|
الإنسان... المستحيل الوجود
سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر
(Sohel Bahjat)
الحوار المتمدن-العدد: 2977 - 2010 / 4 / 16 - 14:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يبدأ المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في نقد العلمانيين فيما يسميه (العالم العربي)، إذ يقول في الكتاب الذي ألفه مناصفة مع الدكتور عزيز العظمة: "و من الواضح أن هذه الصفات كلها لها علاقة بالجوانب النهائية لحياة الإنسان، و تحاول أن تقدم إجابة كلّيّة، و هي أيضا تلمح إلى أن الفلسفة التي ترتكز إليها العلمانية هي الفلسفة المادية. النمط نفسه (العلمانية باعتبارها إجراء جزئيا لا علاقة له بالأمور النهائية، في مقابل العلمانية باعتبارها رؤية شاملة للكون، و التأرجح بينهما أحيانا) نجده في الكتابات العربية.." العلمانية تحت المجهر ـ ص 63 و من ثم يورد تعريف الدكتور محمد أحمد خلف الله للعلمانية بأنها: "حركة فصل السلطة السياسية و التنفيذية، عن السلطة الدّينية، و ليست فصل الدين عن الدولة، و لا تمنع حركة الفصل هذه من أن تعمل السلطتان جنبا إلى جنب في الحياة، إن الواحدة منهما لن تحل محل الأخرى أو تلغيها، و إنما تعمل حرة مستقلة من غير أن تتأثر بالأخرى أو تؤثر فيها". و نحن نتفق مع المسيري هنا في أن هذا التعريف غير قابل للتصور في أن نخبة الحكم تستطيع تسيير أمور الدولة و هي لا تؤمن بما يؤمن به الشعب، و لكننا نعترض أيضا في اعتبار أن للدّين "سلطة" لأن السلطة بحد ذاتها تعني هيمنة و نفوذا و هو ما يتناقض مع النظام العلماني الذي يمنح كل السلطات للدولة بينما الدين يتساوى مع قرائنه الفكرية و الاجتماعية، و هنا فإن من غير الواقعي خلق مؤسسة في أي دولة إسلامية تشبه مؤسسات "الفاتيكان" لأن لا وجود لمعصوم الآن لا في المذهب السّنّي و لا الشّيعي، و يبدو لي أن خلف الله هنا يجامل الحالة المصرية في وجود سلطات الأزهر إلى جانب الحكومة، يبقى أن نفسر كلمة سلطة ـ فيما يتعلق بالدّين ـ بالجوانب الخيرية و الاجتماعية و مؤسسات الإحسان التي تقوم على "التبرع الاختياري التطوعي"، ففي هذا المجال تمتلك المؤسسة الدّينية الحرية الكاملة و هو ما نشاهده واقعا في الولايات المتحدة و بريطانيا على سبيل المثال. من ثم ينتقل بنا الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى رأي المفكر حسين أمين الذي يعرّف العلمانية بأنها: "محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة، و عن المسلمات الغيبية"، و يعلق المسيري على هذا التعريف بالقول: و هو ما يعني القبول بدور المسلمات الغيبية في بعض المجالات الأخرى" ـ العلمانية تحت المجهر ص 64 إن هذا التعريف ـ المحصور في الجانب النظري دون التطبيقي ـ لا يقدم كثيرا للمجتمعات، كما أنه مجتزأ و مبتور و قابل للتأويل حتى بما يناقض العلمانية نفسها ـ كنظام لتحييد الدولة و الحرية ـ و من ثم ينتقل المسيري إلى تعريف المفكر وحيد عبد المجيد فيقول: و يذهب وحيد عبد المجيد إلى أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية أو نظاما فكريا، و إنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشؤون الدّينية (غير النهائية)، و يُميّز الدكتور وحيد عبد المجيد بين "اللا دينية" و "العلمانية"، فهو يرى أن الصراع بين الملوك و السلطة البابوية، و ظهور العلم التجريبي المنفصل عن الدين، و سيادة مفهوم سلطان العقل، هي التي أدت إلى ظهور العلمانية اللا دينية. و لكن بعد الثورة الفرنسية نحت العلمانية الغربية منحى وسطيا يختلف بوضوح عن الاتجاه اللا ديني و يدافع عن التّسامح الدّيني، و لا تقوم العلمانية بهذل المعنى المعاصر على الفصل بين الدين و الدولة كما هو شائع لدينا، و إنما على الفصل بين الكنيسة و نظام الحكم، كما لا تقيد دور الدين في المجتمع، لأنه مجتمع حر أساسه المؤسسات الخاصة، و تتمتع فيه الكنائس و المؤسسات الدّينية بإمكانات واسعة، و لذلك ظلت المسيحية نشيطة في كل الدول العلمانية، و تمارس أنشطتها الداخلية و الخارجية بلا قيود و لا يتعارض ذلك مع حرية العقل، التي هي من نتاج رسوخ الديمقراطية قبل كل شي." ـ العلمانية تحت المجهر ص 64 ـ 65 و يرى المسيري أن كل هذا لا يتعدى (العلمانية الجزئية) و بالتالي لا ترقى إلى نقد (العلمانية الشاملة) كما يصطلح هو عليه، و هذه نظرة قاصرة بلا شك، فالعلمانية هنا كنظام للحكم هي غير "الإلحادية الفلسفية" فالدولة القائمة على التبرير الديني انتهت إلى الدكتاتورية عبر إضفاء فكرة الإله أو "الله" على فكرة معيّنة لتشمل كل مجالات الحكم و بالمقابل انتهت الفلسفة "المادية الإلحادية" إلى إضفاء فكرة الله على المادة لتتحول إلى دين جديد يعادي "الدين القديم"، من هنا فالمسيري لا يفهم أو يتجاهل أن الفلسفات المادية التي تتحكم في بعض المجتمعات هي جزء من حرية التفكير و حرية استخدام العقل، بالتالي يطرح السؤال: كيف نبني دولة "علمانية" تتدخل في قناعات الناس الشخصية ؟ بينما الإسلام نفسه يؤكد على أن "الإيمان ما وقر في القلب و صدّقه العمل" و القناعة لا تنتج عن الإكراه بالتأكيد و لكن تنتج عن الحرية. و المسيري نفسه يعترف أن هذه العلمانية تسمح بوجود حيز غير علماني ـ و هذه مغالطة سنتكلم عنها ـ (مطلق ـ كلي ـ نهائي ـ غائي ـ غير مادي) يسمح بانفصال الإنسان عن الطبيعة و بإمكانية تجاوزه لها، و يترك مجالا واسعا للمطلقات (الإنسانية و الأخلاقية و الدينية)، و لفكرة الجوهر و الكليات ـ حسب تعبير المسيري ـ من هنا يعقب المسيري على تعريف فؤاد زكريا للعلمانية بأنها "الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة" بالقول: "و لكنه يلزم الصمت الكامل بخصوص مجالات الحياة الأخرى (الإقتصاد ـ الأدب ـ الجنس... إلخ)، ثم نجده في كتيبه المهم (في النموذج الأمريكي) يصف المجتمع الأمريكي بأنه "مجتمع مادي" بل من "أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر" التي تعرف الإنسان باعتباره كائنا لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، و من الأرباح، و من المستوى المادي المرتفع. و يرفض فؤاد زكريا هذه المادية العدمية التي تؤدي بالإنسان، و يضع مقابلها "القيم الإنسانية و المعنوية"، ثم يطرح رؤية للإنسان مختلفة عن الرؤية المادية التي تهيمن على المجتمع الأمريكي، فما يحرك الإنسان ـ حسب هذه الرؤية الإنسانية ـ ((ليست الماديات وحدها... لأن في الإنسان قوى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب و الاقتناء))، أي تعلو على المادية، و في تصوري أن هذه الثنائية هي التي تجعل من الإنسان إنسانا." ـ المصدر السابق ص 66 إن الانتقال العشوائي من حيز الدولة إلى الفرد و من ثم وسم مجتمعات كاملة بصفة معينة، كاتهام الأمريكيين بالمادية أو العكس، يعد إضرارا حقيقيا بعملية النقد و الانتقائية هي نوع من تعميم "الجزئي" على الكلي، و بالتالي نجد المسيري في تلك النقطة التي نقلها عن فؤاد زكريا و لاقت ترحيبا لديه فراح يعمم في أسلوب يستغبي القارئ الذكي، فالمعروف عن المجتمع الأمريكي أيضا أنه أحد أكثر المجتمعات إحسانا و عملا خيريا و من حيث التبرع للمعوزين، و إن كان الأمريكي "ماديا"!! فلماذا نجد أبناء "المجتمعات التراحمية و الروحية"!! تحلم بالعيش في أمريكا بينما لا تجد أمريكيا واحدا يفضل الجنسية الإيرانية أو السعودية أو أي جنسية "روحية" أخرى على انتمائه الأمريكي، إذا فالمسألة الروحية سهلة و في متناول اليد لأن التعبد و أداء الفرائض الدينية هي مسألة "قلب" و "عقل" و هو ما يتوفر لدى كل إنسان عاقل، لكن المشكلة لدى عبد الوهاب المسيري و فؤاد زكريا و حسن حنفي و فهمي هويدي و جلال أمين و غيرهم، هو أنهم لا يملكون تعريفا لماهية الإنسان، و سنرى كيف أن المسيري سيعتبر كل المنتج الحضاري الحديث ـ بما في ذلك الساعة و الطعام و الملبس ـ نتاجا "علمانيا ـ مؤامرة مسيحية يهودية"!! ليبقى الإنسان المثالي "العاري عن أي إضافة" و ليترك القارئ مستغرقا في البحث عن "الإنسان الملاك" المستحيل الوجود ـ خصوصا و أن الإسلام أعلن نهاية عصر الوحي ـ فهو ينتقد كل المنجز البشري، و كما قالت الكاتبة ميرا جميل ديمتريوس فإن المخترعات و الاكتشافات لا تتسم بكونها "بريطانية" أو "أمريكية" أو "عراقية" لأنها بمجرد أن تستخدم تصبح ملكا للبشرية أجمع. و هنا نجد أن المسيري و غيره من النقاد حينما ينطلقون من العلمانية كــإجراء سياسي إلى نقد مظاهر الحياة المرفهة و من خلالها إلى المادية الإلحادية (الدين بلا إله كما أحبذ أن أصفها)، يخلطون بين أكثر من مجال قابل للنقد الموضوعي المستقل، فالدين نفسه يتجسد من خلال عمل "مادّي" مثل الصلاة و الصيام و الزكاة و الصدقات و المساجد و الحسينيات و الكنائس و الحج و غيرها، و إذا كان الدين نفسه ـ بالأخص الإسلام ـ قد مزج الروح بالمادة فهو تأكيد على أن هذا العالم يقاس من خلال المادة، و الإنسان البدائي كان يبحث عن الطعام و المأوى و النار قبل أن يستقر و يبدأ بالبحث عن ماهية خالقه، إن الإنسان مزيج عجيب و مذهل من المعنويات الدّينيّة و القيمية و الماديات من شهوات و رغبات و مصالح، فالفقير الجائع أو المريض أو المشرد "كلها معاناة مادية" ينتظر من الدولة و الأغنياء و الأثرياء إشباع جوعته و شفاء مرضه و إسكانه، و كلها حلول "مادية = خيرية" تعادل العبادات و أكثر، إذا فأين ذهبت الروحانيات من كل هذه العلاقة الوثيقة بين الدين و المادة؟ إن الواقع يقول أن لا انفكاك بين الدين و المادة، و أي تجاهل لهذه الحقيقة ـ أن الإنسان هو غاية الدين نفسه لا العكس ـ سيعني إعادة الدين إلى عالم الخرافة الذي يفكك الإنسان فيفصل الروح عن الجسد. Email: [email protected]
Web: http://www.sohel-writer.i8.com
#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)
Sohel_Bahjat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
9.4 .. يوم سقوط مقتدى البعث
-
النظام العلماني و الدّين العقلاني
-
علاوي و الطائرة الأمريكية
-
المرحوم عبد الوهاب المسيري و عمى الألوان
-
محاولات في تعريف العلمانية
-
إرهاب.. تحت قناع الفلسفة
-
تطابق المصطلحات بين مقتدى و البعثيين
-
العلمانية مقدمة للحرية
-
في نقد -تطور العلمانية-
-
عادل إمام... رئيسا منتخبا لمصر
-
العلمانيّة في مواجهة المشكّكين
-
العلمانية بين السؤال العبثي و اليقين الجامد
-
سيف الخياط و استعادة الكرامة العراقية
-
العلمانية... موقف وسطي
-
نسبية الأخلاق و التدين
-
العلمانية و -الاغتراب- كضرورة
-
تجليات علمانية
-
أوهام... ما وراء فصل الدين عن الدولة حلقة ثانية
-
أوهام... ما وراء فصل الدين عن الدولة
-
كرموا سيد القمني... ثم اقتلوه
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|