعيقها عن مسالكها الانسانية كل عصي الأب أو الآخ أو الأم .. كم أتمنى حينها ان احمل آلة موسيقية ، وأقف على ربوة مرتفعة لأعزف ما أصادفه في طريقي من عشاق ، ألحانا يسطر نوتاتها ملائكة السماء ..

إقتحم عالمي الصغير مرة اخرى ذلك الرجل الملتحي ، وهو يمر من أمامي كالطلق ، يسحب مداسه بخفة متناهيه ، وعيونه تبحلق بقوة فيما حوله ، رأسه يهتز متناغما مع حركة ساقيه ، وقد خيل إلي حينها بانه قد يعود لي ليلطمني على وجهي ، لكوني لم أدله على ما يريد .

لقد شعرت وأنا اجلس في زاوية بعيدة من حديقة المستشفى ، بأن هذا العالم المتحرك من حولي بما يحمله من تناقضات صارخه .. هو اللوحة العاكسة لجميع أطياف المشكلة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في بلداننا دون استثناء .. إنه تناقض يفضي إلى اضطراب في السلوك ، مرده ذلك الاختلاف المريع بين الاحاسيس الانسانية الامينة مع منطلقاتها داخل العقل والبدن ، وبين ما تواجهه تلك القناعات من مصدات كارثية النتائج ، تحاول ان تميت في الروح البشرية كل ما من شأنه أن يقوم السلوك ، ويدفع به نحو البناء الاجتماعي السليم .

طرق سمعي صوت هرج شديد أوحى لي بأن الفرج قد حل ، وهرعت الى حيث مكاني في الطابور ، فوجدت خليطا من اجساد بشرية يقفز أحدهم فوق ظهر الاخر ، وما أن دنوت من وسط الحشد حتى رفعتني الموجة لأصبح كمن تزعم مظاهرة في عرض الشارع ، مرفوعا الى الاعلى أترنح فوق الرؤوس ، لمحت موظفا خلف الشباك ، ولم تكن موظفه كما أشيع .. مددت رقبتي واذرعي مخافة ان تفوت الفرصة ، وتلقي بي جماهير المظاهرة متخلية عن زعامتي لها .. ترحم علي الموظف فامسك بورقة الايصال التي بحوزتي والتي تثبت وجود معاملتي لديه ، قذف بالورقة في الهواء كاعلان منه بان المعاملة لم تنتهي بعد ، حينها شعرت بجسدي محشور بين كتل راحت تعيدني عكس ما أريد ، وحينما أفلحت بالخروج من سجني ، بقيت حقيبتي مودعة وسط الحشد لا يريد احد ان يسمح لي باخراجها من هناك .. جمعت كل ما في داخلي من فروسية عربية تعيدني الى أمجاد أجدادي الميامين ، وانقلبت الى واحد من الركب ، لدي الاستعداد أن أرفس كل شيء ، حينها فقط تمكنت من تحرير نفسي من بين الجموع ، وتسللت إلى الخارج منفوش الشعر يتدلى قميصي من وسطي ، وانا اسمع صوت الموظف وهو يصرخ بالجموع ، متبرعا لها بكل كلمات الشرق البذيئه .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أين نحن من توقعات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجي ...
- ألفرات وقربان المدينه .. ( قصة قصيره )
- مشاوير شخصيه ، في ثنايا الماضي .
- حينما تصر الجماهير على رفض مسببات خلاصها .. أين الحل ؟ .
- أعمارنا ليست عزيزة علينا ، وحربنا معها مستمره .
- لماذا هذا الإهمال المتعمد للكفاءات العراقية المهاجره ؟؟ .
- ألواقع الاجتماعي العربي .. بين ثورة الجسد والعقل ، وعبثية رد ...
- أفكار مهشمه !
- أليسار في دول العالم العربي ، ومقاومة التجديد .
- من ذاكرة الحرب المجنونه
- بعيدا عن رحاب التنظير السياسي .. 2
- ألحريه .. حينما تولد ميته .
- الزمن العربي .. وسوء التسويق
- حلوى التمر
- سلام على المرأة في يومها الأغر
- مراكز نشر الوعي في الوطن العربي .. الى أين ؟
- بغداد ... متى يتحرك في أركانها الفرح من جديد ؟
- أفكار تلامس ما نحن فيه من أزمه
- نحن والتاريخ
- بعيدا عن رحاب التنظير السياسي


المزيد.....




- الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة
- 11800 حالة اعتقال في الضفة والقدس منذ 7 أكتوبر الماضي
- كاميرا العالم توثّق معاناة النازحين بالبقاع مع قدوم فصل الشت ...
- خبير قانوني إسرائيلي: مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت ستوسع ال ...
- صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق ...
- أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
- كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ ...
- مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
- ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم ...
- كاميرا العالم توثّق تفاقم معاناة النازحين جرّاء أمطار وبرد ا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - يوم في مستشفى عمومي